1210954
1210954
المنوعات

قارئ يسرد تجربته.. عبدالله حبيب في حوار حول القراءة: أنا ممنوع من القراءة على السرير!

01 يناير 2018
01 يناير 2018

حاوره: عاصم الشيدي -

هذا حوار عن القراءة فقط، عن تحولاتها وطقوسها ومدى علاقتها الحميمة بالقارئ.. كيف يعيش معها وتعيش معه.. كيف يستيقظ ليلا ليبحث عن كتاب، أو يبحث بين صفحات كتاب عن عبارة أو بيت شعر ألح عليه في حلمه أو في أرقه. نعرف أول كتاب قرأه القارئ، أو الكتاب الذي يبات معه في السرير أو الكتب المركونة على مرمى بصره وتنتظر أن يقرأها. عن الكتب التي يعود لها بين فينة وأخرى.

ومع الكاتب والشاعر عبدالله حبيب نعرف حساسية اقتراب الكتب من سريره لأسباب موضوعية، وعن استدعاء جميل لذاكرته عند تذكيره بأول كتاب قرأه والذي جاءه هدية من خاله.. وتفاصيل كثيرة نقترب فيها من عبدالله حبيب

قــــــارئا وليس كاتبا.. وإلــــــى الحــــــوار:-

• ما الكتاب الذي تقرأه الآن، أو لنقل الموجود على المنضدة المجاورة لسريرك؟

فلنبدأ من النصف الثاني من السؤال؛ أي المتعلق بالكتاب «الموجود على المنضدة المجاورة للسرير». وسأقول لك فوراً إنني حرفيَّاً ممنوع من القراءة على السرير. وكي لا يبدو الأمر موغلاً في الألغاز، والسريَّة، والغموض فسأقول لك إن الأمر الصارم الأول الذي في جعبة الطب النفسي لمن هو مصاب بمرض الأرق المزمن الحاد هو ألا يكون السرير مجالاً إلا لنشاطين اثنين فقط؛ وهما ممارسة الجانب الحميمي أو ممارسة النوم، وألا يرتبط السرير بأي نشاط آخر خاصة إذا ما كان ذهنياً أو محرضاً على التفكير، وفي مقدمة تلك الأنشطة تأتي القراءة بما في ذلك ما يسمونه «القراءات الخفيفة» مثل تصفح الجرائد اليومية وما إلى ذلك. وبالتالي فأنا ليس لدي كتاب قرب السرير.

أما ما أقرأه الآن فليس كتابا، بل أطروحة دكتوراه بعنوان «صناعة الدولة في الإمارات العربية المتحدة» التي قدمها العزيز محمد عبيد غباش لنيل تلك الدرجة العلمية في مجال العلوم السياسية من جامعة سوانزي.

• هل تغيرت توجهاتك القرائية بين الشعر والرواية بتقدم العمر؟

كلا، لم يحدث ذلك. لكن ما حدث مع تقدم العمر، وضيق الوقت، وكثرة المشاغل هو أن المرء قد أصبح انتقائيَّاً أكثر في القراءة. قبل نحو ثلاثين سنة من الآن إن كان المرء في سهرة وطُرح اسم كاتب معين من الأسماء المتداولة فإنه يشعر بالخزي انه لم يقرأ لذلك الشخص كتاباً واحداً، بل إنه ربما لم يكن قد سمع باسمه أصلاً. الآن لم يعد الأمر كذلك؛ فالمرء لا يستطيع أن يحمل مكتبة العالم في رأسه. صرت مؤخراً أنزع الى قراءات تتعلق بأشياء وكائنات غير البشر وما صنعوه، وما أنجزوه، وما دمَّروه في هذا العالم. أقرأ عن الحيوانات مثلاً، وفي هذا استمتعت كثيرا بقراءة كتاب عن التاريخ الطبيعي والانثروبولوجي للجَمل من تأليف روبرت أوين. وقد أحسستُ بالندم بسبب التأخر الطويل عن قراءة كتاب كهذا وأنا القادم من بيئة وثقافة تبرز فيها النوق والجِمال بصورة كبيرة.

• هل تشكلت لديك تقاليد في موضوع القراءة؟؛ بمعنى هل لديك توقيت يومي تختلي فيه بنفسك للقراءة ولا تحب أن يقتحمه عليك أحد؟

ليس لدي توقيت معين للقراءة. أحياناً أقرأ طوال اليوم والليل تقريباً، وأحياناً بالكاد أتدبر نحو ساعة مختلسة اختلاساً في يوم بل اثنين. في أوقات القراءة لا أحب أن يقتحمني أي أحد على الرغم من انه لا توجد لدي توقيتات يومية معينة للقراءة ولا مزاج خاص بذلك كما أسلفت. على عكس الكثير ممن أعرف من الأصدقاء الكتّاب لا أركن للقراءة أو الكتابة في مناخ المقهى، وأحسد الأصدقاء من قراء وكتّاب المقاهي، ولذلك لا أحب المقاهي إلا لاحتساء القهوة، وسفح الحديث، أو تصفح الجرائد؛ فأنا شخص ضعيف التركيز وسهل التشتت الذهني، ولذلك فإن آخر مكان يرتبط في ذهني بقراءة أكثر من الصحف هو المقهى.

