1214187
1214187
إشراقات

عـلم الإحصـاء وأهميـــــته من منظــور الإسـلام

04 يناير 2018
04 يناير 2018

«الإحـصـاء» فـي القـرآن -

زهرة سليمان أوشن -

«جاء لفظ الإحصاء في آيات عديدة من القرآن الكريم ومنها ما جاء في بداية سورة الطلاق، حيث تؤدي مفردة الإحصاء هنا دورها في التأكيد على الانتباه إلى أمر شرعي هو عدة الطلاق، وهنا نتلمس إضاءات هذه المفردة القرآنية في الحث على الانتباه لتطبيق حكم الله تعالى والتزام حدوده وعدم التعدي فيها مع استحضار معيته ومراقبته في كل أمورنا».

الإحصاء، علم من علوم الرياضيات يسمى أيضا علم التعداد وله تطبيقاته الواسعة، يهتم هذا العلم بجمع وتلخيص ومن تم تمثيل وإيجاد استنتاجات من مجموعة البيانات المتوفرة لتستخدم هذه النتائج لرصد وتقويم مظاهر ومشاكل علمية أو اجتماعية.

فعلم الإحصاء مادته الأولى هو البيانات التي يتم جمعها بطرق مختلفة وفقا لمعايير علمية، لتخضع بعدها لمقاييس خاصة من التحليل والتدقيق فيها، وإيجاد العلاقات بينها وفهم المتغيرات والارتباطات والمؤشرات ومن ثم البحث عن حلول للمشكلات أو تعليل الظواهر المجتمعية والعليمة.

ويخدم علم الإحصاء العديد من العلوم مثل العلوم التطبيقية، كالفيزياء، الكيمياء، العلوم الطبية والصحية المختلفة، العلوم التكنولوجية والصناعية، العلوم الاجتماعية، علوم الاقتصاد والعلوم السياسية.

وتستفيد منه المؤسسات في صناعة القرار ووضع الخطط التنموية والتربوية والاجتماعية على الأصعدة كآفة.

ولهذا العلم جذوره الموغلة في التاريخ، فقد استخدم الإنسان منذ القدم علم الإحصاء في العديد من شؤون حياته، مثل عد سكان المدن والقرى وعد احتياجاتهم في السلم والحرب ورصد المتغيرات المختلفة في الزراعة والصناعة وغيرها، لكن لا شك أن هذا العلم قد تطور تطورا كبيرا في القرنين الأخيرين وصار له فروع عديدة وتطبيقات متنوعة، وساهم مساهمة فعالة في الثورة الصناعية والرقمية والتكنولوجية، كما ساهم في فهم التحولات الاجتماعية والتنموية والإعلامية، وكان له دوره الفعال في فهم وتحليل أسباب النهوض أو الانتكاسات للدول.

مفردة إحصاء في القرآن الكريم: في جولة تأملية حول لفظ أحصى ومشتقاته في القرآن الكريم مع إطلالة حول معاني ودلالات هذا اللفظ في سياق الآيات التي ورد فيها، ونحن في هذه الجولة لن نكتفي بالوقوف على الدلالات والمعاني، بل سنستظل في دوحة هذا التعبير القرآني الجليل ونبحر في يمه العميق، مستخلصين العبر والدروس التي ترقق القلب وترقى بالعقل لنحيا بأنوار وفي أنوار القرآن العظيم.

ورد لفظ تحصوها في خطاب يوجه الله سبحانه فيه الحديث لنا مذكرا بجليل نعمه علينا، وقد جاء هذا اللفظ في سورتين جليلتين، هما سورة إبراهيم عليه السلام وسورة النحل، والآيتان هما: (وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار)، (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم).

لنقف وقفات سريعة مع هاتين الآيتين: أولا الله تعالى يذكرنا بأننا لو استطعنا أن نعد نعمه علينا وهو أمر يكاد أن يكون مستحيلا لكثرة النعم وتنوعها، فإذا صعب علينا مجرد تعدادها فكيف نستطيع أن نحصيها، إذ الإحصاء غير العد، فالعد ترقيم للشيء دون الدخول في تفاصيله، فحتى لو استطعنا أن نعدد نعم الله علينا فأنى لنا إحصاؤها، بل إننا لا نستطيع الإحاطة بتفاصيل نعمة واحدة مما من به الله علينا ونقف عاجزين عن الغوص في كنهها وعظمتها وموافاتها ولو جزء من حقها.

