أفكار وآراء

السعادة .. ليست طائرا أسطوريا !!

03 ديسمبر 2017
03 ديسمبر 2017

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

إن «السعادة.. ليست طائرا أسطوريا» ، وإنما هي صناعة إنسانية، وإن الإنسانية كلها قادرة على ان تكفل سعادة إنسانيتها بما تقوم به من سلوكيات إيجابية في حياتها اليومية.

نتفق جميعا، قبل البدء في مناقشة هذا الموضوع، على أن السعادة ليست موضوعا حديث النشأة، وأن الآراء حولها مختلفة، متصادمة ومتقاطعة، وأن أسباب تعثرها وعدم تحققها كثيرة ومتعددة، والأسباب التي توصل الجميع اليها كذلك، وبقدر هذا الاختلاف، او التقارب في جوانب أخرى سيظل الناس مختلفين، وستظل الأسباب، هي الأخرى، خاضعة لزمانها ومكانها، وغير جامدة بأسبابها، او بقناعات الناس بها، ومن أجل ذلك تسخر اليوم مؤسسات وبرامج وإمكانيات مادية، وحوافز معنوية؛ كل ذلك بغية الوصول الى معنى واحد فقط من معاني السعادة الكثر، ويأتي هذا الطرح لا ليقول كلمة الفصل في كل هذه التقاطعات والتجاذبات والاختلافات، ولكن ليقف عند بعض المنعطفات مسجلا حداثة زمنها فقط، وللإشارة إلى الاهتمام المستمر بها، وأن السعادة ليست حلم فرد، بل هي اهتمام مجتمعات وأجندة سياسات تضطلع لأجل تحققها دول عديدة بإمكانياتها الكثيرة، وهي فوق ذلك كله صناعة، وليست هبة تنزل من السماء فقط.

نؤمن شديد الإيمان بأن السعادة ليست حالة معنوية فقط، وليست حالة مادية فقط، ولذلك تنتاب التعاسة أولئك الذين يسقطون أنفسهم في أحد هذين المستنقعين، وأصفهما كذلك، لأنه لو تلبس أحدنا بالآخر، أضاع الهدف من وجوده في الحياة أصلا، وبقدر هذا الحرص على السعادة، إلا أنه لا يزال هذا المعنى متخفيا بين أغطية كثيرة، بعضها بفعل الإنسان ذاته، وبعضها بفعل عوامل خارجة عن إرادته، قد تكون هذه العوامل منضمة تحت النظام السياسي في البلد، وقد تكون منضمة تحت أعراف المجتمع وقيمه، وقد يكون بعضها منضم تحت سلوكيات مجتمع بعينه، حيث يحصر ممارساته على أفراده، دون المرور العابر على القيم التي يؤمن بها في مواقف كثيرة، ولذلك هنا الجميع ينشد هذه الصورة غير المرئية، وإن كان الإحساس المعنوي هو المعول عليه في استحضار هذا المفهوم في سياقات الحياة اليومية، وهو الخاص أكثر بكل حالة على حدة عند الناس جميعا، إلا انه يظل المظهر المادي المرئي والملموس يأخذ حيزا مهما للتقييم، وللرضا بتحقق السعادة، لأن القراءة التي يقيم على أساسها مستوى السعادة، هي القراءة التي تتقصى ورقة الرخاء المادي الملموس، والذي يظهر على شكل صور احتفالية يرى فيها المجتمع الذي تكون فيه، على أنها المعبرة عن سعادة أفراده، متجاوزين الأسباب الأخرى، وقد ينظر إليها على أنها أسباب ثانوية داعمة للمستوى الاقتصادي المهم، ومن هنا يأتي هذا السعي اليومي الحثيث للكسب بشتى الطرق؛ وذلك للوصول الى تحقيق هذه الغاية الإنسانية الملحة في حياة كل فرد فينا، وقد «توصل الباحثون الذين نشروا «التقرير السنوي العالمي للسعادة» الى أن نحو ثلاثة أرباع السعادة البشرية تغذيها ستة عوامل: نمو اقتصادي قوي، ومتوسط عمر موفور الصحة، وعلاقات اجتماعية جيدة، والكرم والثقة، وحرية اختيار نمط الحياة المفضل» ويضيف: «وهذه العوامل لا تتحقق عن طريف الصدفة، بل ترتبط ارتباطا وثيقا بحكومة البلد المعني وقيمه الثقافية، وبعبارة أخرى فإن أسعد الأماكن تعمل على توفير سبل السعادة للشعوب التي تعيش بها» هذا وفق ما نشرته مجلة ناشيونال جيوغرافيك العربية، في عددها الصادر في نوفمبر الماضي من هذا العام 2017م.

