أفكار وآراء

هل الثوابت.. فلسفة وجودية ؟

10 ديسمبر 2017
10 ديسمبر 2017

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

ليس هناك أقسى على الإنسان من التعرض لامتحان إرادته في التنازل عن ثوابته التي يؤمن بها، وهذا عادة لا يكون إلا في الأوقات العصيبة التي يتعرض لها، وأقساها على الإطلاق عندما تتعرض المنظومة الجغرافية التي يعيش فيها إلى مخاطر الاحتلال من قبل القوى الأكبر،

نعيش بين وسط كثير من الثوابت المتوارثة بعضها، والناشئة بعضها الآخر من أثر قناعاتنا بأهمية أن تنضم تحت هذه الثيمة «ثوابت» والتي تتعدد؛ بين الثوابت الوطنية، والمجتمعية، والأسرية، والعلاقات التشابكية المختلفة الأخرى، ومن خلالها تتشكل قيمنا، وعاداتنا، ومواقفنا، وسلوكياتنا، ووسط هذا كله تتفاوت مفاهيم الناس بها، وقناعاتهم بأهميتها وسرمديتها، فمنهم من ينزلها -حسب الفهم- المنزلة المقدسة، ولا يتنازل عن ذلك قيد أنملة، ومنهم من يكيفها كيفما تقتضيه مصالحه الخاصة، ولا يعطيها سقفا سماويا أكثر من ذلك، ومنهم من يعزف على وتر «عقلية القطيع» فيسير حيث تسير القافلة، ولا يرهق ذهنه ليشكل موقفا يعبر عن شخصيته ورؤيته الخاصة بها، وبين هذه الصور كلها تبقى الثوابت مشروعًا عامًا ينظر الجميع فيه، ويتكئون عليه لينسجون قصصهم وتضحياتهم، كما يحلو لهم، وتبقى حقيقة هذه الثوابت حاضرة عند كل واحدة على حدة، فما يراه فلان من الناس أن لهذه الثوابت قيمة، يراها آخر غير ذلك، ومن هنا تنشأ المعارك النفسية التي يعيشها الإنسان مع نفسه، ومع الآخرين من حوله في جملة الثوابت التي تختزنها ذاكرته، من خلال مجموعة من القيم المكتسبة؛ والقناعات المتأصلة من ممارسات وسلوكيات وخبرات ومواقف تظل في حكم التراكم لفعل الحياة اليومي، وتزداد خزائنها يوما بعد يوم مع تقدم العمر، ومع تزايد حركة الحياة، وتوغل الإنسان في خضم هذه الحركة وتفاعلاته مع مسبباتها، حيث تفضي كل هذه الصور إلى ازدياد خبراته وتأصيل قناعاته ومواقفه، ويظل أكثر قناعة بالثوابت التي يقف عليها، ويرى الآخرين من حوله أن في كثير من ممارساتهم يقعون في أخطاء، ولو كانوا -وفق نظرته هو- لربما اعفوا أنفسهم من مشاق كثيرة، وجنبوا أنفسهم مهالك عديدة، وذلك عبر حواره المنولوجي الذي يعيشه من يفكر بهذه الطريقة، ويقف بنفسه عند هذه القناعة.