ومع تشابه الآيتين فقد ختمت كل آية بما يتناسب معها في السورة التي وردت فيها، فحال الإنسان مع نعم الله عليه أنه في الأغلب ظلوم كفار ينسى فضل مولاه وينكر جليل عطائه، وحال الله معنا أنه جواد كريم يغفر ويتجاوز، يلطف ويرحم.

ومع هاتين الإشارتين في هاتين الآيتين، علينا أن نستحضر دائما فضل الله علينا وجليل نعمه وأن نسعى أن نكون من القلة الشاكرة ونستخدم نعم الله في طاعته.

ورد لفظ الإحصاء في سورة الكهف مرتين في آيتين كريمتين من هذه السورة، الأولى كانت في سياق قصة فتية الكهف الذين فروا بدينهم من بطش الجبارين إلى الكهف، لتكون معجزة نومهم لمدة 300 عام، وعندما استيقظوا حدث جدال حول زمن مبيتهم، قال تعالى: (ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا).

ولفظ أحصى هنا يعبر عن امتداد المعنى ليتجاوز مجرد العد الرقمي إلى الغوص والفهم والاعتبار بهذه المعجزة التي حدثت لهذه الفتية المؤمنة الصابرة.

الآية الأخرى في السورة ورد فيها لفظ (أحصاها)، وقد وردت في سياق الحديث عن يوم القيامة، يوم المكاشفة والمحاسبة، قال تعالى: (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا).

وهي آية مخيفة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فكتابنا الذي يرصد أعمالنا لن يترك شاردة ولا واردة إلا ويسجل كل تفاصيلها مكانا وزمانا، حركة وتفاعلا، سلبا وإيجابا، وعند تلك الوقفة وذاك العرض لن نلوم إلا أنفسنا.

وفي سياق الحديث عن يوم القيامة يرد لفظ الإحصاء في سور أخرى هي مريم، يس، المجادلة، قال تعالى: (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا، لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) ، (إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين). (إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين ، يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد).

وفي كل هذه الآيات يظهر الوعيد الشديد الذي يظهر في سياق هذه الآيات وهنا يؤدي لفظ الإحصاء دوره المميز في هذا النسق القرآني البديع، إذ تؤكد الآيات أننا كلنا سنحشر إلى رب العالمين في يوم القيامة وإننا سنتعرض لمحاسبة عميقة لكل أعمالنا إذ ترصد كل تفاصيلنا وتعرض علينا في ذلك اليوم الموعود، ولفظ الإحصاء هو الذي يعكس كل هذه المعاني، فالأمر أكبر من مجرد العد أو الاكتفاء ببعض العناوين من دواوين أعمالنا بل هو جرد كامل وسبك لأغوارنا.. فاللهم سلم .

وجاء لفظ الإحصاء أيضا في بداية سورة الطلاق، حيث تؤدي مفردة الإحصاء هنا دورها في التأكيد على الانتباه إلى أمر شرعي هو عدة الطلاق، وهنا نتلمس إضاءات هذه المفردة القرآنية في الحث على الانتباه لتطبيق حكم الله تعالى والتزام حدوده وعدم التعدي فيها مع استحضار معيته ومراقبته في كل أمورنا.

قال تعالى: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة، واتقوا الله ربكم، لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه، لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) الطلاق الآية الأولى.

وفي التأكيد على سعة علم الله وأحاطته بكل شيء، ورد لفظ أحصى في نهاية سورة الجن، قال تعالى: (ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا). وهنا يرسل لفظ أحصى إشعاعه الذي يظهر تجليات علم الله سعة وإحاطة، وتجليات الاستغراق للرصد الدقيق لكل شيء في الكون، ويتجلى ثقل مسؤولية الرسل وعمق إيمانهم وحرصهم على أداء رسالتهم، وهم يستشعرون في كل مسيرتهم مراقبة الله عز وجل وإحاطته بأحوالهم وأحوال من ناصبوهم العداء ووقفوا في وجه الحق الذي جاؤوا بهم، وهنا يحلق هؤلاء الصفوة وكل من سار على ركبهم بجناحي الرجاء والخوف، وهم يعتقدون أن الله الرقيب قريب منهم، فيسعون في دربهم ودعوتهم يحاولون الإصلاح ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

ويرد لفظ الإحصاء مسبوقا بـ (لن)، في الآية الأخيرة من سورة المزمل، قال تعالى: (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك، علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤا ما تيسر منه، علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤوا ما تيسر منه، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم).

