1209973
1209973
المنوعات

الفكر الأصولي والتطرف لا يصنعان إرهابا.. ونحتاج «للمستبد العادل»

31 ديسمبر 2017
31 ديسمبر 2017

المفكر جلال أمين في حوار مع «عمان»:-

العقل العربي ذكي وسليم ومشكلتنا ليست ثقافية.. ولا يقلقني وضع العالم العربي -

حاوره في مسقط: عاصم الشيدي -

يفاجئك المفكر المصري الدكتور جلال أمين بأفكاره كثيرا حدّ الصدمة، لكن لا تلبث طويلا حتى تستوعب فكرته وتحاول أن تتفهمها. جلال أمين لا يؤمن بالديمقراطية باعتبارها مخلصا لجزء من الحالة العربية العصية على الحلول والقفز فوق التشظي والتراجع الذي يسيطر عليها، بل هو لا يؤمن أن ثمة مشكلة تدعو للقلق أو حالة من الانسداد الحضاري تعيشها الأمة، ولا يعتبر الحداثة الغربية تقدما يقابله بالضرورة «تخلف» عربي، فالتقدم التكنولوجي الغربي ليس معيارا لتقييم تقدم الآخرين، وهي ليست كل شيء. ومن المثير في هذا الحوار أن الدكتور جلال أمين يرى أن الفكر الأصولي والتطرف لا يصنعان إرهابا بالضرورة، وأن ما يعزى من نصوص متطرفة موجودة في الثقافة العربية موجودة أيضا في الثقافة الغربية وخاصة في العصور الوسطى!

لكن المهم أن جلال أمين الحاصل مؤخرا على جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب، لا يستطيع تفسير المشهد الحاصل في العالم العربي منذ عام 2011، فهو مشهد كثير الالتباس وكثير الغموض ولا يخفي أنه يؤمن بنظرية المؤامرة ويطرح إلى جوارها سؤالا يراه مهما: من الذي يتآمر علينا؟

في هذا الحوار يتحدث المفكر جلال أمين عن قضايا جوهرية في العالم العربي ويحاول أن يستقرئ بعين المفكر والعارف الكثير من التفاصيل.

■ في مرحلة ماضية كتبت كتابا شهيرا حمل عنوان «ماذا حدث للمصريين؟» نستعير بعضا من هذا السؤال ونسأل ماذا يحدث للعرب اليوم؟

هذا سؤال وارد ومهم ولكن من الصعب الإجابة عليه، وسأحاول قدر الإمكان أن أقول كلاما مفيدا في الرد على سؤالك هذا.

منذ بداية ما يسمى بالربيع العربي منذ حوالي سبع سنوات أستطيع القول إن أنسب وصف هو «إن الوضع غير مفهوم»، لا ندري بالضبط مغزى ما حدث/‏‏ما يحدث. كان لدي دائما استعداد أو ميل لأن أفسر ما يجري، أو أبحث عن تفسير، ولكني أعترف أنه منذ 2011 أصبح الأمر أصعب بكثير، وأحيانا يمر بذهني أن في الأمر مؤامرة، لكن ليس واضحا مَنْ الذي يتآمر ولأي هدف!!

طبعا إضعاف العرب دائما ما كان هدفا مطلوبا لأعدائهم. خاصة أن الولايات المتحدة التي تعودنا أن ننسب إليها الضلوع أو ترتيب مؤامرات ضدنا ليست في أحسن أحوالها وهي نفسها تمر بمرحلة تدهور مركزها السياسي والاقتصادي، أعني مركزها النسبي. كان زمان سهل علينا القول إن أمريكا تبحث عن مجالات استثمار وتصريف السلع لاستثمار أموالها ولكن هذا التفسير لم يعد مقنعا بسهولة لأن قدرة الأمريكان على الاستثمار والتصدير في الخارج أصعب بكثير مما كانت.

• ولكن لماذا لا نستطيع أن نقرأ مشكلتنا، أين يكمن الخلل، هل في العقل العربي على سبيل المثال؟

«ابتسم» أنا لا أميل أبدا إلى تفسير ما يحدث للعرب بهذا الوصف، أو بالقول إن العقل العربي مريض.