ولكن؛ ما هي هذه الثوابت أصلا في تفاصيلها الدقيقة؛ هل هي الوطن فقط -بكل ما يحتويه- هل هي القيم الاجتماعية والثقافية المتوارثة والمحافظة على لحمة المجتمع من التغريب، أم هي المكتسب الحاضر من مجموعة الممارسات التي يقوم بها الإنسان المعبرة عن هوية حاضره، وهل هي قواسم مشتركة بين شعوب الأرض كلها بذات الفهم في مستوى التمسك بها، أم أنها تختلف بين مجتمع وآخر، أم أنها خاضعة للظروف التي يعيشها الإنسان: فقر وغنى؛ حرية وتسلط ؛ استقلال واحتلال، وهل هي عبارة عن مادة متداولة ومن ثم تترجم إلى معاني ذاتية؛ أم أنها من الأصل مجموعة مواد ذاتية تترجم على شكل ممارسات ومواقف، وما الذي يرسخ هذه الثوابت ويعلي بنيانها، ويؤصل بقاءها أكثر؛ هل هي مجموعة الخبرات المكتسبة بفعل حركة الحياة اليومية وديمومتها، وماذا عن العمر المكتسب الذي يصل إلى قرن من الزمان؛ في بعض الأحيان؛ وقد يزيد في ترسيخ القناعة بأهميتها أكثر، وما دور الواقع الثقافي لدى المجتمع المحيط في تبيين ما يبتعد عن فهم حقيقة هذه الثوابت، وماذا عن التنشئة الأسرية في تأسيس لبناتها الأولى، وما موقع الفطرة الإنسانية هنا للقناعة بها، أو بغيرها من المفاهيم؛ انطلاقًا من فهم «كل مولود يولد على الفطرة ...» وأين تقف المؤثرات الضاغطة المحيطة بالفرد لتغيير القناعات المتأصلة بها؛ من منطلق «لي الذراع» وثمة أسئلة كثيرة يمكن إدراجها في ذات السياق؛ والتي لا تزال تبحث عن إجابة مقنعة.

أتصور من مفهوم شخصي محض، أنه ليس يسيرًا على الإنسان أن يتنازل عن ثوابته وقناعاته بتلك البساطة والسهولة، وهناك أناس كثيرون ضحوا بأعز ما يملكون مقابل أن يبقوا على ثوابتهم، ليس فقط لأن يقال عنهم: أنهم رجال مبدأ وموقف، ولكن لأنهم، هم كذا لم يستسلموا لامتحانات إرادة غيرهم القاسية، فكانوا ما بين فاصل دقيق جدا؛ إما أن يكونوا أو لا يكونون، ومما لا شك فيه أن للعمر دورا كبيرا في التمسك بالثوابت، فتأصيل القناعات؛ يقينا؛ لن يكون بين ليلة وضحاها، حيث تحتاج إلى عمر منجز من التجارب والخبرات منذ الفهم الأول للحياة، ومعايشة المواقف الكثيرة الداعمة منها، والمتناقضة بعضها، فهذه البناءات الذاتية المستمرة؛ شديدة الحساسية؛ حيث تضع الجميع بين مفصلين؛ لا ثالث لهما، وليس يسيرًا أن تتراكم هذه القناعات في مسافة زمنية قصيرة، ولذلك هي تتأصل، ولذلك يستعان في كثير من المواقف برأي كبار السن، وخاصة في المواقف المفصلية في حياة الشعوب، ولا توكل إلى الفئات العمرية الصغيرة، لقلة التجربة، وخوف التفريط في حق الشعوب، فمواقف كبار السن، كما هو معروف، مواقف متصلبة، وليس يسيرا التأثير عليها وتليين عريكتها في غمضة عين، ومن هنا يختار، عادة، كبار السن في مراحل التفاوض في مختلف الأمور، كما يكون ذات الأمر في مناقشة الأمور المهمة في حياة الجماعات والأمم، وتترك في المقابل الأمور التطويرية والحلول الابتكارية للفئات العمرية الصغرى، نزولا عند الأفكار الجديدة والحديثة، أما مجموعة الثوابت التي تحتاج الى كثير من المواقف المتصلبة، والى الكثير من الفهم بأهميتها؛ فيسخر لمناقشتها كبار السن، في الغالب لخبراتهم الطويلة والكثيرة في الحياة.

