أفكار وآراء

الثقافة المجتمعية .. مراوحة بين الخطأ والصواب

31 ديسمبر 2017
31 ديسمبر 2017

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

إن المسألة الثقافية للمجتمع؛ مسألة كثيرة التعقيد، ومجموع البرامج الموجهة لمحاربة الممارسات الخاطئة، في بعض الأحيان، ليس يسيرا استيعابها بالصورة المتوقعة، لأن استيعابها والإيمان بتطبيقها مرهون على عوامل نفسية واجتماعية شديدة التعقيد.

تستلهم المجتمعات البشرية من مدخرات ماضيها ما تستعين به لتبيان الطرق التي تسلكها في حاضرها في كثير من الأحيان، لأن مجموع تعاملات الإنسان مع واقعه هو نتاج تجارب مختلفة عبر مراحل العمر الممتدة، ويستحيل أن تتجرد المجتمعات من متعلقاتها المختلفة بين عشية وضحاها؛ وهي تشق هذه الطرق؛ نعم؛ نتفق أن الوسيلة تختلف مع كل تطور إنساني مفضٍ الى المرحلة اللاحقة من عمر التنمية المحيطة، ولكن لا يمكن بأي حال من الأحوال التنصل التام مما مضى، وحتى يتم التخلص من هذه المتعلقات يحتاج الى عمر زمني ليس يسيرا، حتى يتكون رصيد اجتماعي آخر يمكن الاتكاء عليه، واعتماده نموذجا يلغي ما كان قبله، ومن ملاحظة الواقع أن المجتمعات ذاتها تعيش حراكا «متموضعا» لا ينطبق عليه الحراك الرأسي، ولا الحراك الأفقي خاصة في بدايات التكُون؛ حتى مرحلة النضج والانطلاقة، ومن خلال هذا «التموضع» يحدث التغيير والتبديل والاستبدال في مختلف الجوانب المجتمعية، بما يتضمنه ذلك من محاككة مستمرة على شكل صراعات بين الأجيال؛ يعلو سقفها حينا، ويخفت حينا آخر؛ وفي هذه الصراعات يحدث التبدل والتغير، حيث إن أفراد المجتمع يصلون الى مستوى من الوعي بما يؤهلهم في هذه المرحلة الى الاستبدال والتغيير، فهذا صح، وهذا خطأ، وهذا غير مناسب في هذه المرحلة، وهذا لا يتفق مع الواقع، وهذا «اكل عليه الدهر وشرب» وكل ذلك انعكاس لمستوى القناعات التي وصل إليها الأفراد، وأغلبها قناعات شخصية بحتة، لأن القناعات الجماعية تأخذ زمنا أكبر للتطبيق لتباين الفهم؛ وأسباب ذلك كثيرة؛ ليس هنا مكان مناقشتها.

