الملف السياسي

التعمين: صعوبات في مسيرة ممتدة ومتعددة الجوانب!

06 نوفمبر 2017
06 نوفمبر 2017

د. صلاح أبو نار -

في تقرير الأمم المتحدة للتنمية الإنسانية عام 2010، جاء أن عمان حققت «أسرع معدلات التنمية الإنسانية» في العالم كله، على مدى فترة 1970 - 2010. فلقد ارتفع مؤشر تنميتها الإنسانية من 0.36 إلى 0.79، أي ما يزيد عن الضعف. وتمنحنا تلك الشهادة الدولية مدخلا لموضوعنا، إذ تخبرنا أن عمان كانت «أسرع» دول العالم نموا في معدل تنميتها الإنسانية، لكنها أيضا لا تخبرنا أنها حققت «أعلى» درجات مؤشر التنمية الإنسانية. وهو ما يعني كما نتصور أن عمان، إن لم تمتلك كل «المقومات الاجتماعية» اللازمة لمواجهه مشكلة التعمين، تمتلك بالتأكيد كل «الإرادة السياسية» اللازمة للمواجهة.

ويستكمل التقرير نفسه ملامح الصورة السابقة في إصدار 2016. فلقد ارتفع مؤشر التنمية الإنسانية العماني العام، من 0.79 عام 2010 إلى 0.796 عام 2015، الأمر الذي يضعها ضمن الفئة الأعلى تطورا، ومتوسط مؤشراتها 0.746.

لا تمثل مشكلة عمان مع الأيدي العاملة الوافدة، إحدى الظواهر المرتبطة حصرا بالتحولات الاقتصادية المرتبطة بتدفقات الريع النفطي، كما هو شأن كل دول الخليج العربية. فنحن نجدها لدى بعض النمور الآسيوية في مراحل انطلاقها، بنسب ليست هامشية لكنها اقل كثيرا من النسب الخليجية. فهي في ماليزيا 25% من قوة العمل، وفي سنغافورة وصلت إلى 20%.

في عام 1980 شكل الوافدون 18.2% من إجمالي سكان عمان، وفي تعداد 1993 العام الأول ارتفعت نسبتهم إلى 26.75%، ثم انخفضت إلى23.9% في تعداد 2003 الثاني، لترتفع إلى 29.4% في تعداد 2010 الثالث.

ومن البديهي أن نسبة الوافدين للسكان ليست نسبتهم للقوة العاملة. وفقا لأرقام تعداد 1993 الأول شكل الأجانب 61.4% من القوة العاملة، وشكل العمانيون 38.3% منها. وفي إطار هذا التوزيع تركزت الأيدي العاملة الأجنبية في القطاع الخاص، وفي المقابل تركزت القوى العاملة العمانية في القطاع الحكومي.

في 1998 استحوذ الوافدون على 91.6% من القوى العاملة في القطاع الخاص، وانخفضت نسبتهم إلى 83.3% عام 2005، ثم إلى 81.7% عام 2010، وصعدت إلى 89.4% عام 2014. وفي عام 2014 شكل العمانيون 85.9% من القوى العاملة في القطاع الحكومي، ولم يشغل الوافدون سوى 14.1%، وفي المقابل لم يشغل العمانيون في القطاع الخاص سوى 10.6% من إجمالي العاملين فيه.

انطلقت مسيرة التعمين عام 1988 كامتداد لانخفاض أسعار النفط الحاد عام 1986. وستأتي خطة رؤية عمان 2020 لتضع التعمين في البؤرة التنموية. وفي إطار تلك الرؤية طرحت عدة أهداف مقننة رقميا للإنجاز فيما بين 1995 و2020. وهي رفع مساهمة العمانيين في قوة العمل من 19% إلى 50%، والمرأة من 6% إلى 12%. ورفع نسبة العمانيين في القطاع الحكومي من 68% إلى 95%، والخاص من 15% إلى 70%. وفي إطار نسب التعمين العامة السابقة، طرحت مؤشرات رقمية لتوجيه حركة التعمين في اهم القطاعات الاقتصادية. وبالتوازي مع ذلك أطلقت عدة مؤسسات ومبادرات، مثل وزارة القوى العاملة واللجنة العليا للتدريب المهني والعمل، وبرنامج سند وصندوق الرفد ومعاهد ومراكز التدريب المهني.

في القطاع الحكومي نجحت سياسات التعمين في تحقيق أهدافها ، بل إنها تخطت أحيانا المؤشرات الرقمية والزمنية المحددة. فمع نهاية 1997 وصلت نسبة تعمين المصالح الحكومية إلى 82%، متخطية نسبة 72% المحددة رسميا.

ورغم الإنجازات المؤكدة في بعض القطاعات الخاصة، مثل المصارف التي وصل تعمين بعضها إلى 92.5%، والشركة العمانية للغاز الطبيعي والمسال التي عمّنت بنسبة 89.4%، ظلت أهداف التعمين في القطاع الخاص بعيدة عن التحقيق. فقد تراوح مستوى التعمين في فئات الشركات الست، المصنفة من قبل الهيئات المشرفة على التعمين، من12.46% في الشركات عالمية المستوى و13.22% في الممتازة، إلى 0.39% في شركات الدرجة الرابعة و081% للدرجة الثالثة، وكان متوسط تعمين الفئات الست 8.1% فقط.

