الملف السياسي

معارضة عالمية كاسحة .. لكنها آخذة في التآكل !

01 يناير 2018
01 يناير 2018

د. صلاح أبونار -

غيرت أوكرانيا موقفها من التأييد في قرار مجلس الأمن، إلى الامتناع عن التصويت في قرار الجمعية العمومية. وخلال مناقشات الاتحاد الأوروبي الممهدة لإصدار إعلان يعارض قرار ترامب، رفضت المجر التوقيع عليه وحاولت جذب آخرون، فيما اعتبرة مسؤول بارز تهديدا لوحدة الاتحاد الأوروبي .

كان المشهد الأمريكي الرسمي المصاحب لإعلان قرار القدس، مشهد استعراض سياسي للقوة بامتياز، وليس مشهد ممارسة عقلانية للقوة. في الممارسه العقلانية يؤخذ القرار بحساب، وتنفق الموراد السياسية في تطبيقه بحساب، وتؤخذ نتائجه السياسية في الحساب، وتبذل الوعود وتطلق التهديدات ضمانا لنجاحه بحساب. ولكن في استعراض القوة سيتراجع حضور كل هذا الي الخلفية، ليحتل القلب هذا الولع الطاغي بممارسة القوة. ولع تصاحبه قناعة بامكانية فرض أي شيء طالما كانت القوة تسنده، وتهديدات بلا ضوابط ، ووعود لن يصدقها أحد. والأخطر إهدار لقاعدة أساسية من قواعد إدارة الصراع، تخبرنا: انه «لاتمعن في الحاق الهزيمة بخصمك واترك له بقية معقولة من حق وقدرا كافيا من الكرامة، لأنك ان لم تفعل ستؤسس انتصارك علي بركان غضب خامد، سينفجر عاجلا أم آجلا ليطيح بما حققته» .

إن لم يكن الأمر كذلك، كيف لنا أن نفسر تصريحات السفيرة هايلي في الأمم المتحدة وتصريحات ترامب المصاحبة لها، دعما لواقعه الاحتلال الاسرائيلي للقدس التي يرفضها العالم كله، منذ احتلال الغربية عام 1949 والشرقية عام 1967، وتنفيذا لقرار أمريكي ولد عام 1995 مرتبطا بآلية متوافق عليها بين السلطتين التشريعيه والتنفيذية الامريكيتين للخروج عن تنفيذة تقديرا لخطورته، وامتنع ثلاثة رؤساء أمريكيين عبر ست فترات رئاسية وعلى مدى 22 عاما عن تنفيذة تحسبا لعواقبه الوخيمة. وفي مواجهة معارضة شاملة امتدت من أهم مراكز صنع القرار الامريكية في البنتاجون والخارجية ومؤسسات البحث والتخطيط ، مرورا بأروقة الأمم المتحدة والفاتيكان والاتحاد الأوروبي.

قبل التصويت على قرار الجمعية العامة في 21 ديسمبر، أرسلت السفيرة هايلي خطابا الى 180 دولة يحمل تهديدا مبطنا:« الرئيس سيأخذ التصويت بشكل شخصي، وسيراقب التصويت بعناية، وطلب مني تزويده باسماء الدول التي ستصوت ضدنا». وفي نفس التوقيت أعلن ترامب المضمر في الخطاب :« يروقني هذا الخطاب، دعهم يصوتون، لن نهتم، سوف نوفر الكثير، ولن نكرر ما كان يحدث . كانوا يصوتون ضدنا ثم ندفع لهم مئات الملايين» . ولم يكن الأمر مجرد تهديد لفظي، فحسب تصريح لوزير الخارجية التركي: «وصل بهم الامر الي حد التهديد بقطع المعونة، اذا لم نصوت بالرفض..» وبعد التصويت اعلنت هايلي « لن ننسي هذا اليوم، عندما تأتينا بلدان كثيرة ، تطالبنا كالعادة منحهم المزيد، وعندما يطلبون منا أن نقدم أكبر مساهمة في تمويل الأمم المتحدة ».