• أنت مدافع عن العقل العربي بشكل دائم في هذا الصدد؟

نعم. العقل العربي سليم، وليس فيه ما يعيبه إلا ما يراد له من قوى خارجية.. إنما العقل العربي نفسه لا يعاني من أي خلل، والعرب أذكياء وبرهنوا على ذلك بحضارة عظيمة في وقت ما من التاريخ. لا أؤمن أبدا بهذا. ولكن قد يكون هناك خلل ما داخلي.

• في الثقافة تعني؟

لا ليس في الثقافة.. لو قلت الثقافة فأنت تلوم العقل العربي أيضا، لكن قد يقال النظم الديكتاتورية في كثير من البلاد العربية، ولكن حتى هذه الديكتاتورية جاءت دائما بدافع خارجي. لم تأت لوحدها كانت دائما تأتي من الخارج. بعد عام 1945 مع نهاية الحرب العالمية الثانية كثرت الانقلابات في العالم العربي والعالم الثالث بشكل عام، وكان المقبول فكرا في تلك المرحلة أن الولايات المتحدة كانت ترث العالم الثالث من بريطانيا وفرنسا؛ ولأنها لم تكن لها أنصار قدماء كما كان للبريطانيين؛ فاحتاجت لديكتاتوريات جديدة تستطيع أن تصدر لها الأوامر. لكن الآن يصعب جدا تفسير غياب الديمقراطية بدوافع خارجية. قد يكون هناك خلل ولكن لا أستطيع أن أفسره بخلل في العقل العربي.

• إذن أين تكمن مشكلة العرب اليوم، أنت ترى سلامة العقل العربي، هل المشكلة اقتصادية إذن.. لماذا لا نشهد حراكا عربيا نحو الحداثة؟

أعطني أمثلة على بلاد في العالم الثالث تمر بظروفنا فعلت أحسن مما فعل العرب.

• الصين ، الهند مثلا.

الهند أداؤها جيد، إنما ليس بدرجة مبهرة في رأيي وما زال توزيع الدخل سيء لديهم، أما الصين فهي حالة خاصة بسبب حجمها وحجم سكانها الذي يسمح لها بحرية الإرادة.

• حتى الهند عدد سكانها كبير.

نعم. فيما عدا هذا العالم الثالث حالته أيضا لا تسر. أنا أميل إلى فكرة المؤامرة. لكن لنتذكر العراق .. العراق الذي كان بين المعسكرين انتهى، وكان العرب في الخمسينات والستينات وكثير من دول العالم الثالث قد استفادوا من الصدام بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، ومن ثمّ انجزوا بعض الإنجازات.. الآن الصدام تقريبا انتهى، ولم يعد هناك إلا معسكر واحد فقط. قد يكون هذا جزءا من التفسير أن العرب لا يوجد ما يشحذ هممهم للنهوض كما كان الوضع في ظل الانقسام بين المعسكرين.

• لماذا لا تحدث في الداخل عوامل تنشّط الحالة السياسية والثقافية؟

أقول إن المسألة محتاجة لبعض الوقت. من السهل أن تلوم الصفوة والمثقفين العرب لأنهم لا يقومون بالدور المرجو منهم، ولكن المثقفين أنفسهم نتيجة للظروف العامة التي تعيشها بقية شعوبهم. يمكن نفاجأ بأشياء سعيدة وسارة في السنوات القليلة المقبلة.

• كنا نعتقد أن ما حدث في عام 2011 سيحمل بشرى سارة ولكن ذهب في اتجاه آخر.

غريب ما حدث في ثورات 2011، هل العيب أن الجيش في الكثير من البلدان لم يترك لمن قاموا بالثورة أن يتسلموا الحكم.. ربما!!. من قام بالثورات في 2011 قاموا بالثورة واختفوا.

• هل السبب لأنهم لا يملكون رؤية بالمستقبل؟

لا. الرؤية تأتي بالممارسة. لا أحد ينتج رؤية في سكون. عادة الثوار إذا نجحوا في تغيير النظام السابق بعد شهور قليلة أو سنوات تنمو لديهم رؤية جديدة. ثوار 2011 لم تتح لهم الفرصة لممارسة الحكم بما يسمح لتكوين هذه الرؤية.

• ولكن ثورات الأربعينات والخمسينات والستينات التي حدثت في العالم العربي على سبيل المثال كان تأتي في سياق مقولات فكرية وفلسفية تمهد الطريق للثورة، لكن في 2011 هل كان لدى الجماهير العربية أفكار عربية ينطلقون منها نحو المستقبل.. بعضهم قال إنه تفاجأ بما حدث.