نعم؛ قد يختلف التقييم بين الناس في شأن الاتكاء على عنصر واحد محقق للسعادة لدى الأفراد، وذلك عائد كله الى الانطلاق من نقطة ما «ينقصنا»، فمن ينقصه المال، يرى تحقيق السعادة في وجود المال، ومن تنقصه الصحة؛ يرى تحقق السعادة في اكتمال الصحة، ومن ينقصه الأمان النفسي والمادي؛ يرى تحقق السعادة في بسط أرديتهما على أرض الواقع، ومن تنقصه مؤازرة الآخرين؛ يرى تحقق السعادة في وجود هذه المؤازرة له من قبل الآخرين القريبين منهم والبعيدين، ويمكن القياس على أمثلة كثيرة في الحياة، وهناك من يحصرها في شأن واحد فقط، وفق هذه المقولة التي قرأتها ؛ والتي تنص على: ان «السعادة تكون في ثلاث: أن تقوم بأمر الله، وأن تقنع بما قسم لك، وأن ترضى بما قضى» وهذا الفهم ينطبق مع ما ذهب إليه الشاعر: «ولست أرى السعادة جمع مال: ولكن هو التقي السعيد» ولذلك تظل السعادة مثار جدل واختلاف في أسباب تحققها، وفي أسباب غيابها عن المشهد في حياة كل فرد، او جماعة، او شعب، او دولة بأكملها، والعالم مليء بالأمثلة عن هذه النماذج كلها، وانعكاسا لمثل هذه التقييمات كلها، يطرح سؤال جوهري في هذا الاتجاه؛ وهو: هل السعادة صناعة شخصية، أم هي نتاج عمل جماعي؟ وعلى الرغم من بساطة السؤال ومباشرته، واختلاف الإجابة المتوقعة عليه، إلا أن المسلم به في هذا الأمر، هو أن السعادة صناعة بكل ما تعنيه كلمة «صناعة» ولا اختلاف في ذلك على أنها صناعية فردية، او جماعية، وهي في كل الأحوال تبقى قرارا شخصيا، إلا في الحالات الخارجة عن مساحة الاشتغال الممنوحة للفرد، لكي يحقق من خلالها السعادة المنشودة، وهذه الأحوال تدخل فيها الكوارث الطبيعية، والكوارث البشرية بفعل الحروب واحتلال الدول، أو دخول الشعوب في حروب طائفية على مستوى الدولة ذاتها في كثير من الأحيان، او رداءة النظام السياسي في بلد ما ، والذي بدوره لا يسعى إلى إشاعة المحددات الرئيسية المهمة الموصلة الى تحقق السعادة بين أفراد الشعب الذي يحكمه.

عندما تزور بلدا لم تف برامج التنمية للوصول به الى مصاف الدول الأخرى ذات التقدم الملموس في مجالات الحياة الاجتماعية تصدمك مخيمات مدن الصفيح، وعندما يغالبك الفضول للتوغل بين سككها ودروبها الضيقة، كم تصدمك حياة الناس التعساء - في تقييمك الآني - الذين يعيشون بين جنباتها المختلفة، وتتعجب أن تجد معظم هؤلاء الناس يضحكون ويرقصون، ويمارسون حياتهم اليومية بكل رضا، ولو كان نسبيا، ومع ذلك فهم متواجدون بين أفراد مجتمعهم الآخرين الذين يشاركونهم الأرض ومظلة السماء، وإن كان هؤلاء الآخرون يعيشون في البيوت والمنازل المترفة، وتحيط منازلهم الشوارع الفسيحة والحدائق المزهرة والمخضرة، ولا يساورك أدنى شك، في أن هؤلاء الذين يعيشون في مدن الصفيح، أن سقف السعادة مرتفع عندهم الى حد بعيد، وقد يكون الأمر عكس ذلك عند الآخرين الذين يسكنون الأحياء الراقية ، هذه صور غير منكورة وتعيشها كل المجتمعات صغيرها وكبيرها، ولكن مع ذلك كله؛ يبقى للقرار السياسي في أي دولة دوره الكبير في بسط السجادات الخضراء في دروب أفراد الوطن، عبر ممارسات كثيرة، ومع أن كثيرا من الأنظمة السياسية تحرص على عدالة التنمية في التوزيع، إلا ان العوز المادي يبقى هو المعرقل للمشاريع الذاهبة الى راحة الإنسان وسعادته، وقد نشرت الصحف في عددها الصادر يوم السبت الماضي خبرا مفاده أن الأمم المتحدة تقدر تكلفة دعم المعوزين في العالم للعام القادم 2018م بـ (22.5) مليار دولار، حيث نص الخبر على التالي: «قدرت الأمم المتحدة تكلفة الدعم الضروري للمعوزين على مستوى العالم العام المقبل بنحو(22.5) مليار دولا، واعلن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية «أوشا» أنه من المتوقع أن يحتاج (136) مليون شخص في العالم العام المقبل الى المساعدات الإنسانية والحماية بسبب الحروب والنزاعات والكوارث الطبيعية بزيادة قدرها (5%) مقارنة بالعام الحالي 2017م» انتهى النص.

نجزم فعلا أن «السعادة.. ليست طائرا أسطوريا» ، وإنما هي صناعة إنسانية، وأن الإنسانية كلها قادرة على ان تكفل سعادة إنسانيتها بما تقوم به من سلوكيات إيجابية في حياتها اليومية، وبخلاف ذلك سوف تتلبسها التعاسة شاءت ذلك أم أبت، فالسعيد لن يكون سعيدا بنفسه، وإنما هو سعيد بغيره أيضا، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتلبسك السعادة، وأنت تقاضي آخر في ما ليس لك به حق، تأكل ماله، أو تعتدي على نفسه، أو تحتل أرضه، أو تقاسمه لقمة عيشه من غير حق، فإن كنت تؤمن بالسعادة، فأقل ما تقوم به أن تكون بعيدا عن ظلم الآخر، وما يجب التأكيد عليه في النهاية هو، أن قيم الفقر وقيم الغنى كلها يمكن توظيفها في هذا المشروع الإنساني الكبير، فقط أن تترسخ القناعات بأهمية أن نصنع سعادتنا مع الآخرين.