بعد قرار ترامب هبت العاصفة. كان رفض المؤسسات الدولية للقرار كاسحا . فشل مجلس الأمن في جلسة 18 ديسمبر في إصدار إدانة لقرار ترامب، وفقا لمشروع قرار حصل على موافقة 14 دولة واعترضته امريكا فقط . ولكن في 21 ديسمبر تمكنت الجمعية العامة من إدانة القرار الأمريكي بأغلبية 128 صوتا، ولم يؤيده سوى تسعة . وبالتوازي مع ذلك نال القرار الأمريكي إدانات صارمة من مؤسسات الاتحاد الأوروبي، و البابا فرنسيس، وبطاركة اثني عشرة كنيسة مقدسية، والكنيسة الارثوذسكية الشرقية، وهيئات كنسية اخرى مثل اتحاد كنائس اندونيسيا، وقمة اسطنبول الطارئة لمنظمة التعاون الإسلامي، ومنظمة الوحدة الافريقية، وجامعة الدول العربية. والى جوار مواقفها عبر السياق المؤسسي الدولي، أعلنت دول كثيرة رفضها للقرار خارج هذا السياق، في تصريحات صادرة عن رؤسائها ووزارء خارجيتها، كما هو حال روسيا وسنغافورة واندونيسيا واليابان.

ومع الرفض الرسمي توالت ظواهر الرفض الشعبي، داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة والدول العربية، ودول أخرى أبرزها بنجلاديش واندونيسيا وماليزيا، أي دول الأغلبيات الإسلامية الآسيوية.

ماهي مكونات المنطق السياسي المشكل لهذا الاجماع الدولي الناقد للقرار، ونقصد تحديدا الاجماع الدولي في صورته المؤسسية الدولية؟. في هذا الصدد يمكننا تمييز مكونين اساسيين.

يتعلق الأول بالموقف القانوني والسياسي من القدس ومعها القضية الفلسطينية، فقد خلق الاجماع القديم والصارم حول الطابع المقدس للمدينة في علاقتها بالاديان الرسالية الثلاثة، اجماعا موازيا علي ضرورة الالتزام بقرار الجمعية العمومية 181 لسنة 1947، القاضي بتقسيم فلسطين الى دولتين عربية ويهودية، وتدويل القدس عبر تحويلها الى كيان دولي منفصل تديره الأمم المتحدة .هذا الاجماع هو الذي منع كل دول العالم على مدى السنوات الممتدة من 1947، من الاعتراف بالقدس عاصمة لاسرائيل . وشكل المرجعية الشرعية لكل قوانين مجلس الأمن التالية بشأن القدس، ولم يحدث على امتداد تلك العقود اي تحد صريح لشرعيته الا عندما اسقطت واشنطن قرار 18 دسيمبر2017 بالفيتو في مجلس الأمن . وظلت شرعية والزامية القرار قائمة، مهما أمعنت الدول في دعم إسرائيل، ومهما تمادت اسرائيل في تغيير الأمر الواقع داخل القدس.

غير أن توطد الشرعية الدولية لإسرائيل، ورسوخ الاحتلال الاسرائيل للقدس الغربية ومعه سيادتها السياسية عليها، والتوطد الموازي لشرعية مطلب الدولة الفلسطينية، وظهور عملية اوسلو التي اقرت هدف الدولتين لحل الصراع، قاد الى تعامل جديد للشرعية الدولية مع مسأله القدس، يتبنى فكرة تقسيم المدينة في اطار توازن بين الاعتراف بالغربية كعاصمة لاسرائيل والشرقية كعاصمة للدوله الفلسطينية القادمة. واستقرت الفكرة في الخطاب الدولي، كهدف من ضمن الأهداف الناظمة لعملية اوسلو، حظي بالموافقة الدولية والفلسطينية لكنه لم يحظ بالموافقة الاسرائيلية. ونجد هذا الطرح داخل الخطاب الدولي المعارض لقرار ترامب: الاعتراف بالقدس الغربية عاصمة لاسرائيل مقابل الاعتراف بالشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية القادمة. وحتى تأتي تلك اللحظة تظل شرعية القرار181، هي المعيار الناظم للموقف الدولي من القدس. ويتعلق المكون الثاني بالتداعيات السياسية للقرار. وفي هذا الصدد طرحت عدة عناصر: القرار من شأنة الاضرار بعملية السلام، لأنه يستبق العملية التفاوضيه، وينتقص الدور الأمريكي كوسيط سياسي ، ويهدد شرعية القيادة الفسلطينية اذا وافقت على التفاوض بعده، ويمنح اليمين الاسرائيلي الحاكم الجائزة الكبرى دون اي مقابل. والقرار يفسح المجال امام الادوار الدولية والاقليمية المناهضة للدور الامريكي، وبالتالي يخلق بيئة اكثر صراعية وهذا من شأنه الاضرار بالعملية السياسية، والقرار يضر بشدة بحلفاء امريكا الاقليمين، والتيار الاقليمي الذي شرع في تطبيع علاقته باسرائيل، والقرار سيمنح القوي الارهابية قبلة الحياة بعد ان تلقت ضربات قاصمة.

