أفكار وآراء

دورات الصعود والهبوط

27 ديسمبر 2017
27 ديسمبر 2017

مصباح قطب -

[email protected] -

الحياة هكذا . يوم حلو ويوم مر . حينما يتعلق الأمر بالأسواق فإن علم الاقتصاد يسمى ذلك باسم «الدورات الاقتصادية» ، ويضع لها ملامح وآجال ، ويجتهد في شرح كيفية توقيها أو تجنب أضرارها أو تقليلها الى أبعد حد على الشركات والمؤسسات أو على الاقتصاد الوطني . لكن في النهاية ليس من رأى كمن سمع أو قرأ فقط. منذ سنوات  طويلة ذهب الدكتور جودة عبد الخالق -أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة - الى ماليزيا في أعقاب الأزمة المالية الآسيوية التي اندلعت في 1997، وعاد ليكتب مقالا بعنوان «..ترى الناس سكارى وما هم بسكارى» ، أوضح فيه مقدار ما لحق بالأفراد /‏‏ الأسر من أضرار في مدخراتهم وأجورهم الحقيقية ووظائفهم ومنازلهم ( التي فقدوها نتيجة العجز عن سداد الأقساط ) وهكذا ، وكيف ألحقت الصدمة بأعداد هائلة من البشر متاعب نفسية وصحية وسلوكية ، قاسية أو صعبة أو منحرفة . تجربة أخرى عشتها أنا أخيرا. كنا في الصحافة المصرية نتحدث كثيرا وطوال الخمسة عشر سنة الماضية عن الأرباح الأسطورية أو الضخمة أو الاستثنائية التي تحققها صناعة الاسمنت ، وكان منا من يلوم الذين خصخصوا المصانع العامة أو من يلوم الأجانب الذين اشتروها أو الشركات الخاصة الجديدة وشبكات التوزيع على الزيادات غير العادية والمتتالية في الأسعار، رغم أن الأرباح ليست قليلة من البداية.

هل كان كل ذلك دقيقا ؟ لا استطيع أن أؤكد ، وإن كنت ممن كتبوا في أكثر من موضع أو تحدثوا عن انخفاض تكاليف الإسمنت - حيث الخامات الأساسية محلية - مقارنة بأسعار البيع للمستهلكين. استمر الحال على هذا المنوال طويلا ومنذ 2006 بالتحديد وحتى ما بعد يناير 2011  لكن تناول الميديا لصناعة الاسمنت هدأ نسبيا بعد تحريك أسعار الطاقة عدة مرات ، بحيث خفت صوت من ينقدون الحكومة لكونها تبيع الطاقة بأسعار رخيصة للصناعة التي تكسب كثيرا. ومنذ شهر عقد المركز المصري للدارسات الاقتصادية ندوة حول تقييم برنامج الحكومة بعد عام من بدء الإصلاحات الاقتصادية ، وفيه ذكر أحد رجال الأعمال أن القطاعات التصديرية حققت مكاسب جيدة نتيجة تحرير سعر الصرف لكن الذين يعتمدون على مدخلات مستوردة ويبيعون بالداخل تعرضوا لموقف صعب. وإذ علقت القاعة على أرباح المصدرين ومصانع التصدير وذكر احدهم أن برنامج الإصلاح منحاز لرجال الأعمال فقط ، انبرى  رئيس إحدى اكبر شركات الاسمنت - غير حكومية - في مصر، وكان يرأس الجلسة ، ليقول : «كان يجب أن يكون معنا احد أصحاب مصانع الاسمنت لتعرفوا كم تعاني تلك الصناعة » بمعنى أن هناك رجال أعمال يعانون ولم يزد حرفا.

لتكتمل الصورة حرصت على أن استجيب لدعوة وجهتها الى شعبة صناعة الاسمنت باتحاد الصناعات المصرية من أجل نقاش دائري بين أهل الميديا وأهل الصناعة وفيه ظهرت معلومات تدل على دورة هبوط أو تراجع مخيفة بالفعل حتى لو افترضنا أن ليس كل ما قيل دقيقا.

كان هدف اللقاء الذي تم منذ أيام - وكما قال الداعون انفسهم -

هو « تعريف الرأي العام بالأوضاع الحقيقية للصناعة » ، كما قال مدحت استيفانوس - رئيس مجلس إدارة الشعبة -

حضر اللقاء ممثلون لشركات مصرية وعربية و أجنبية . قال ممثلو الصناعة أن أرباح شركات الاسمنت تلاشت و أنها تدخل الى مرحلة السحب من الرصيد بحيث أن الفارق بين شركة أو أخرى سيكون أيهما سيفلس أولا وذلك ما لم تتغير الرسوم والأتاوات ونظم تسعير الطاقة للاسمنت- ولكل الصناعات عموما - وتكاليف النقل وتلك عوامل ترفع تكاليف الطن الحالية وتجعل الشركات عاجزة عن المنافسة التصديرية من ناحية وتمنعها من المنافسة الصحية بالداخل من جهة أخرى. وذكر الأعضاء ان أسعار الاسمنت في مصر هي الأرخص عالميا حيث أن سعر الطن في أمريكا 100 دولار وفي مصر 40 دولارا فضلا عن أن الاسمنت المصري أعلى جودة ومع ذلك هو لا يستطيع أن ينافس خارجيا لانخفاض تكلفة المنافسين عند نقطة الوصول . ولذلك فإن أي مصنع يقوم بتصدير كميات قليلة لمجرد تدبير عملة أجنبية وليس لتحقيق ربح . أشاروا الى تراجع معدل الزيادة في الطلب على الاسمنت بعد ارتفاع الدولار وان الطاقات الحالية تصل الى 70 مليون طن وستصل الى 88 مليون طن سنويا بعد دخول الخطوط الجديدة بينما الاستهلاك الحالي نحو 55 مليون طن بما يعني وجود فائض عرض يهدد سوق الصناعة بـ «التدمير».