وفي هذه الآية حديث عن فضيلة قيام الليل وهي أيضا تضعنا في صورة لمشهد رائع يرسمه حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم وتلك الثلة من صحابته وهم يتركون فرشهم ومخادعهم ليتذوقوا لذة مناجاة ربهم والخلوة معه صلاة وتلاوة، قياما وركوعا، ابتهالا ودعاء، سجودا وقربا، وهنا يعكس لفظ لن تحصوه، دلالات منها: سعة علم الله، الحالة النفسية العميقة التي يمر بها هؤلاء الذين يحيون روعة قيام الله، فهم على مسارعتهم لهذه العبادة ربما يعتريهم الخوف من التقصير أن ربما كانت مدة قيامهم قليلة أو لم تكن على الوجه المطلوب، وفي الآية تذكير بلطف الله بأحبابه وإدراكه لضعفه وما يعتري أحوالهم من مرض أو انشغال، ويكفي أنه يحصي خلجاتهم ويعلم صدق نواياهم وحرصهم على طاعته.

جولتنا مع هذه المفردة القرآنية انتهت وما قدمناه ليس إلا إشارات نرجو أن يكون إشعاعها ونورها وصل إلى قلوبكم ليعمرها إيمانا ومحبة لكتاب الله تعالى ورفعة بلغته وجمال وجلال معانيه.

 

أهميته في رسم السياسات واتخاذ القرارات -

د. يوسف بن إبراهيم السرحني -

«الإسلام وهو الدين العالمي الخالد الصالح لكل زمان ومكان، نجده قد أولى علم الإحصاء عناية كبيرة؛ لأهميته في رسم السياسات العامة، واتخاذ القرارات اللازمة؛ فقد تناول القرآن الكريم المفهوم الإحصائي بشكل مباشر، وبشكل غير مباشر، من خلال العديد من التطبيقات العددية والحسابية والإحصائية»

الدارس للحضارات البشرية على مدى التاريخ ومر العصور يجدها حضارات مادية، تقوم على رجل واحدة، مهما جعلها تسير متعثرة، ولا تحقق مطالب الإنسان الروحية، ولا تلبي رغبات الفطرية؛ إذ هي لا تهتم بالجانب الروحي، ولا تولي الجانب الأخلاقي عناية، بخلاف الحضارة الإسلامية التي هي حضارة إلهية ربانية تجمع بين الروح والمادة، وبين السماء والأرض، وبين الدنيا الفانية والأخرى الباقية، فالحضارة الإسلامية تقوم على العقيدة والعبادة، وعلى المعاملة الحسنة والخلق الكريم، كما أنها تسهم إسهامًا كبيرًا في تطوير الجوانب المادية، وفي تحسين نواحي الحياة المختلفة التي بدورها تسهم في بناء الكون، وعمارة الأرض، بما يخدم الإنسان، فيعيش عيشة كريمة، ويحيا حياة آمنة مطمئنة، تقوم على أسس علمية، وقواعد متينة، تحفظ للأجيال المتعاقبة حقوقها، وتدفعها إلى مواصلة البناء، وتحركها إلى مزيد من العطاء، فالحضارة الإسلامية بهذا العطاء وهذا الإسهام وهذا التكامل وهذا التوازن تشعر الإنسان بإنسانيته، وتقدر رسالته في الحياة، فتضعه في موضعه اللائق به ؛ موضع التكريم والتقدير والاستخلاف، إذ تلبي مطالب الإنسان الروحية والمادية، وتحقق له تطلعاته، وتشبع رغباته باعتدال من غير إجحاف أو تغليب جانب على آخر.

لذلك فإن العلماء المسلمين لهم قدم السبق في جميع مجالات الحياة التي تخدم الإنسان روحًا وجسدًا، بغض النظر عن دينه وجنسه وعرقة وبلده، ففي ظل الحضارة الإسلامية فتحت المدارس والجامعات والمستشفيات؛ لا للمسلمين فحسب بل لكل الناس، لاسيما الغربيين لقربهم من الحواضر والمراكز العلمية الإسلامية كالأندلس وجزيرة صقلية، حيث تتلمذوا على يد العلماء المسلمين، وقرؤوا مؤلفاتهم وترجموها، مما كان له الأثر الواضح والإسهام الأبرز في قيام الحضارة الغربية الحديثة.

لقد أسهمت الحضارة الإسلامية في كل مجالات الحياة وفي مقدمتها المجال العلمي، الذي هو لا ريب يعد أساس تقدم وترقي مجالات الحياة الأخرى، فقد اهتم العلماء المسلمون بشتى صنوف العلم؛ إذ إن دائرة العلم في الإسلام دائرة واسعة تشمل كل علم يحقق نفعًا للإنسان. ومن هذه العلوم التي اعتنى بها المسلمون لأهميته في الحياة، علم الإحصاء.

