أفكار وآراء

مخاطر متزايدة لحروب وسائل التواصل الاجتماعي !!

26 نوفمبر 2017
26 نوفمبر 2017

أ.د. حسني نصر -

الواقع أن المتابع للصراعات المشتعلة على منصات التواصل الاجتماعي بين المستخدمين العرب في السنوات الأخيرة يستطيع ان يلحظ حجم الخلافات والفرقة المذمومة الآخذة في التوسع بين أبناء الأمة الواحدة، وربما بين أفراد ومكونات الشعب الواحد حول العديد من القضايا، التي كان بعضها يحظى حتى وقت قريب بإجماع وطني وعربي واسع. هذه الصراعات الافتراضية التي تجاوزت في حدتها كل الخطوط العربية الحمراء وكل القيم التي كان يحرص العرب على الحفاظ عليها حتى في التعامل مع أعدائهم، تحولت بالفعل الى حروب بالصور والكلمات يمكن ان لم يتم حصارها ووقفها نشر الكراهية بين الشعوب العربية بما تثيره من شقاق وتناحر وتبادل للسباب والاتهامات التي طالت دولا وأنظمة وشعوبا عربية عديدة.

ان ما يحدث بين الأشقاء على شبكات التواصل الاجتماعي خاصة موقعي تويتر وفيسبوك لا يمكن قبوله أو الرضا باستمراره كونه يشكل على المدى الطويل تهديدا حقيقيا للامن القومي العربي من جانب ويفصم عرى الأخوّة بين الشعوب. يكفي ان تراجع تغريدات وملصقات بعض المدونين على تويتر وفيسبوك والردود عليها لتدرك اننا نواجه حروبا ان صح التعبير تمثل ردة على كل ما تعلمناه وما نعلمه لأبنائنا عن وحدة التاريخ واللغة والثقافة والمصير المشترك التي تجمع العرب.

من الطبيعي أن يختلف الناس حول القضايا المطروحة في هذه الشبكات ويتبادلون وجهات النظر فيها، فالاختلاف سنة من سنن الله في الكون، ولكن من غير الطبيعي أن يتحول كل اختلاف إلى خلاف، ما يلبث أن يتحول إلى صراع، ثم إلى حروب ضروس يستخدم فيها المتحاربون كل أسلحة اللغة الخفيفة والثقيلة والصور المزيفة والشائعات والأكاذيب، ليس فقط لإثبات صحة آرائهم، ولكن أيضا للتهجم على معارضيهم والكيد لهم وسبهم وإهانتهم.

لقد ظهرت شبكات الواصل الاجتماعي في النصف الأول من العقد الأول من هذا القرن لتكون منبرا لحوار ديمقراطي فعال يتيح لمن لا يستطيع الوصول إلى الأخرين عبر منافذ التعبير التقليدية أن يُسمع صوته وان يسمع أصوات الآخرين وان يتواصل معهم لتعزيز الفهم الإنساني المتبادل. ويمكن الزعم أن هذا هو الحال في استخدام شعوب العالم لهذه الشبكات. فحتى بعد أن دخلها السياسيون ووظفوها لمصالحهم الشخصية وأفسدوها وحولوها من منصات للنقاش العام إلى منصات لحملاتهم الانتخابية والدعائية والسياسية، ظل المستخدمون الأفراد في غالبية دول العالم يستخدمون هذه الشبكات كوسيلة للتواصل الإنساني مع دوائر الأهل والأصدقاء لتناقل الأخبار والآراء وتبادل المعلومات، ولكن الشعوب العربية حولتها مثل كل التكنولوجيات العظيمة السابقة عليها إلى منصات للحرب.

في تقديري أن الإضافة الوحيدة التي قدمها العرب في شبكات التواصل الاجتماعي تتمثل في تحويلها إلى ساحات للصراع والحروب والتعبئة السياسية وتبادل الاتهامات والسباب. ومراجعة سريعة لبعض حسابات المؤثرين وصفحاتهم على هذه الشبكات توضح لنا حجم التشويه الذي لحق بهذه الوسائل جراء الاستخدام غير الرشيد لها في الصراعات السياسية.