فوجئوا بما حدث في 2011؟! هل هذا صحيح؟!. أنا أرى أنه بالنسبة لمصر لم يكن سقوط مبارك مفاجئا. كانت الجماهير والناس تريد ذلك.

• كانت تريد وتتمنى، لكن هل كانوا يتوقعون ما حدث بتلك الصورة وفي ذلك الزمن القياسي؟

أعتقد أن هناك تفسيرين: الأول أن نظام مبارك كان ضعيفا لدرجة كان من السهل جدا أن يسقط دون أن تكون هناك، بالضرورة رؤية بديلة. أما التفسير الثاني: فهي نظرية المؤامرة ومفادها أن مبارك لم يكن قادرا على خدمة المصالح الخارجية فرأوا أن يستبدلوه وقد تم ذلك.

• في كتاباتك، دكتور، ترفض وصف العالم العربي بأنه متراجع عن ركب الحداثة وأنه «متخلّف» عن إنتاج التكنولوجيا.. كيف تقنعنا بذلك؟

أصلا أنا عمري لم أحب الحداثة. أنا ليس لدي رغبة أو ميل لتقليد الغرب أو اللحاق بالغرب.

• حتى تكنولوجيا؟

التكنولوجيا هي المشكلة. التكنولوجيا ليست شيئا مجردا، هي توجد لخدمة أهداف معينة: إنتاج سلع من نوع معين وأنا ضعيف الثقة أو الميل أو قليل الحب لما فعله الغرب. صحيح إنه هو حداثة ولكن الحداثة معناها هو الشيء الجديد أو الأجداد ولكن ليس الأجداد، بالضرورة، أفضل من الأقدم.

• لكن هناك بون شاسع بين ما أنتجته الحضارة الغربية وما ينتجه العرب اليوم إن كانوا ينتجون شيئا أصلا؟

هذا الواقع.. ولكن ما أقوله إن هذا لا يقلقني بالدرجة التي تقلقك. لأن لدي ثقة أو تقديرا كبيرا لروح الثقافة العربية، وإننا قادرون على إنتاج شيء. نحن خضعنا لمرض أن الغرب قد اكتشف الحقيقة ويجب أن نسير وراءه، وكان المفكرون العرب والمثقفون في النصف الأول من القرن العشرين أو حتى الثلاثين سنة الأولى مفتونين بالغرب، بل أستطيع القول إن منذ منتصف القرن التاسع عشر من أيام رفاعة الطهطاوي وحتى الحرب العالمية الثانية، لكن ثبت أن الغرب هذا مريض أيضا، وله أمراض كثيرة جدا.. وهو نفسه أخذ في اكتشافها شيئا فشيئا «شبنغلر» عندما كتب في عام 1917 كتاب «انحطاط الغرب» كان على صواب، أمم أوروبية تحارب بعضها مرتين في نصف قرن ويموت في ذلك ملايين لأسباب غير مقبولة بتاتا.. أليس هذا مجتمعا مريضا. حتى الحيوانات لا تنظم نفسها في جيوش بهذا الشكل. الغرب فقد جاذبيته للكثير من المثقفين العرب اليوم. صحيح لم يفقد جاذبيته للجميع ولكن بالنسبة لي فقد جاذبيته.

• سمعت أدونيس يتحدث لمحطة «بي بي سي» يقول ما نصه: «العرب في مرحلة انقراض وليس في مرحلة ثورة، نحن في بحيرة تجف وفيها سمك وهذا السمك يأكل بعضه البعض، هذا يقتلك باسم القومية وهذا باسم الدين وهذا باسم القبيلة».. ماذا تقول؟

اعتقد هذا فيه قسوة زائدة.. التطرف له أمر آخر. إنما هل العرب مرضى فعلا لهذه الدرجة التي يقول بها أدونيس؟ لا. أنا لست ميالا لهذا أبدا. أعتقد أن أحد الأسباب أن الذي يضع المسؤولية على العرب بهذا الشكل دائما هم/‏‏هو مفتون بالغرب.