لقد عرف الإنسان علم لإحصاء منذ القدم واستعمله في حياته العملية اليومية، وبمرور الزمن، وزيادة الحاجة إليه وكغيره من العلوم تطور علم الإحصاء إلى أن وصل إلى ما وصل إليه الآن من علم مستقل واسع؛ له قوانينه وقواعده وأصوله، وله مصطلحاته واستخداماته؛ ليشمل أغلب مناحي الحياة إن لم يكن كلها، فالإنسان الأول استخدم في العد والحصر أصابع اليدين والقدمين، ثم استخدم الحصى والنوى، ثم الأرقام. كل ذلك لمعرفة العمليات الحسابية والتعبير عن الظواهر المختلفة التي صادفت الإنسان في مسيرة عمره، وقابلته في مراحل حياته. وعليه فإن عدَّ الأشياء وإحصاءها فكرة قديمة عرفت منذ وجود الإنسان على الأرض، وإن اختلفت وسائل تطبيقها، ومجالات استخدامها، وما ذلك إلا للحاجة الملحة والداعية لهذه العملية في حياة الإنسان، وفي تاريخ البشرية.

وإذا جئنا إلى الإسلام وهو الدين العالمي الخالد الصالح لكل زمان ومكان، نجده قد أولى علم الإحصاء عناية كبيرة؛ لأهميته في رسم السياسات العامة، واتخاذ القرارات اللازمة ؛ فقد تناول القرآن الكريم المفهوم الإحصائي بشكل مباشر، وبشكل غير مباشر، من خلال العديد من التطبيقات العددية والحسابية والإحصائية، فكلمة إحصاء ومشتقاتها وردت في القرآن الكريم في إحدى عشرة آية اهتمت في عمومها بالإحصاء الدقيق، وهذه الآيات هي: قوله تعالى: (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا) سورة الكهف الآية«12» وقوله تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) وقوله تعالى: (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَـٰنِ عَبْدًا* لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا* وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) وقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ) وقوله تعالى: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّـهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّـهُ وَنَسُوهُ وَاللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) وقوله تعالى: (لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) أي ما من شيء في الوجود من بشر وجن وملائكة وشجر وحجر وحيوان وطير ودابة وجماد إلا أحصاه الله عددًا. وقوله تعالى: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا) وقوله تعالى: (وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّـهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّار) وقوله تعالى: (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّـهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّـهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) وقوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ ۚ وَاللَّـهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ۖ وَاتَّقُوا اللَّـهَ رَبَّكُمْ).

لقد استخدم المسلمون الإحصاء في العصور الإسلامية، فالتاريخ يشهد أن علم الإحصاء معروف لدى المسلمين وبشكل ملموس؛ إذ كان المسلمون من أوائل من استعان بلغة الأرقام في إحصاء مواردهم وثرواتهم وأنعامهم، لمعرفة مقدار الزكاة فيها، ومعرفة نصيب كل وارث من التركة، وفي حصر الجند وعطاياهم وأسلحتهم.

وكان للمسلمين في الإحصاء اللغوي الباع الأطول، فهذا يعقوب بن إسحاق الكندي المتوفى سنة 260 هـ، يصف في كتابه «علم استخراج المعمى عند العرب» عملية إحصاء تواتر الحروف في لغة ما، وذلك بأخذ عينة كافية من الكلام المنثور في تلك اللغة، وقد أحصى نصًا مؤلفًا من 3667 حرفًا ثم استعمل تلك النتائج بعد ترتيبها في استنباط نص معمَّى وينبه فيها على أمرٍ ذي بال، وهو أن النص المعمَّى ينبغي أن يكون ذا طول كافٍ يسمح بانطباق القواعد الإحصائية عليه، وهي فكرة رياضية على غاية من الأهمية، إنها فكرة قانون الأعداد الكبيرة. كما أن المفكر العربي ابن خلدون الذي يطلق عليه أبو علم الاجتماع، قد عالج قضايا السكان معالجة علمية، فبحث في عمران الدول واتساعها وتأخرها، وربط كل ذلك بنمو عدد السكان ونقصانهم. ويُذكر

أن أول عملية إحصاء عام للتعداد السكاني جرت في عهد الخليفة العباسي المأمون، وكانت الغاية منها معرفة مقدار الإيرادات التي ستأتي لبيت مال المسلمين من الزكاة وغيرها.

