1205505
1205505
إشراقات

عناية الإسـلام بالأســــرة والمجتمـع

28 ديسمبر 2017
28 ديسمبر 2017

أسس الأسر السعيدة -

يحيى بن سالم الهاشلي - إمام وخطيب جامع السلطان قابوس بروي -

«إن منشأ اهتمام الآباء بأبنائهم في الصغر الرحمة الناشئة من ضعفهم، ولذلك قضت حكمة الله تعالى أن يرد الأبناء هذا الدين لوالديهم عندما يبلغوا مرحلة الضعف الثانية للإنسان عند كبر سنه فوردت العديد من الآيات الحاثة والموجبة للإحسان للوالدين، فالواجب على الإنسان أن يرد الجميل لمن أحسن إليه وكان سببا في هنائه، والوالدان لهما الدور الرئيسي في ما سيجنون من أبنائهم عند الكبر فما تزرع اليوم من محبة وحسن تربية تناله غدا برا وإحسانا من أبنائك».

لقد كان من حكمة الله تعالى في خلق الإنسان أن جعله كائنا اجتماعيا بفطرته ليحقق غاية خلقه من الاستخلاف في الأرض وعمارتها بالعمل الصالح، ولتتحقق هذه الغاية وهبه الله تعالى نعمة الأسرة متمثلة في الزوج والأولاد والذرية قال تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ۚ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ)، فالأسرة هي وحدة عضوية في بنيان المجتمع والأمة، وإن الناظر في غالب المخلوقات حولنا ليجد أنها تتكون من أسر قد تكون من أعداد صغيرة كما في بعض الطيور والحيوانات وقد تصل لمئات وآلاف كما في النحل والنمل، وعند النظر في حياة هذه المخلوقات ليعلم الحكمة من نظام الأسرة التي تسير عليه في كسب أرزاقها وأداء وظائفها ورعاية بعضها البعض وعمارة مساكنها (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ۚ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ).

ولقد جاء الإسلام لينظم الحياة البشرية في كافة جوانبها، ومن الجوانب التي اعتنى الإسلام بتنظيمها وحفظها الأسرة لما في ذلك من حفظ للجنس البشري الذي بحفظه وبسلامة مجتمعاته حفظ للكون، فنظم العلاقات التي تجمع أفراد الأسرة الواحدة كما نظم علاقاتها بغيرها من الأسر، فعني ببيان العلاقة التي تربط الأزواج من أول الخطبة مرورا بعقد الزواج وما يترتب عليه من حقوق وواجبات بين أطرافه انتهاء بمسائل فك هذا الارتباط بالطلاق أو الفسخ وما يترتب عليه أيضا من التزامات، كما أطر العلاقة التي تجمع بين الآباء والأبناء فبين الحقوق والواجبات لكل الأطراف في أمور الحياة بل وحتى ما يكون بعد الوفاة وما يكون من أمر الميراث، كل ذلك في تنظيم ليس له مثيل بين نظم البشر.