• من الشاعر المفضل لديك وتعود لقراءته باستمرار؟

ليس لدي شاعر مُفَضَّل، بل شعراء مُفَضَّلون ولو إلى حين. ثم اني اكتشفت شيئاً عن بعض من أسميتهم «شعرائي المفضلين»؛ إذ اتضح لي عبر السنوات انني أكون أحياناً معجباً بأنماط الحياة والمآلات أكثر مما أنا معجب بالنصوص (رامبو مثلاً، والذي أحترم كثيراً شقاء حياته ولكني بالكاد استطيع استساغة أشعاره خارج «المركب السكران»). لكن هناك شعراء آخرون أنا معجب بطريقة حياتهم وكتابتهم وموتهم معاً (إدغر ألن بو مثلاً، وهو شهيد كبير للحب، والذاكرة، والخمر، واللغة، والانتحار الممنهَج على جرعات مستمرة). وعليَّ الاعتراف إني شعر بنفور من شعراء يعتبرهم البعض «كباراً»؛ وذلك لأن ما انتهجوه من مسالك الحياة، والكتابة، والمواقف لا تروق لي ولا تتناغم مع حساسيتي (أظن، مثلاً، ان تجربة نزار قباني قد تم تضخيمها كثيراً، وقد تم غض النظر عن أوجهها الرجعيّة، والمتخلفة، والذكوريَّة البائسة خاصة في موضوع المرأة التي يزعمون انه «حررها» بينما ما فعله هو انها نقلها من الخيمة إلى «الفاترينة» ثم ليفاخر بأنه «يحرث كالحصان على السرير الواسع»، وكذلك ارتباطاته ومواقفه السياسية الزئبقيَّة والمنافقة. أعتقد ان ظاهرة نزار قباني لا تكشف عن موهبته ولا حتى عكس ذلك بقدر ما تفضح تخلف ذائقة الاستقبال الشعريَّة العربيَّة التي لا تزال مرتهنة إلى الفحولة الاستعراضية في الجنس، وكذلك المراهقة الانفعاليَّة، والخطابيَّة، والساذجة في السياسة).

• بين الشعر والسرد والنقد السينمائي أين تجد نفسك قرائياً أكثر؟

صدقاً لا أعرف بالضبط، وليست لدي تفضيلات خاصة بصورة مباشرة. الظرف الذاتي والموضوعي له دور في ذلك، فقد لاحظت مؤخراً ـ على سبيل المثال ـ إنني مغترب عن مناخات القراءة والمناقشة فيما يخص الإصدارات الأخيرة في البلاد؛ إذ يحدث ان التقي بزميل من الكتّاب يحكي لي بحماس عن مجموعة قصصية عُمانيَّة لم أقرأها حيث كنت قد تفرغت لقراءة واحد من كتب التنظير السينمائي الذي صدر لتوّه في الولايات المتحدة، فلا يكون لدي ما يمكن أن أضيفه إلى الحديث، وأشعر بالفزع من صوت التبكيت الداخلي، ومن السُّخف الذي أنا متورط فيه. أظن ان على مكان وزمان المرء في حياته في العالم أن يحتّما ما يقرأ وما لا يقرأ. ولذلك فقد صرت أحاول إيجاد معادلة مرنة في هذا الشأن.

• هل هناك كتب قد نُدهش لو عرفنا أنها موجودة في مكتبتك؟.

كلا، لا أظن. من مشاكلي طوال حياتي الصغيرة هي ان مكتبتي لم تسافر معي، وقد ضاع معظمها، ولو كانت باقية بمراحلها الزمنية لربما كنت قد وجدت ضالتك فيما يخص اندهاشك لوجود بعض الكتب؛ فمثلاً لو سألتني هذا السؤال قبل نحو ثلاثين سنة فقد تعثر على إجابة؛ أعني عنواناً من قبيل «أضرار العادة السريَّة». أما فيما تبقى من مكتبتي الآن فلا أظن انك ستفاجأ بوجود كتب لم تتوقعها، ربما باستثناء بعض الكتب التخصصية المتعلقة بنظرية، وتاريخ، وتكتيكات «حرب الغُوار» (وأظن ان هذه أدق وأفضل من التسمية السائدة: «حرب العصابات»).

