المنوعات

إدواردو جــــليانو: لمـــاذا أصبحـــت كــاتبا؟

29 نوفمبر 2017
29 نوفمبر 2017

الكاتب الأرجواني الراحل الكبير يصف البحر لمن لم يروا البحر أبدا -

أريد أن أحكي لكم قصة عن أول تحدٍّ حقيقي صادفته كحكَّاء، عن المرة الأولى التي خفت فيها من احتمال ألا أكون بحجم المهمة.

حدث ذلك في بلدة لالاجوا البوليفية. قضيت هناك فترة من الزمن، على مقربة من منجم. هنالك حيث وقعت مذبحة سان خوان، حينما أمر الدكتاتور بارينتوس قواته أن تفتح النار من مرتفعات التلال المحيطة على عمال المناجم وهم يشربون ويرقصون احتفالا بعشية سان جون.

كنت قد وصلت إلى هناك قبل قرابة سنة، في عالم 1968، وأقمت لفترة بفضل قدراتي كفنان. فقد كنت أشعر كما تعلمون بدافع إلى الرسم، برغم أن اسكتشاتي لم تنجح مطلقا في تقليل الفجوة بين ذاتي والعالم.

كانت الهوة الكبرى تقع بين المهارات والطموحات، برغم أن بعض بورتريهاتي كانت تبدو جيدة وبرغم أنني كنت ماهرا في الكتابة. رسمت في لالاجوا بورتريهات لأبناء عمال المناجم ورسمت ملصقات للمهرجان، وللأحداث العامة، ولكل ما كانت تستدعيه الحاجة. فاحتضنتني البلدة، والحقيقة أنني قضيت وقتا عظيما في ذلك العالم الشقي المتجمد، حيث يزيد البرد من قرصة الفقر.

وحانت ليلة رحيلي. كان عمال المناجم أصدقائي فأقاموا لي حفل وداع. كنا نحتفل ونغني ونلقي النكات، وطوال ذلك الوقت كله كنت أعرف أن النفير سوف يعلو في الخامسة أو السادسة صباحا ـ لم أعد أتذكر ـ فيستدعيهم جميعا إلى العمل في المنجم، وينتهي عند ذلك كل شيء. ونقول الوداع لبعضنا بعضا.

ولما اقتربت اللحظة، أحاطوا بي، كأنهم يوشكون أن يوجِّهوا إليّ اتهاما ما. وتبيَّن أنه ما من اتهام بأي شيء، بل طلب «الآن، كلّمنا عن البحر».

وحلّ عليّ الصمت. كان عمال المناجم منذورين بالموت المبكر بسبب السل في جوف الأرض. وفي تلك الأيام كان العمر المتوقع لأي منهم يتراوح بين ثلاثين وخمسة وثلاثين عاما، ولا يزيد عن ذلك. لم يكن أحدهم قد رأى البحر، وكان موعدهم مع الموت أقرب من أي موعد لإلقاء نظرة عليه، وقد كتب عليهم الفقر أن يبقوا حبيسي بلدة لالاجوا الصغيرة تلك. وبات واجبي أنا أن أجلب البحر إليهم، وأن أعثر على كلمات قادرة أن تغرقهم فيه.

ذلك كان أول امتحان لي في الحكاية، وهو الذي أقنعني أن في مسعاي ذلك قيمة ما.