ينظر الى هذه السياقات المجتمعية المختلفة في كافة مكوناتها من القيم؛ سواء القيم المتوارثة؛ والصالح بعضها لأزمنة ممتدة، او القيم القابلة للتبدل والتغير بين فترة وأخرى، نظرا لاستحداث أدوات أكثر حيوية وقابلة للتطويع لمتطلبات الحاضر، على أنها مسارات تتحدد من خلالها قدرة أبناء المجتمع على تكوين بناءات جديدة لحالتهم المجتمعية هذه في كل زمان ومكان، ومتى تحقق هذا البناء لدى أبناء مجتمع ما، حقق شرط النمو والتقدم، والقدرة على توظيف مجمل الأدوات المتحققة في مرحلته، او تلك المجلوبة من مراحل زمنية بعيدة، وتوظيف كل ذلك بما يتوافق مع المرحلة التنموية التي يعيشها الفرد في المجتمع، مع اليقين أن أي توجه من هذا النوع، يقابل دائما مع مختلف المجتمعات البشرية بالكثير من المواجهة والرفض والنقد، وعدم التقبل السريع، وبالتالي فعلى من عزم أمر التغيير، وعلى مستواه الشخصي، عليه أن يتحمل كافة الضغوطات التي سوف يواجهها من كثير من أبناء المجتمع، سواء على شكل نقد مباشر معلن، او نقد مبطن، ولذلك لا يجب أن نستغرب من طرح بعض الأفكار الـ «نشاز» في تقييمنا لها في لحظة الطرح من بعض أفراد المجتمع، وهي الأفكار التي تقابل بمثل هذه المواجهات الرافضة، وكذلك في المقابل لا يجب أن يتملكنا نفس الشعور عندما نرى الطرف الآخر المخاطب بمثل مواقفه هذه فكلا الطرفين لهما مبرراتهما للدفاع عن مشروعيهما؛ فالأول: ينطلق من مبدأ الواقع الذي يعيشه ويريد تشكيله بالقناعات التي يؤمن بها فيطرحها، والثاني: هو أيضا ينطلق من واقع مخضب بشيء من الماضي؛ ويريد أن يحافظ عليه ولو لفترة بقائه زمنيا في هذه الحياة ، وفق إطار معين يرى فيه أهمية البقاء لاستمرار الهوية والانتماء.

يرى البعض أن هناك ضبابية في طرح هذه المواقف والمفاهيم من كلا الطرفين، ويطرحون في ذلك أسئلة عدة: فلما يقدُم الأول على طرح أفكار نشاز في مجتمع محافظ ، على سبيل المثال ؟ وفي ذات المواجهة يطرح آخر سؤال عن الضرورة الى اتخاذ مواقف رافضة لأي فكر جديد ؟ فهل يخالج الأجيال السابقة شعور الخوف على فقدان ما ورثته من قيم، وما شكلت لها هذه القيم من بناءات متفردة تفخر بها؟. ويقف طارح السؤال على حقيقة أن كلا الطرفين يعيشان في بيئة اجتماعية يتقاسم أفرادها نفس معززات الاستمرار او التراجع، ولعل التعليل بتوالي الأجيال هو ما يزيح ضبابية الفهم؛ فوق ما تعيشه الحياة نفسها من نمو مطرد، يؤسس قناعات جديدة عند الأجيال، وخاصة الأجيال الأكثر حداثة، وإن كانت أقل تجربة حياة في الواقع، وهنا أيضا أضرب مثالين - مما سمعت عن تجارب آخرين - وذلك لتقريب الفهم؛ الأول: فتاة في عمر الـ (27) عاما؛ تتخذ قرارا لتصبح لاعبة «باليه» وهي من وسط اجتماعي قروي محافظ، فهل يتوقع أحدنا كم من المواجهات الرافضة التي سوف تقف أمام هذه الفتاة حتى وإن استطاعت أن تقنع أفراد أسرتها ؟ ، فهل تستطيع أن تقنع أفراد مجتمعها الذي تعيش في وسطه، ولو بالكم الهائل من المسوغات التي تقف عليها ؟ وما هي مجموع العقوبات التي سوف تتعرض لها إن هي أصرت على موقفها وأصبحت لاعبة «باليه» وإن بلغت من الشهرة ما بلغت؟، وأقرب العقوبات رفض المجتمع لتزويج أحد أبنائه بها، ومثال آخر: أن احد أبناء إحدى القرى مدرس متخصص في التربية الرياضية، عزم على تشكيل فريق كرة قدم من فتيات قريته، لقناعته بأهمية أن يكون هناك فريق قدم من الفتيات، كما هو الحال من وجود فريق كرة قدم من الفتيان، وكما هو شائع في المدينة التي كان يتلقى فيها دروسه الجامعية، فواجه نفس المواقف الرافضة، وكان التعليل أنه كيف يسمح الآباء لهؤلاء الفتيات لأن يختلطن بالرجال في مراحل متقدمة في عمر الفريق، وكيف سيسافرن، وكيف سيكُنَّ أمام مرأى الرجال في اللقاءات الكروية المماثلة، وغيرها من التعليلات الحاضرة، وكلا المشروعين سيظل يتأرجح القناعات، بوقوفهما على أرض الواقع ، لفترات تمتد الى تحقق أعمار الأجيال اللاحقة في المشروع الإنساني الممتد، وربما عندما تتعزز القناعة بكلا الأمرين على أنهما أمران عاديان، يكون شخوص الفريقين أصبحا في عمر الكهولة.