• أغلب المتحدثون عن إصلاح الأمة العربية يتحدثون عن غياب الديمقراطية كأحد أسباب الراهن العربي.. الغريب أنك دكتور من الذين لا يؤمنون بالديمقراطية كسبيل لخروج العرب من محنتهم الحالية؟

اعتقد أن الديمقراطية خدعة كبيرة. أنت لكي تعرف الحقيقة لا تعد الأصوات فقط، لا تحسب، لا تحاول الوصول للحق من خلال تعداد الآراء. أعتقد أن لسيدنا علي بن أبي طالب مقولة «يعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال» هذه كلمة جميلة جدا، وهي ضد الديمقراطية بمعنى أن الحق يُكتشف من ذاته، من التجربة العقلية وليس من خلال أن ترى الناس إلى أين تريد أن تذهب وتقول هذا هو الصح. هذه أحد اعتراضاتي على الديمقراطية.

أما السبب الثاني فلأنها، أي «الديمقراطية» مشكوك أنها تحققت بالفعل.

• حتى عند الغرب؟

حتى عند الغرب.. سأضرب لك أمثلة في الغزو الأمريكي والانجليزي للعراق قيل إن معظم الشعب الإنجليزي كان معارضا لتلك الحرب.. ولذلك نحن نرى أن هناك قوة داخل هذه المجتمعات هي التي تؤثر في القرارات. السبب الآخر: الآن الدول الغربية خاضعة لسيطرة الشركات متعددة الجنسيات وهذه أكبر قوة اقتصادية موجودة الآن، وهي التي تغسل أدمغة الناس بوسائل الإعلام وتضع الأهداف التي تريدها وتريد الناس أن يفكروا فيها وللأسف ينجحون في ذلك، ويسمون ذلك ديمقراطية. لاحظ أن الصحف الأكثر توزيعا هي الصحف التي يسيطر عليها رأس المال.

• وما هو البديل من وجهة نظرك؟

زمان كنا نقول «المستبد العادل».. لكن كيف يأتي الآن هذا المستبد العادل.. هذا يأتي صدفة فقط. صحيح أن في هذا الكثير من التشاؤم، ومن الصعب التوصل للنظام الأمثل.. المفكر الأمريكي تشومسكي قال إن الديمقراطية في أمريكا هي أفضل نظام يمكن أن يشترى بالنقود.

• في كتابك «خرافة التقدم والتأخر» حاولت نفي فكرة أن ما حققه الغرب لا يمثل تقدما يعول عليه.. كيف تشرح ذلك؟

أنا مقتنع بهذا، وأستطيع الدفاع عنه. نحن افتتنا لدرجة كبيرة بالغرب، وجعلناه المقياس والحكم على الأمم الأخرى، ومن خلاله نقيس تقدم وتأخر الأمم الأخرى، ولكن فكرة التقدم نفسها هم من أقنعنا بها، هم أقنعونا أن التقدم التكنولوجي هو معيار التقدم. لكن يمكن أن يكون التقدم تقدما أخلاقيا، العلاقات العائلية قد تكون في مجتمع أفضل عنها في مجتمع فيه تقدم تكنولوجي وأكثر تقدما من غيره. التكنولوجيا ليست معيار الحكم على الأشياء وحدها.. حتى كلمة «تكنولوجيا» معناها الدقيق كيف تصنع الأشياء أو كيف تفعل الأشياء. السيارة الخاصة جاءت بدل القطار هل أنت متأكد أن السيارة الخاصة أفضل من القطار؟!!

• أيضا سمعتك مرة تقول «أي تقدم فكري لا بد أن يسبقه تقدم اقتصادي» هل المشكلة في العالم العربي اقتصادية أم فكرية؟

أقدر أقول لا بد أن نبدأ بالاقتصاد.

• لكن كيف نصنع اقتصادا بدون وجود تقدم فكري؟

هذا يشبه أيهما أول البيضة أم الدجاجة! أي عمل يحتاج إلى فكرة. معظم الناس يرون أنه من أجل عمل تقدم فكري لا بد أن تطعم الناس، أن تعطيهم الطعام واللباس والمسكن، ثم بعد ذلك يمكن أن يفكروا، وأن يصير لديك أمل في أن الفكر يمكن أن يتقدم. وهذا صحيح جدا لأن الجائع لا يمكن أن يفكر إلا في رغيف الخبز.

•ولكن بعض الدول العربية شهدت رخاء اقتصاديا ولكنها لم تفرز نهضة فكرية.

لأننا تعودنا تعريف التقدم الاقتصادي تعريفا غريبا، وهو معدل نمو الناتج القومي. وهذا غير صحيح. أنت يمكن أن تعرف التقدم الاقتصادي كيف يعيش الناس، أو معظم الناس.

