أفكار وآراء

رحلة إلى جذور صقلية الإسلامية

01 ديسمبر 2017
01 ديسمبر 2017

سمير عواد -

حطت بنا طائرة «طيران برلين» بعد ساعتين ونصف من إقلاعها من مطار برلين- تيجل، في جزيرة صقلية، حيث كانت تحية «السلام عليكم» سائدة قبل ألف عام وتحديدا من عام 827 حتى 1061، حينما كانت تحت سيطرة العرب، وهي الفترة التي لا يختلف المؤرخون من مختلف أنحاء العالم الذين اهتموا بتاريخ الجزيرة الإيطالية، في وصفهم لهذه الفترة،

أنها كانت مرحلة ازدهار غير مسبوقة عرفتها الجزيرة، من النواحي الثقافية والاجتماعية والإصلاحات الاقتصادية التي انعكست إيجابيا على سكان الجزيرة وما زالت تنعكس إيجابيا إلى يومنا هذا.

وساهمت فتوحات الإسلام في انتشاره بعد القرن السابع في دول شمال إفريقيا، وحصل العرب على سمعة كبيرة نتيجة إلمامهم بالطب والرياضيات وعلم الفلك والشعر، بالإضافة إلى الزراعة، بحيث كانت العلوم تمثل قوة ضاربة لا تقل عن قوتهم العسكرية، فكانت المسألة تتعلق بالوقت فقط، حتى فتح العرب جزيرة صقلية وجعلوها محطة مهمة للتجارة كما جعلوا مدينة «باليرمو» اليوم وهي أكبر مدينة في الجزيرة، عاصمة لهم، وما زالت أسماء مناطقها الرئيسية التي قسمها العرب في تلك الفترة، موجودة اليوم مثل «فال دي ميسارا»، و«فال دي نوتو»، و«فال دي ديموني»، حيث كان العرب يطلق كلمة «فال» على المحافظات. وفي عام 948 نصب «حسن الكلبي» نفسه أميرا على صقلية.

ويتفق المؤرخون على أن العالم العربي كان في تلك الفترة، الحضارة الأكثر تقدماً في العالم، مما عاد بالنفع على المناطق التي سيطروا عليها بما فيها جزيرة صقلية إلى يومنا هذا. فقد أنجزوا معجزات في مجال الزراعة، وليس صدفة أن صقلية اليوم، واحدة من أبرز مناطق العالم المنتجة والمصدرة لأنواع المزروعات التي أحضرها العرب معهم إلى الجزيرة، وهي الحامض وقصب السكر والقطن والتمر والزيتون والفستق الحلبي. بالإضافة إلى نظام ري الأراضي الذي اشتهروا به عندما كانوا في الأندلس، وخاصة إنشاء قنوات المياه في مدينة «باليرمو»، التي كانت تضمن تخزين وتبريد المياه.

وهكذا أقام العرب علاقات تجارية تربط منطقة الشرقين الأدنى والأوسط مع أوروبا، فأقاموا الأسواق التجارية وعرضوا فيها منتجات مثل الأقمشة والسكر، ومن يزور مدن صقلية، يلاحظ أنها تقيم الأسواق العربية حتى اليوم، ومن أشهرها سوق مدينة «كاتانيا»، ويعرض فيه مهاجرون عرب من بلاد المغرب بضاعتهم، وتحمل صقلية اليوم سمعة بأنها مركز تجاري مهم في إيطاليا وأوروبا.

وبحسب المؤرخين، فتح العرب صقلية بشكل فعلي في عام 827 تحت قيادة الفقيه المالكي والقاضي أسد بن الفرات. ومهد ذلك إلى قيام العرب بفتح مدنها وصولا إلى أكبرها وهي مدينة «باليرمو» التي أصبحت في ظل الحكم الإسلامي، واحدة من أهم وأكبر مدن العالم ومحطة رئيسية للتجارة. غير أن فترة حكم العرب انتهت في جزيرة صقلية في عام 1052، بعد أن دبت فيها النزاعات والخلافات مما أدى إلى قيام فترة شبيهة بفترة الملوك والطوائف والأمراء في الأندلس، مما جعل الأعداء يتربصون بهم، وقد أيقنوا أن ضعف العرب في انقسامهم، وأصبح من السهل على أي عدو مهاجمتهم وأن يدحرهم من الجزيرة، ففعلها النورمان في عام 1061 ودام الصراع في صقلية ثلاثة عقود انتهت بهزيمتهم في عام 1091.

ولما تبين للغزاة النورمان ومن احتل صقلية بعدهم، أن العرب، أرسوا فيها، صروحات الحضارة والاقتصاد، حافظوا عليها، بحيث ما زالت آثارها واضحة حتى اليوم. فقد كان العرب يتقنون فن البناء والنقش وتخطيط المدن، وغالبية مدن صقلية ومناطقها شهدت تغيرات بارزة خلال زمن الفتح العربي فيها، وخاصة في أحياء «باليرمو»، وخاصة الأسواق، التي ما زالت تقليدا يجتذب السياح من أنحاء العالم إلى جزيرة صقلية.

وكان بالإمكان الحفاظ على آثار الحضارة العربية في صقلية، لو تم توفير صندوق لتمويل خطط وبرامج ومبادرات، لكن عددها يختفي للأسف مثل الحمامات الشهيرة في «كفالا ديانا» في القسم الجنوبي من «باليرمو».

ودخلنا والدموع تنهمر من أعيننا، كاتدرائية «باليرمو» التي كانت جامعا، وما زالت الأحرف العربية منقوشة على الجدران التي تتوسطها أعمدة الفن المعماري العربي الذي شاهدته في «قرطبة» الأسبانية. وكان النورمان الذين طردوا العرب من الجزيرة، مفتونون بالهندسة المعمارية العربية وعندما حولوا الجوامع إلى كنائس، حرصوا على عدم تدميرها، ولم يكن بوسعهم بناء مثيلها. ويمكن رؤية كنائس «باليرمو» تعلوها «قبة» مثل «كابيلا بالاتينا بلاسو ريال» وكاتدراية مونريالي. كما أن قصري «لا ليسا» و«لا كوبا» في «باليرمو» تم بناؤهما على النمط الفاطمي، وفيهما حدائق عربية.

أينما تذهب في صقلية، تجد آثار الحضارة العربية في المدن والقرى، في السهول والجبال وتحت بركان «أتنه» ومدينة «مرسالا» التي اسمها الأصلي «مرسى الله». كما هناك عائلات إيطالية تحمل أسماء عربية مثل «طبيبي» و«سليم بني» و«زكا» و«كفارو». كما هناك كلمات عربية يستخدمها الطليان مثل «مشينو» من كلمة «مسكين» و«قشاطة» أي الجبنة، و«زغارا» من كلمة «زهر».

في صقلية كان اليونانيون والرومان والعرب والنورمان والأسبان والفرنسيون لكن الحضارة العربية، ما زالت الأبرز حضورا حتى اليوم.