كون المنتج المصري أعلى من الأمريكي تم توضيحه فالمصانع المصرية تركز على نوع واحد عالي الجودة ويتم استخدامه في استخدامات لا تتطلب هذا المستوى المرتفع من الجودة بطبيعتها ، لكن السلطات في مصر - كتفسير - ترى انه بما انه يصعب عليها التحكم فيمن يقومون بالبناء وهي تخشى من سقوط مبان وتعليق الخطأ في رقبة الحكومة لذا تتشدد في إنتاج الاسمنت الى درجة أعلى من المطلوب.

ذكر مدحت استيفانوس - رئيس الشعبة والخبير في صناعة الاسمنت- أن الاسمنت يشكل 8 %من تكلفة الوحدة السكنية ، وان سعر متر السكن كان 250 جنيها في مساكن الدولة حتى بداية التسعينات بينما كان سعر طن الاسمنت وقتها 185 جنيها والآن يبلغ سعر الوحدة الحكومية في الاسكان الاجتماعي نحو عشرة امثال السعر السابق بينما تضاعفت أسعار الاسمنت اربع مرات فقط في تلك الفترة. شكا استيفانوس وكل الحاضرين من ارتفاع الفحم - الذي يستخدم كبديل أرخص لإنتاج الطاقة اللازمة للمصانع مع ضوابط بيئية - بعد تحرير سعر الصرف وكذا ارتفاع طن المازوت من 180 جنيها منتصف التسعينات الى 3500 جنيه حاليا  وقال الأعضاء أيضا أن الشركات لم تحقق الأرباح الأسطورية التي يتحدث عنها المجتمع وان العائد على الاستثمار في افضل الحالات كان 16 %  والآن فان نصف المصانع على الأقل يحقق خسائر.

قال احد الأعضاء أن الحكومة تستسهل فرض رسوم على الاسمنت كل وقت بحجة ان «كذا جنيه على الطن لن تضرهم»  .الطريف أن المنتجين قالوا أيضا انهم عرضوا مشاكل ارتفاع التكاليف وزيادة الرسوم على المسؤولين فلم يجدوا تحمسا لمساندة الصناع لأنهم متأثرون بما ينشر في الصحافة عن المكاسب الخرافية للاسمنت !. قالوا أيضا أن طن الحديد كان يباع بـ 2500 جنيه حين كان طن الاسمنت بـ 200 جنيه والآن وصل الحديد الى 13 ألف جنيه بينما لا يصل طن الاسمنت من المصنع اقل من 800 جنيه . ( الدولار = 17.7 جنيه ) ، واكد الحاضرون أيضا أن القيمة السوقية الحالية لشركات الاسمنت لا تزيد عن 70% من تكاليفها الاستثمارية بما يعنى أن الشركات لو أرادت الخروج من السوق فلن تحقق أي مكاسب رأسمالية بل ستخسر .

في المقابل أكد الصحفيون الحاضرون - ومنهم رؤساء تحرير صحف وإذاعات وفضائيات كبرى - انهم يخشون من تمهيد الصناع لرفع الأسعار ورد استيفانونس بأن ذلك غير وارد إطلاقا فالاتفاق على زيادة هو ضد القانون أولا ثم أن السوق لا يتيح لأحد أن يرفع السعر حتى لو أراد.

وقال الصحفيون أيضا أن المصانع يجب أن تحترم آليات السوق التي دخلت هي بمقتضاها الى الصناعة التي كانت كلها حكومية حتى أوئل التسعينات وانه ليس من المعقول ان نتغنى بآليات السوق لدفع الحكومة الى الخصخصة ثم تطلب التراجع عن العمل بها عند أول أزمة ، وأضافوا ان الرئيس الأمريكي بوش الابن - وهو رجل يقف في أقصى اليمين - قرر إشهار إفلاس اكبر شركة تأمين في العالم (A.I.G ) وقت الأزمة العالمية 2008 حيث صمم على ان يدفع من يخطئ الثمن . اكد الصحفيون أيضا تضارب البيانات بين القول بتراجع الزيادة في الطلب على الاسمنت وبين تأكيد الحكومة بوجود نمو قوى في صناعة التشييد والعقارات. قال ممثل الشركات في النهاية انهم ليس لهم مطالب محددة وكل ما يعنيهم هو ان يعرف الرأي العام ما يدور في تلك الأصول القومية التي تصل الاستثمارات فيها الى نحو 250 مليار جنيه .

ألم أقل لكم أن الدنيا يوم لك ويوم عليك ؟ .