• بعد مرور سبع سنوات كيف يقرأ جلال أمين ما حدث في عام 2011 في العالم العربي؟

أنا فرحت كما فرح غيري بما حدث في 2011 بدا الأمر وكأننا يمكن أن نكون على أعتاب نهضة، وسرعان ما تلاشى هذا الفرح. كيف اقرأ ما حدث أقول: أمل وخاب. خيبة أمل في شيء كان واعدا ولكنه لم يتحقق.

• لماذا لم يتحقق؟

ربما ضغوط خارجية، أنا ما زلت اعتقد أن سبب الفشل خارجي وليس داخليا.

• لعدم وجود نهضة تعليمية في العالم العربي مثلا، أو وجود ديكتاتوريات؟

التعليم يمكن أن يؤدي لأي شيء ومن بينها الديكتاتورية كما أنه يمكن أن يؤدي إلى الديمقراطية وذلك بحسب ما توصله أنت للطلاب، التعليم غير مضمون النتائج وهو يتوقف عليك ماذا تُعلّم وكيف تُعلّم. هل التعليم في البلاد التي تسمى متقدمة ممتاز لهذه الدرجة؟ ما أعرفه وما قيل من بعض المفكرين أن التعليم في تلك البلاد يُخرج مستهلكين فقط، تعليم يُعلّم الطلاب الرغبة في الاستهلاك.

• لو كنت وزيرا للتعليم ماذا ستفعل؟

طبعا لا بد من إعادة النظر في المقررات. أيضا التاريخ العربي كيف يُكتب. هل يكتب ويدرس بالطريقة الصحيحة الآن.. أعتقد لا.. الآن كله تمجيد للحاكم الحالي.. لكن بغض النظر عن هذه أعتقد أن التاريخ العربي يمكن أن يدرس بطريقة أفضل بكثير من حيث إحياء الثقة بالثقافة العربية وإعادة استعادة الثقة بالنفس، أعتقد أن التعليم العربي لا يرسخ الثقة، ثقة العربي بنفسه.

• هل قرأت التراث العربي بنفس المساحة التي قرأت بها الغرب؟

لا طبعا. لدي بعض المعرفة بالتراث، إنما أستطيع أن أتكلم عنه رغم ذلك، رغم أنني لم أخض فيه بعمق. وهذا بتأثير التربية التي تربيت عليها في المدارس وفي وسائل الإعلام، حيث لم أتلقَ الجرعة الكافية.

• ولكنك ابن المفكر أحمد أمين؟

صحيح. لكن أحمد أمين لم يكن لديه وقت يعلم فيه أبناءه في البيت. كنا نذهب للمدارس ونتلقى التعليم كما يتلقاه غيرنا.

• هل تفكر بنفس الطريقة التي كان يفكر بها والدك؟

يا ليت. كلما تقدم العمر أفهمه أكثر. أتعلم منه، وبشكل خاص من كتابه «فيض الخاطر» بأجزائه العشرة أكثر مما أفهمه من كتبه الشهيرة «فجر الإسلام» و« ضحى الإسلام». فيض الخاطر أفكار تتوارد عليه في مناسبات مختلفة فتعكس شخصيته أكثر من البحث الأكاديمي المنتظم في فجر الإسلام وبقية الأجزاء.

• بهذا المعنى أنت لست امتدادا لأفكاره ومدرسته؟

لا أعتقد أن أي ابن هو امتداد لأفكار الأب. وفي حالتي أقول يا ليت كنت كذلك.

• نعود لمحور آخر.. قلت مرة إن الإرهاب والتطرف ليس صناعة عربية.. لكن البعض يرى أن لهذا التطرف جذور في التراث العربي وفي النصوص الفقهية بشكل خاص؟.

والله حرام. هذا ظلم للتراث العربي. أي تراث حتى مع الأمم التي تسمى متقدمة ستجد فيها جذور تطرف. فكر العصور الوسطى في أوروبا ألم يكن فكرا متطرفا؟ ألم يكونوا يقتلون الناس بدرجة أكبر مما نقتل نحن الآن فيها المختلفون معنا بالرأي. التراث لأي أمة متعدد الجوانب، والمهم كيف تقرأه. ففي عصور النهضة وعصور لا أريد أن أقول التقدم، يقرأ التراث قراءة إيجابية ومثمرة وصحية، وفي عصور الانحطاط يقرأ قراءة سيئة. تراثنا فيه كل شيء ويمكن أن يقرأ بأشكال مختلفة.