أما علم الإحصاء في العصر الحديث فقد أصبح من العلوم المعاصرة المهمة التي تلبي دوافع وطموحات الجهات والمؤسسات والمنشآت العامة والخاصة في الدولة؛ التي أنيط بها التخطيط الاستراتيجي العام للبلاد على الوجه المطلوب، والتي أسند إليها رسم السياسات والخطط التنموية، وعهد إليها اتخاذ القرارات الحكيمة، وإصدار اللوائح والقوانين الصائبة التي تتلاءم مع المؤشّرات، وتنسجم مع المعطيات؛ حيث إن علم الإحصاء يرفد هذه المنشآت بنتائج علمية منبثقة عن الدّراسات الإحصائية، وفي هذا العصر تنوعت طرائق وآليات التحليل الإحصائي، مما أدى إلى تطور سريع للنظرية الإحصائية، وإلى اتساع كبير لها، فأثرت في الحياة العامة أثرًا واضحًا، مما جعل هذا العلم يصل إلى كل المجالات الحديثة، ويلازم كل الدراسات العلمية والمسائل التقنية، فعلم الإحصاء يُعدُّ اليوم من أهم العلوم التي تتوقف عليها التنمية السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والتربوية؛ محليًا وإقليميًا وعربيًا وعالميًا، فهو إحدى الوسائل المهمة في البحث العلمي من خلال استخدام قواعده وقوانينه وطرقه في عملية الجمع والتلخيص والعرض والتحليل للبيانات والمعلومات المختلفة، واستخلاص النتائج منها وتفسيرها، مما يسهم في وضع الخطط المستقبلية للتنمية من خلال هذه النتائج؛ لأن توفر المعلومات والبيانات والمؤشرات والمعطيات الإحصائية يسهم كثيرًا في معرفة الجدوى المأمولة من إقامة المشروعات، فهو يرسم ملامح الطريق، ويحدد المسار الصحيح في التنفيذ والبناء، مما يكون له الأثر الفاعل في تحقيق الطموحات المرجوة، والغايات المنشودة، والأهداف المرسومة، والنجاحات المنتظرة من وراء إنشاء تلك المشاريع المختلفة، كما أن هذا العلم يساعد على وصف وتشخيص الظواهر الاجتماعية والنفسية والتربوية وصفًا دقيقًا وتشخيصًا علميًا، ويساعد أيضًا في إيجاد خطوات عملية، ووضع حلول مناسبة لعلاج المشكلات وحل الصعوبات، وبالجملة فمجالات علم الإحصاء كثيرة، فهو يدخل في مجال البحوث الطبيبة والصحية، ويدخل في مجال البحوث الاقتصادية؛ زراعيًا وتجاريًا وصناعيًا وإداريًا، ويدخل في مجال البحوث الإنسانية؛ تربويًا واجتماعيًا ونفسيًا وسكانيًا، وأوضح مثال على أهمية علم الإحصاء هو دوره في التعداد السكاني العام للدولة نجده يتدخل فيه تدخلًا أساسيًا ومباشرًا؛ إذ يُعرف التعداد السكاني بأنه هو العملية الجامعة والشاملة التي تتعلق بأعداد السكان من حيث توفير البيانات الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية لجميع الأفراد الموجدين في الدولة من مواطني ووافدين في خلال فترة زمنية معينة، ولا يخفي على أحد أهمية معرفة التعداد السكاني العام للدولة، فهو من أهم الوسائل لمعرفة عدد السكان، وأماكن وجودهم، ومستوياتهم الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتعليمية، ومدى توفر الخدمات لهم، كل ذلك يوفر حقائق على الأرض، ويقدم معلومات أساسية، ويعطي بيانات ضرورية للحكومة في سياسة التخطيط والتنمية، وفي المشاركة في مجلس الشورى والمجالس البلدية وغيرها من المؤسسات الحكومية والمدنية، وفي تقديم أفضل ما تستطيع عليه الحكومة من خدمات صحية وتعليمية، ورعاية اجتماعية، ومن توفير خدمات أخرى كالكهرباء والماء والطرق والاتصالات للسكان جميعًا تحقيقًا للعدالة بينهم؛ لينعم الجميع بحياة طيبة، وعيش كريم . وهو أيضُا من أهم الطرق لتقديم معلومات وافية عن العمالة الوافدة، وتكوين قاعدة بيانية لهم؛ من حيث عددهم وجنسهم وأعمالهم وأنشطتهم وجنسياتهم ومستوياتهم العلمية والثقافية والمهنية والحرفية وأماكن تركزهم إلى غير ذلك مما هو ضروري أن يُعرف من قبل الجهات المعنية.