فإن نظرنا في الرابطة الأساسية التي تؤسس الأسرة وهي الزواج فنجد أن الإسلام عده من أعظم الروابط بين البشر فجاء في الكتاب تسميته بالميثاق الغليظ في قوله سبحانه (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) كما نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يخصه بالذكر في خطبته في حجة الوداع وسماه أمانة الله فقال في وصيته بالنساء: (واستوصوا بالنساء خيرا ، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله)، كما بين الإسلام أساس العلاقة التي يقوم عليها الزواج بأنه المودة والرحمة (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) وإنما جعل الله تعالى المودة والرحمة أساسين في بناء الزواج المستقر السليم لتتحقق السكينة بين الزوجين ويستمر الزواج بلا منغصات، فالزوجان هما شخصان مختلفان في التفكير والميول تعمل المودة بينهما على تحقيق الانسجام النفسي والقبول العاطفي، كما أن الرحمة هي المعاون لهما على تحمل أعباء الحياة وتكوين الأسرة وتربية الأبناء، بهذين الأساسين يكتب للأسرة السكينة والنجاح، وقد أرشد الإسلام لأسس اختيار الأزواج ليكون أساس العلاقة سليما من بدايته، فطبائع الناس مختلفة ولكن هناك أساسيات لو توفرت في طرفي العلاقة كان داعيا لنجاحها، ففي اختيار المرأة للرجل أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى معيارين ينبغي له أن يتحلى بهما فقال: «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»، إن معياري الدين والخلق في قبول الرجل يعطيا العلاقة نسبة نجاح كبيرة، فصاحب الدين يمنعه دينه من ظلم المرأة ومنعها حقا من حقوقها، والخلق إنما هو دليل حسن المعاشرة والألفة فقد يحصل أن يكون الإنسان متدينا لكن يفتقر إلى أخلاق المعاملة التي لا تعد نقصا دينيا لكن يصعب التعامل معه بدونها كونه غضوبا أو به شح فالمرأة مراعاة لطبيعتها قد يصعب عليها التعامل مع مثل هؤلاء الرجال فينبغي أن تجعل اختيارها مبنيا على هذين المعيارين ولذا كانت الحكمة من شرط أذن وليها في إتمام الزوج مطلبا أساسيا كون الرجال أدرى بأحوال الرجال ويرونهم من زاوية غير التي ترى منها النساء، وكذلك نجد في جانب اختيار الرجل للمرأة جاء التوجيه النبوي أن يكون معيار الالتزام الديني هو المعيار الأول في الاختيار ففي الحديث: «تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولجمالها، ولحسبها، ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك»، فالنبي صلى الله عليه وسلم يبين ما ينظر إليه طالب الزواج في المرأة من مال وجمال ومكانة اجتماعية والتزامها الديني، وهنا يوجه إلى أن يكون المعيار الرئيسي هو أن تكون متدينة ولا مانع من وجود باقي الصفات لكن أن لا تكون هي أساس الاختيار، إذ هي أعراض زائلة ومبناها الطمع والتعلق الوقتي ولا تصلح أن تكون هي الأساس في بناء عائلة متماسكة صالحة تكون بها رفعة الأمة، وفي واقع حياتنا هناك من الوقائع الحقيقية المشاهدة في مجتمعاتنا تدلل على صحة هذا المنهج في الاختيار، فكم من امرأة ارتبطت برجل بعيد عن سبل الهدى ونظرت إلى ما يملك أو ما يعمل أو حسن مظهره وجميل منطقه، فكانت العاقبة وبالا عليها وعلى أبنائها وتمنت أن يرجع بها الزمان لتحسن الاختيار، وكذلك بالنسبة للرجال من طمع في مال أو استحسن جمالا ثم ما لبث أن زال ما كان يرجو فتدهورت حال الأسرة لذلك، وما ارتفاع نسب الطلاق وحالات التشتت الأسري وما تشهده قاعات المحاكم إلا كان مسببه الرئيسي سوء اختيار شريك الحياة، وأصبح الطلاق الذي في أصله دواء لبعض الاستثناءات وحل لبعض المشكلات أصبح معضلة تؤرق المجتمعات لما ترتب عليه من تدهور لأوضاع الأسر، لذا كان لزاما أن تكون هناك برامج توعية وتوجيه لكل مقبل على الزواج يكون فيها بيان أسس اختيار الشريك وكيفية التعامل مع المشاكل الزوجية والأسرية، ليكونوا على بصيرة من الأمر نفسيا وعلميا عند دخولهم الحياة الجديدة عليهم، فقد كانوا في مرحلة البنوة وهم ينتقلون لمرحلة الأبوة. ومن الجوانب الأسرية التي اعتنى الإسلام بها وتؤسس لأسر سعيدة علاقة الآباء بالأبناء، فإلى جانب العلاقة الزوجية تنشأ في الأسرة بالزواج علاقتي الأبوة والبنوة، ولكل واحدة منهما حقوق وواجبات أساسها الرحمة، فالأبوان لا يقتصر دورهما على تهيئة المسكن والملبس والمأكل بل عليهما تجاه أبنائهما واجب الرعاية وحسن التربية والتقويم، وفي ذلك جاءت الإرشادات الشرعية للأبوين ببيانها، ففي الكتاب العزيز جاء قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) فكما يسعى الإنسان لوقاية نفسه يكون عليه وقاية أهله الذين في نطاق مسؤوليته، وقد ورد في الحديث: «وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْهُمْ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ»، فالمسؤولية مشتركة بين الزوجين في القيام على تربية أبنائهم كل وفق طبيعته وقدراته، كما يلفت الإسلام نظر المربين إلا بعض الأمور المهمة في تربية الأبناء يكون فيها صلاحهم في الدنيا والآخرة، فجاء التوجيه النبوي لتعليم النشء كتاب الله فورد (علموا أولادكم القرآن فإنه أول ما ينبغي أن يتعلم من علم الله هو) ولا يخفى ما في ربط الطفل بكلام الله وأن يشب وهو متعلق القلب والعقل والروح به من صلاح نفسه وتوجيهه لصلاح المجتمع والعالم، فالقرآن منهج الحياة الصالحة وسعادة الدنيا والآخرة، كما جاء الأمر للوالدين بتعليم أولادهما الصلاة فهي عمود الدين وفي حفظها حفظ للأخلاق والسلوك ونجد أن ذلك من سنة المرسلين يقول الله تعالى مخاطبا نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ) ووجه النبي صلى الله عليه وسلم الآباء لذلك فقال: «علموا أولادكم الصلاة إذا بلغوا سبعا واضربوهم عليها إذا بلغوا عشرا وفرقوا بينهم في المضاجع»، وتكمن أهمية الصلاة في التربية والحرص على تعويدها الأولاد في سن مبكرة، أن من يحافظ عليها تتكون لديه رقابة داخلية على سلوكه وأعماله، وينتقل هذا الالتزام في تعامله مع غيره، يقول الله تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) وبذلك تحقق الصلاة أهدافها التربوية إلا جانب أهدافها الإيمانية، وكذلك غيرها من العبادات والعادات الحسنة ينبغي أن تغرس في الأولاد منذ الصغر كي تكون متأصلة في نفوسهم وقد قيل من أحسن تربية أبنائه صغارا سعد بهم كبارا.