تتأصل «ثقافة العيب» عند كل جيل على حده، صحيح أن الأجيال المتلاحقة يظل الإيمان بـ «ثقافة العيب» إيمانا نسبيا تتضاءل هذه النسبة مع كل عمر متقدم، ولكنها تبقى، وكل جيل سابق يتكئ عليها للتعليل للموقف الذي يقف عليه تجاه أي جديد ينشأ، وخاصة المتعلق منه بمحاذير أبناء المجتمع، ولقد سمعت عن تجارب كثيرة في المجتمعات التي يطلق عليها «متقدمة تقنيا» أن هناك أيضا أفرادا يقتتلون على موروثاتهم، ولا يسمحون للأجيال المتلاحقة أن تعري هذه الموروثات، وتتخلص منها في أقرب سلة مهملات، مهما كان السبب، فإذا كان هذا الحال عند تلك الأمم الذي يرتفع عندها سقف التحرر من كثير من القيم، فما بال الأمر عند الشعوب التي لا تزال تعيش على فطرتها الأولى؟ يقينا سيكون موقفها أكثر تصلبا، وأكثر حرصا على المحافظة عليها، وستخيم «ثقافة العيب» على أي مشروع إنساني يرى فيه أبناء المجتمع أنه يصطدم بالقناعات التي تبنوها زمنا طويلا لتعزيز قناعاتهم للتمسك بما ورثوه عن آبائهم، وبما آمنوا به للبقاء على شخصيتهم الاجتماعية المتميزة بين المجتمعات الأخرى، وهي المشيرة الى الهوية والانتماء.

تقترب كثير من الآراء الى أن مسألة الخروج عن المألوف والمتعارف عليه، وهى مسألة ليست يسيرة، ويراهن البعض على منابع المعرفة؛ ومنها: التعاليم الدينية، والتعليم الحديث، وبرامج التثقيف والإرشاد، وحالات الاختلاط بالشعوب شرقا وغربا، وعوامل تلاقح الأفكار، وتبادل الخبرات، في الخروج من مأزق التصلب في المحافظة على كثير من القيم المتوارثة، ومن المعايشة للواقع نجد أن لكل هذه المنابع تأثيرها نسبيا، والمسألة تعتمد كثيرا على عوامل نفسية واجتماعية، والدليل أن هناك الكثيرين من أبناء المجتمعات المحافظة عاشوا في الدول التي تشكل فيها نسبة التحرر نسبة كبيرة، ومع ذلك عادوا محافظين أكثروا عما كانوا قبل ذهابهم الى هناك وتأثرهم بسلوكيات ومشاهدات المجتمعات في تلك الدول، وهناك بعض ممن لم يسافروا حتى خارج حدود الدول المجاورة؛ ومع ذلك يرتفع عندهم سقف التغيير الى مستويات لا تكاد تصدق أو تستوعب. والخلاصة التي يمكن الخروج بها من خلال هذه المناقشة، هي أن المسألة الثقافية للمجتمع؛ مسألة كثيرة التعقيد، ومجموع البرامج الموجهة لمحاربة الممارسات الخاطئة، في بعض الأحيان، ليس يسيرا استيعابها بالصورة المتوقعة، لأن استيعابها والإيمان بتطبيقها مرهون على عوامل نفسية واجتماعية شديدة التعقيد.