• أول كتاب قرأته وتعتقد أنك ما زلت مسكوناً به؟

أستطيع جيداً أن أتذكر أول كتاب من خارج الكتب الدراسية قرأته بشغف وبالكامل رغم ضخامة حجمه وأثَّر فيَّ كثيراً، وقد حدثت قراءتي للكتاب حين كنت صغيراً. الكتاب هو «حول العالم على دراجة ناريَّة» للرحالة السوري عدنان حسني تللو الذي أُعليه في حجرة خاصة في الذاكرة كونه كان أول كتاب/‏ هديَّة أتلقاه في حياتي مشفوعاً في الوقت نفسه بأول إهداء مكتوب بقلم المُهدي، وهذا كان خالي العزيز علي إبراهيم المعيني الذي هو قارئ نهم ومؤرخ يُعتَدُّ به في أمور لا تلامس شغافي بصورة خاصة ولا أهتم بها. على الرغم من انني لا أتذكر نص الإهداء بالحرف الواحد إلا انه في فحواه كان دعوة للتعلم من خبرة وأحلام وأفكار عدنان حسني تللو وتمنياً بالتوفيق والسعادة في حياتي. ومع ان تلك الأمنية لم تتحقق للأسف إلا ان دفء كلمات الإهداء لا يزال يغمرني، وأشعر بأسف كبير ان هذا الكتاب لم يعد موجوداً لدي، فقد اختفى بصورة ما. الكتاب، كما يبوح العنوان، هو توثيق مذكراتي وفوتوغرافي لرحلة ذلك الرحالة السوري الذي كان قوميَّاً عربيَّاً حول العالم قطع خلالها أكثر من مائة وخمسين ألف كيلو متر في النصف الثاني من القرن الماضي على ظهر دراجة نارية أسماها «السد العالي». وعندما كادت الرحلة أن تنتهي حصل حادث سير للرحَّالة في افريقيا (وبالمناسبة، أنا أشكرك كثيراً فقد حرَّضني سؤالك هذا على البحث عن معلومات تخص ذلك الرَّحالة فعلمت انه توفي في 2009. ولحسن الحظ وجدت كذلك حديثاً له على «اليوتوب» شاهدته بشغف كبير، وفي وسعك أن تتصور المشاعر الغامرة التي انتابتني. إنني من خلال هذا الحوار أهديه تحية كبيرة ومتأخرة). الذي قد ينبغي مني قوله ان خالي علي كان في وقت إهدائه الكتاب لي يملك دراجة ناريَّة أتذكر جيداً انها ماركة «سوزوكي» برتقاليَّة اللون لكنه لم يسمح لي بتجربة قيادتها أبداً، فقد كانت أكبر مني. وقد أسهم ذلك الكتاب كثيراً في توجهي لرياضة الدراجات النارية في بواكير الصبا والشباب. وبعد ذلك بسنوات طويلة حين أنجزت رسالة الماجستير عن فيلم «لورَنس العرب» استوقفني الاشتراك في قيادة الدراجات الناريَّة بسرعة وتهوُّر («اللحم مضغوطاً على الروح» كما يقول لورَنس العرب الذي، كما تعلم، مات في حادث دراجة نارية). وللأمانة فإن الشيء الوحيد الذي يمكن لي عمله حين يتضح لي انني كاتب فاشل هو العودة لممارسة القفز على السيارات بدراجة ناريّة («ياماها»، 175 سي سي، ترل، هي ما في بالي، وأنا أفضِّلها – من تجربة -- حتى على الـ 250 سي سي).

• آخر كتاب قرأته وجعلك تجهش بالبكاء؟

الغريب ان ما حرَّض عيني على الدمع ليس كتاباً «عاطفياً» (مجموعة شعرية أو قصصية، أو مذكرات، الخ) بل كتاب سياسي/‏ عسكري حول تجربة معاصرة. لقد كان المؤلف يتحدث بصورة منهجية صارمة عن الجوانب السياسية والعسكرية في موضوع بحثه حتى أتى إلى ذكر نص مراسلة بعثتها قيادة الطرف الذي كان يتجرع آخر حسوات الهزيمة الميدانية الثقيلة إلى إحدى خلاياها وتقول فيها بما معناه: «ليس لدينا سوى القمصان القليلة التي نبعثها لكم مع هذه الرسالة. ليست لدينا إسعافات أولية، ولا نستطيع إمدادكم ضمن الظرف الراهن بالذخيرة أو الأدوية أو شيء آخر، وقد لا نستطيع التواصل معكم مرة أخرى قريباً، فتدبروا أمركم بأنفسكم». في السياق السياسي والعسكري الأشمل ليست هذه المخاطبة سوى تفصيلة باهتة في تاريخ ذلك الصراع، ولكن بُعدها الإنساني والأخلاقي جعلني أجهش بالبكاء.