غير ان تلك المعارضة حملت معها عناصر تشير لكونها مهددة بالتآكل. ماهي هذه العناصر؟

- هناك اولا: الفشل في تمرير قرار مجلس الامن فشل طبيعي ومتوقع لأن القرار يدين أمريكا، لكنه يسجل بدايات تحول جذري في الوجهه المستقبلية لقرارات مجلس الأمن، لأنه يناقض ما ارسته سلسلة قرارات للمجلس تصل لتسعه قرارات، من اول القرار 242 لسنة 1967 حتى القرار 2334 لسنة 2016 اشار اليها مشروع قرار 18 ديسمبر2017 كسند شرعي له .

- وهناك ثانيا : نمط التصويت علي قرار الجمعية العامة ودلالاته المحتملة او المؤكدة. وافق على القرار 128 عضوا من اجمالي 193. انتصاركاسح بلاشك. ولم يرفضه سوى تسعة اعضاء، منهم أمريكا وإسرائيل وأربع دول باسفيكية وهندوراس وجواتيمالا وتوجو. وهي هزيمة منكرة. ولكن يتعين ملاحظة وجود 57 دولة لم تؤيد القرار ولم تصوت ضده، منها 35 دولة امتنعت عن التصويت و21 دولة تغيبت عن التصويت. واعتبرت السفيرة هايلي ذلك، نوعا من التأييد للموقف الأمريكي، وهو نفس ما قاله نتانياهو. إلا أن تلك الآراء مجرد حجج لمداواة الجراح. ولكن من الصحيح أيضا أن هذا يحمل داخله درجة من تآكل التأييد، يصعب تقديرها الا عبر دراسة تاريخية للتصويت على قرارات القضية الفلسطينية، وتقسيم داخلي لهذه المجموعة يأخذ في اعتباره خصائصها المشتركة وانماط تصويتها المتبعة. لكن هناك مؤشرات مؤكدة على سريان التآكل.

فلقد غيرت أوكرانيا موقفها من التأييد في قرار مجلس الأمن، إلى الامتناع عن التصويت في قرار الجمعية العمومية. وخلال مناقشات الاتحاد الأوروبي الممهدة لاصدار إعلان يعارض قرار ترامب، رفضت المجر التوقيع عليه وحاولت جذب آخرون، فيما اعتبرة مسؤول بارز تهديدا لوحدة الاتحاد الأوروبي .

وفي أعقاب القرار قررت جواتيمالا نقل سفارتها الى القدس، وصرحت وكيلة الخارجية الاسرائيلية أن جواتيمالا مجرد بداية، وان اسرائيل على تواصل مع عشر دول على الأقل لمناقشة امكانية نقل سفاراتها. وخلال مباحثاته مع قادة الاتحاد الأوروبي، صرح نتانياهو انه يعتقد أن أغلب دول الاتحاد ستنقل سفاراتها في المستقبل الى القدس. ورغم حرصه على الاشارة لعدم وجود اتفاقات راهنة، الا انه غالبا كان يلمح لامتناع خمسة من أعضاء الاتحاد عن التصويت في الجمعية العمومية، كمؤشر على امكانية هذا النقل. والأمر المرجح انه قد يكون هناك موجة نقل قادمة لبعض السفارات، ستنطلق مستغله انهيار الاعتراض الامريكي وبتحريض امريكي. وليس من المرجح أن تكون واسعة في المدى القريب، لكنها غالبا ستتركز في مجموعة الدول الافريقية والآسيوية والباسفيكية الصغيرة، التي امتنعت أو غابت عن التصويت.

الأمر المثير للأسي أن هذا التآكل الاحدث والمرشح للتصاعد، يحدث في سياق عربي لا يملك القدرة على مواجهته. في غمار الأزمة العربية الراهنة فحل الدولتين فقد قوته العربية الدافعة، بالتوازي مع التخلي الأمريكي العملي عنه ، لصالح مشاريع متخطية للتاريخ والواقع والحق، مثل هذا المسمى «صفقة القرن».

مشاريع ستسفر عن «شبه دولة» فلسطينية، بل الأرجح «شبه دويلة»، في ظلها لن يكون للقدس أي مكان، بفرض تنازل الأقوياء بإعادتها لمائدة المفاوضات.