إن منشأ اهتمام الآباء بأبنائهم في الصغر الرحمة الناشئة من ضعفهم، ولذلك قضت حكمة الله تعالى أن يرد الأبناء هذا الدين لوالديهم عندما يبلغوا مرحلة الضعف الثانية للإنسان عند كبر سنه فوردت العديد من الآيات الحاثة والموجبة للإحسان للوالدين كما في قوله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ففي هذه الآية بيان لدورة حياة الإنسان وموضعه منها فقد كان جنينا ثم رضيعا يعتمد على والديه ثم يحل محلهما فيذكر بالخير صنيعهما، وهنا يأتي الإيجاب بلزوم الإحسان إليهما لما في نفس الإنسان من نكران للفضل، بخلاف الوالدين الذين فطرا على الرأفة والشفقة بأبنائهم، وإن مما يؤسف له أن نرى في الناس من يعق والديه وهو يقرأ في القرآن أمر الله في كثير من مواضعه بالإحسان إليهما وبرهما، ويسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم التحذير بأن العقوق من أكبر الآثام فيقول: (أكبر الكبائر الإشراك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وقول الزور أو قال وشهادة الزور) بل إن الله تعالى أعظم من مكانتهما فقرنها بعبادته وتوحيده ومنع أي جنس أذى عنهما فقال سبحانه: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)، فالواجب على الإنسان أن يرد الجميل لمن أحسن عليه وكان سببا في هنائه، والوالدان لهما الدور الرئيسي في ما سيجنون من أبنائهم عند الكبر فما تزرع اليوم من محبة وحسن تربية تناله غدا برا وإحسانا من أبنائك. فمن خلال هذه الأسس تبنى الأسر السعيدة التي يكون منها العطاء والبناء للأوطان، وتخرج منها سواعد تبني نهضة الأمة وتعمر الأرض بالخيرات.