قد يقول قائل إن الشبكات بريئة من تدني لغة الحوار العربي - العربي على أساس أن ما يتم نشره على منصاتها المتعددة يعبر عن الواقع المأزوم الذي يعيشه العرب حاليا، كما يعبر عن الانقسامات الكبيرة التي يشهدها هذا الواقع على المستويين الوطني والقومي حول مختلف القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية وربما الرياضية والفنية أيضا. ويؤكد أصحاب هذه الرؤية على براءة الوسيلة كونها مرآة تعكس حقيقة الواقع ليس إلا. ومع تقديرنا لهذه الرؤية فإن الأمر لم يعد يتعلق بوجود أو عدم وجود الشبكات وإنما بتوظيفها سواء في خلق وإشعال الحروب أو في الحفاظ عليها مشتعلة لأطول فترة ممكنة. والشاهد هنا أن كثيرا من هذه الحروب بدأت شرارتها الأولى على هذه الشبكات، خاصة بعد أن دخلت بعض الأنظمة والحكومات على الخط من خلال ما أصبح يعرف بالكتائب أو اللجان الإلكترونية، أو ما أصبح يحلو للبعض أن يطلق عليه «الذباب الإلكتروني» وهي ظاهرة يكاد ينفرد بها العرب دون شعوب العالم. وتعمل تلك اللجان والكتائب التي توظفها بعض الأنظمة وتصرف عليها من خلال استراتيجيتين أساسيتين، تتمثل الأولي في وضع أجندة يومية للأخبار والقضايا التي يجب أن تمثل أولوية على مختلف الشبكات، أي وضع أجندة أولويات الجمهور على الشبكات، وهو تقريبا نفس الدور الذي كانت تقوم به وسائل الإعلام التقليدية من صحف وإذاعات ومحطات تلفزيون، ولم تعد قادرة على القيام به في ظل تعدد الخيارات الإعلامية أمام الجمهور من جانب، وانصراف الجمهور عن هذه الوسائل إلى شبكات التواصل من جانب آخر. وهذه الأجندة تكون في الغالب مرنة تستطيع اللجان من خلالها تشتيت انتباه مستخدمي الشبكات وصرفهم عن قضية إلى قضية أخرى أو إبقائهم في دائرة قضية محددة لأطول فترة ممكنة إلى أن تنتقل بهم إلى قضية أخرى، تخدم مصالح هذه الأنظمة. أما الاستراتيجية الثانية فتتمثل في المتابعة الدقيقة والمستمرة لحسابات وصفحات الأفراد المؤثرين وحسابات الصحف والإذاعات والمواقع الإلكترونية الإعلامية سواء المؤيدة أو المعارضة للنظام، للرد على كل تغريدة أو ملصق أو صورة يتم نشرها، وغالبا ما تكون هذه الردود موحدة في مختلف الصفحات دفاعا عن النظام وتأييدا له. ويصل الأمر في بعض الحالات إلى قيام هذه اللجان بالإبلاغ الجماعي والكثيف عن حسابات الأفراد والجماعات التي لا تستطيع مواجهتها، والعمل على دفع شركات منصات التواصل الاجتماعي إلى إغلاقها. الخطير في الأمر كما ذكرنا هو تدني لغة الخطاب التي تستخدمها تلك اللجان، وهو ما أدى إلى شيوع لغة السب والقذف التي تصل إلى حد استخدام الشتائم العنصرية وغير الأخلاقية، وهو ما يؤدى إلى ترسيخ هذه اللغة على الصفحات العربية على شبكات التواصل الاجتماعي، وإطالة أمد الصراعات، وربما إفشال مساعي حلها. والمؤكد أن مراوحة بعض الأزمات العربية مكانها تعود في جزء منها إلى ما يتم نقله وتبادله عبر هذه الشبكات، وهو ما يزيد الخلاف ويعمقه يوما بعد يوم.

إن وصول الحروب العربية - العربية على شبكات التواصل الاجتماعي إلى هذا الحد من التهافت والانحدار، أصبح يشكل خطرا حقيقيا على الهوية والثقافة العربية، وعلى مستقبل الأجيال الجديدة التي ترى وتتابع هذه الحروب دون أن يكون لديها أي نوع من التحصين يمكنها من التمييز بين الخبيث وبين الطيب على هذه الشبكات.