• إذن هذا التطرف من أين يأتي مصدره؟

إن لم يكن بيد خارجية فأعتقد أن الفقر وسوء توزيع الدخل شيء سيء جدا وقد يؤدي إلى ذلك، وحتى الأيادي الخارجية لا بد أن تستخدم هذا الأمر وتوظفه وتستغل سخط الناس على فقرهم وعلى سوء توزيع الدخل فتجندهم في هذه الأعمال. فإذا أردت أن تقضي على التطرف لا تقضي عليه بالمواعظ والخطب وبتجديد الفكر الديني ولكن بتغيير أحوال الناس ويقول المثل العربي «اطعم الفم تستحي العين»

• لكن بهذه الطريقة التي يطرحها المثل أنت لا تغير فكرا وإنما تكتفي بتغيير لحظي لا يغوص في عمق الثقافة.

لا بأس. اطعم الفم بحيث تطعم الفم وتمنع التفاوت الشديد بين الثروات. تطعم الفم وتخفف من التفاوت وإذا استمر هذا لفترة طويلة فإن الفكر سيتغير تلقائيا.

• هناك مقولة غريبة لك تقول فيها «الفكر الأصولي والتطرف لا يصنعان إرهابا بالضرورة»؟

«صمت» كنت أعني ما أقول. يمكن أن يكون الواحد متطرفا ولكن غير فاعل.. متطرف ولكن يجلس في بيته.. يمكن أن تكون متطرفا ولك آراء غريبة ولكن لا تُقدم على عمل معين، لا تحمل السلاح لتقتل من يختلف معك في الفكر. يمكن أن يكون هناك متطرفون في الفكر ولكنهم متساهلون في التعامل مع الآخرين.. على الأقل لست قاتلا.

• دكتور بعد كل هذا العمر كيف تقرأ المستقبل العربي؟

والله أنا متفائل أكثر من كثيرين. العرب حالتهم بخير رغم كل شيء.. رغم كل شيء. أولا من أسباب التفاؤل أن الحضارة والثقافة العربية قوية ويصعب تصور أن تموت. وثانيا أن اللغة العربية لغة عبقرية، وجميلة، وأساس حضارة. لا يجب أن ننخدع أكثر من اللازم بالأحوال السياسية السائدة في بلد أو آخر. الحضارة العربية قوية وأعتقد أن المستشرقين الأجانب أدركوا أن العرب لو تركوا وشأنهم فإنهم يشكلون خطرا كبيرا، وأظن هذا هو السبب أو أحد أسباب العداوة الشديدة لمحاولة منع الوحدة العربية. المصري لا يكلم العراقي، والعراقي لا يكلم السوري وهكذا.. تمزيق العرب كان مطلبا ضروريا لحماية الغير من قوة الثقافة العربية.

• إذن ماذا يحتاج العرب اليوم للخروج مما هم فيه؟

أول إجابة تخطر في الذهن هو دور المثقفين. لكن معظم مثقفينا فقدوا الثقة بالنفس وبالثقافة العربية وبالأمة ومن ثم ما ينتظر منهم قليل إلا إذا جاء جيل جديد. وأنا عندما أرى تلاميذي أجد أملا أكبر من الأمل الذي كنا نعيشه عندما كنا طلابا في مثل عمرهم.. لديهم ثقة بالنفس وسهل جدا أن يحاولوا النهوض بالأمة من جديد.

• مصر اليوم أين هي؟

مصر تمر بأزمة صعبة.. الأحوال الاقتصادية ليست على ما يرام. كنا نعتمد على بعض مصادر الدخل التي ضعفت الآن مثل السياحة والاستثمارات الأجنبية حتى قناة السويس ضعفت إيراداتها وهذه أثرت على معدلات النمو وبالتالي الفقر يزيد والبطالة تزيد. والبطالة شيء سيء جدا لأن لها آثار نفسية واجتماعية غير الآثار الاقتصادية المباشرة.

• هل يمكن أن يوجد كل ذلك نواة لحراك ثوري آخر في مصر؟

يجب أن أعترف، وقد أكون مخطئا في رأيي، أن المصريين لا يثورون بسهولة وهذه ميزة وعيب. وهم من أكثر الشعوب صبرا. الشعب المصري صبور ومتحمل وهذا شيء جيد من الناحية الفردية لأنها تجعل الحياة أهون، لكن لها عيب من ناحية أن الأمة لا تنهض.