• كتاب ما زلت تتمنى لو تجد الوقت لقراءته؟

هناك الكثير من العناوين التي تترصد سؤالك. وبالمناسبة، هذا لا يعني انني طموح أكثر مما ينبغي في شأن القراءة؛ بل إن العكس هو الصحيح، إذ أصبحت زاهداً وانتقائياً في هذا الشأن. في الحقيقة رغبتي في إعادة قراءة كتب قديمة مررت بها أكبر من رغبتي في قراءة كتب جديدة. لكن من الكتب التي أتمنى قراءتها «دون كيخوته» لسرفانتِس.

• ما الكتاب الذي تنصح العرب أن يقرأوه الآن؟

ليست لدي قدرة ولا رغبة في إسداء النصح لأي أحد فيما يتعلق بما ينبغي قراءته. لكن بالنظر إلى المجون الدموي الشنيع الذي يحدث الآن في الوطن العربي فإني أعتقد انه قد يكون من الحريّ قراءة المؤلفات الفكرية الكبرى المتعلقة بكيفية وصول أوروبا الى الليبراليَّة، والعقلانيَّة، والعلمانيَّة تحديداً وبالضبط بسبب الجرائم الشنيعة التي ارتكبتها الكنيسة.

• من خلال قراءتك للروايات هل هناك شخصية روائية تتمنى لو تصادفها في الحقيقة وتعيش إلى جوارها؟

نعم وبالتأكيد. أتمنى لو التقيت «زوربا» كازانتزاكيس، أو «ذئب بوادي» هيرمَن هسَّه، أو غريغور سامسا في «مسخ» كافكا. في السينما هناك شخصيات أكثر أود الالتقاء بها.

• كتابياً يتنازعك الشعر والسرد.. أيهما كان الأقدر على التعبير عن دواخلك؟

لا أعرف بالضبط. فيما يخصني فإن الشعر (خارج الشعر الملحمي، والذهني، الخ) حالة مباشرة، وطازجة، ولذلك فأنا مُتَّهم بأني «شاعر أوتوبيوغرافي»؛ وهذه «تهمة» لا أُحسن الدفاع ضدها، ولا أجيد توكيدها. كان هناك حديث حول ان مجموعتي الشعرية «ليلميَّات» هي يوميَّات شعرية تمت كتابتها في الليل كما يبوح العنوان، خاصة وانه لا توجد هناك عناوين للنصوص كما هو سائد الحال في نصوص المجموعات الشعرية التي نقرأ، بل ان مفتتحات تلك النصوص هي مكان، ويوم، وتاريخ كتابتها، بينما السائد أن يوجد ذلك في ذيل النص وليس في رأسه. غير ان سماء عيسى كتب مراجعة أحببتها كثيراً لتلك المجموعة يقول فيها ان من الخطأ الارتهان الى فكرة «التوثيق» بالمعنى الحرفي في تلك المجموعة الشعرية.

أما فيما يخص القصة القصيرة فإن الأمر مختلف؛ حيث لا بد أن تكون هناك هندسة، ومراعاة لتطور الشخصية، والحدث، والحوار، إلخ. لديَّ مخطوط مجموعة قصصية كتبت نصوصها على فترات متباعدة وأتمنى نشرها في القريب غير العاجل.

• هل تذكر لنا خمسة كتب موجودة على الطاولة القريبة منك ينتظرها دور القراءة؟

نعم، أستطيع ذلك: «سيجيء الموت وتكون له عيناك: مائة وخمسون شاعراً منتحراً في القرن العشرين» لجمانة حدّاد، و»فيودر دوستويفسكي: الرسائل» بترجمة خيري الضامن (أحاول ان أقرأ ما معدَّله قصيدة من الكتاب الأول، ورسالة من الكتاب الثاني، في كل ليلة؛ وهذا ما لا يُتاح دوماً)، و»الكتابة بالكاميرا: وجهاً لوجه مع إبراهيم كلستان» لبرويز مجاهد بترجمة أحمد حيدري، و»تركيز عميق: تأملات في السينما» لعبقري السينما الهندية ساتيجيت راي، و “Unthinking Eurocentrism” لإيلا شوحات وروبرت ستام. وفيما يخص العنوان الأخير فإن الأمر ليس قراءة أولى بل إعادة قراءة لبعض الصفحات ومراجعة للملاحظات التي كتبتها في الهوامش في فترة الدراسة.