لعلني أميل هنا أكثر إلى دور أو أثر قيم المجتمع وثقافته، والتنشئة الأسرية، في تعزيز مجموعة القناعات بالثوابت التي يقرها هذا المجتمع أو ذاك، وتبقى هذه الثوابت الـ«خاصة» هي الأكثر التمسك بها وعدم التنازل عنها، بخلاف الثوابت العامة، للأمة كلها، على سبيل المثال، وهي القابلة أكثر للتنازل عنها، فثوابت الأمة تظل أبعد أثر في امتحان الإرادة للبقاء عليها أو التثبت بها لتعدد المدافعين عنها، وفق رؤى مختلفة وقناعات متباينة، بخلاف الثوابت الأقرب الى المجتمع الذي ينتمي إليه الفرد، أو الأرض التي يعيش عليها التي يحتويها مفهوم الوطن، فهذه؛ وإن اختلف عليها المنظرون؛ تبقى فارضة نفسها بحكم القربى والالتصاق بها، وربما يغالب الفهم، أو يتعالى على الحقيقة؛ من يقول بغير ذلك، والواقع اليوم، كما هو بالأمس يؤصل هذه الحقائق كلها، فبقدر ما هناك شعوب تئن وتستغيث، هناك في المقابل شعوب تعيش عيشتها الهانئة بلا مواربة، وإن كان هناك من شعور إنساني يتعاطف مع الشعوب التي تمر بضوائق الدهر، وما أكثرها، فذلك الشعور لن يخرج عن كونه شعورًا عامًا، لا يعبر إلا عن لحظات تستعطف فيها الأنفس قلوب أصحابها في تلك اللحظة، ومن ثم يعود الجميع الى حالته الخاصة، ويتكور عليها وعلى مكوناتها المختلفة، وهو الفهم الذي يؤصل التمسك بالثوابت الخاصة قبل كل شيء، سواء أكانت: وطنية، اجتماعية، طائفية، مذهبية، ثقافية، قيم متوارثة خاصة، وكل ما يندرج تحت المحلية الضيقة، ويبقى الالتفاف أو الالتفات إلى الثوابت العامة من باب التعاطف لا أكثر.

ليس هناك أقسى على الإنسان من التعرض لامتحان إرادته في التنازل عن ثوابته التي يؤمن بها، وهذا عادة لا يكون إلا في الأوقات العصيبة التي يتعرض لها، وأقساها على الإطلاق عندما تتعرض المنظومة الجغرافية التي يعيش فيها إلى مخاطر الاحتلال من قبل القوى الأكبر، حيث تتماهى القوى الداخلية في خضم السيل الجارف من القوى المتكالبة على ذات البقعة الجغرافية، كما نرى في أمثلة كثيرة اليوم لدى كثير من الشعوب، حيث تمتحن هذه ا لشعوب في إراداتها وثوابتها، وقيمها، فتسلم أمرها لهذا القادم الجديد، فتنتهك، من جراء ذلك الحرمات؛ وتمتهن الكرامات، وتبتذل القيم الرفيعة، وتضيع الهويات، وربما تطفو ثوابت جديدة على السطح، حيث يفرضها المحتل، فتتشكل قناعات جديدة لدى الجيل الواقع تحت تأثير الضغط المصوب إليه، فتتشكل قيما جديدة، فيصبح ما كان يصنف من الثوابت الأصيلة للأمة؛ مسألة عادية لا تحتاج إلى كثير من التضحيات، حيث يبدأ اختزال المفاهيم من الأصعب إلى الأسهل، وهذا الأمر واضح اليوم وضوح الشمس، فالعولمة المكتسحة لحيوات الناس في أدق تفاصيلها واحدة من العوامل المزعزعة لقناعات الشعوب؛ حيث ينظر إلى الخاص من المنظور العام، فما يتوافق مع العام؛ فذلك مقبول، وما يتصادم معه، يمكن تجاوزه، فالقافلة تسير وفق هذا المنهج، وهو منهج قد يكون غير مقبول حتى هذه اللحظة، ولكنه واقع تتثبت أركانه هنا وهناك، فيصبح من الثوابت.