وإذا كان من المستحيل الحديث هنا عن نجاح، ليس من الصحيح أيضا الحديث عن فشل. لاحظ اندرزيج كابيروسكي في دراسة منشورة عن الأمم المتحدة، أن عائد السياسات التي اتبعتها كل دول الخليج العربية لإحلال القوى العاملة الوطنية محل الوافدة، حققت نجاحا لافتا في القطاع الحكومي ومحدودا في القطاع الخاص. ومغزى الملاحظة العميق، أن المشكلة في جوهرها لا تتعلق بمستوى كفاءة السياسات، بل بطبيعة المهمة ذاتها واختلافها الجذري عنها في حالة القطاع الحكومي. ما هو المقصود بذلك؟

تتسم هذه المهمة بطبيعة تناقضية عميقة. وسنجد الشكل المباشر والبسيط لهذا التناقض حاضرا في الملاحظات والشهادات الميدانية المباشرة المتصلة بتعمين القطاع الخاص. ولدينا دراسة كاملة توجز مقابلات مع قيادات وملاك 80 شركة قطاع خاص عمانية متنوعة الحجم والملكية والنشاط، حول رؤيتهم لعقبات التعمين. أعدها فريق ميداني من وكالة الولايات المتحدة للتنمية الدولية، ونشرت عام 1990 بعنوان «عمان: تقييم احتياجات تدريب القطاع الخاص». وبمقارنة ما جاء فيها بالشهادات الحديثة، سنجدها لا تزال قادرة على التفسير، رغم تقادم الكثير مما جاء فيها.

بماذا تخبرنا الشهادات؟ سنكتفي بإيراد تلك العناصر، التي تعيد طرحها الشهادات الحديثة لأقرانهم من رجال الأعمال، مهملين ما نعتبره عناصر متقادمة. أظهرت كل القيادات إيمانها بضرورة وحتمية التعمين، غير أنها رأته عملية طويلة المدى يصعب إخضاعها لبرامج مسبقة بجداول زمنية وكمية، وإلا سيواجهون مخاطر اقتصادية أكيدة. وعلى هذا الأساس يؤكدون على ضرورة التشاور المسبق، والتفاوض حول البرامج، والسيولة الاتصالية مع الهيئات المختصة.

تظهر الشهادات أربعة أنماط من الصعوبات تعترض طريق التعمين.

تتصل الصعوبة الأولى بتحفظات القيادات على مدى صلاحية العناصر الوطنية بالمقارنة بالوافدة. يتعلق التحفظ الأول بمستوى الصلاحية، وعندما نحلله داخليا يمكننا رده لعدة أسباب. من الأصل لا يطرق الأكفاء أبواب الشركات، لأنهم يفضلون العمل في القطاع العام والبنوك، حيث الدخل الأعلى وساعات العمل الأقل والإجازات الأكثر والهيبة الاجتماعية والمستقبل المضمون. وهناك نقص ما في آليات الترشيح من الجهات المختصة، لا يمكنها من تحديد احتياجات الشركات الوظيفية، وبالتالي ترشيح من هم في حاجه إليه. وثمة نوع ثالث من غياب الصلاحية ناتج عن نقص التدريب المسبق للعمل المتقدم له، مصدره إزاحة مسؤولية التدريب على الجهة الموظفة.

ويتعلق التحفظ الثاني بمستوى الالتزام تجاه العمل، حيث يرون ضعف احتمال استمرار العناصر الوطنية في العمل لفترة طويلة مقارنة بالوافدة، فهي قد تهجر وظيفتها بعد فترة قصيرة لأسباب مختلفة، مثل عمل افضل أو اقرب لموطنها، الأمر الذي يعني ضعف استقرار الشركة وخسارتها لنفقات التدريب.

ويرتبط نمط الصعوبات الثاني بمشاكل وحسابات الشركات ذاتها. يرى فريق من القيادات أن العناصر الوافدة تمارس ما يدعونه «حماية الوظيفة»، ويقصدون حرصها على حصر فرص التوظيف داخلها، وإبعادها عن العناصر الوطنية. ولا يرغب آخرون في تحمل نفقات تدريب العناصر العمانية، أو يرون ضرورة مساهمة الدولة القوية فيها. وفريق ثالث لا يظهر حماسته لتوظيف العناصر الوطنية، لارتفاع تكلفة رواتبها وصعوبة تخفيضها عند الركود وتراجع الربحية.

وينبع نمط الصعوبات الثالث من مدى كفاية نظام الترشيح للوظائف. فهو يحتاج من الجهات المرشحة لدراسة مسبقة وميدانية لاحتياجات الشركات. ومن الشركات لتأسيس روابط مباشرة مع الجامعات والمعهد العلمية.

ويظهر التقرير نمط رابع مصدرة ملاحظات المحررين وليس الشهادات. ويفيد أن الشركات رغم اقتناعها بالتعمين، لا تزال في مرحلة رد الفعل وأن عليها الانتقال لإعادة صياغة استراتيجيات عملها الاقتصادي كليا، بما يدعم فرص التنويع والنمو المتوازن وبالتالي التعمين.

عندما أجريت الدراسة السابقة لم يكن قد مر على إطلاق سياسات التعمين سوى عامين، ولكن الأمر المؤكد أن عمر المشكلة والوعي بها كان أبعد زمنيا. وبمراجعة الشهادات المعاصرة الصادرة من قيادات الشركات نراها تدعم جزءا كبيرا مما جاء فيها.

ولكن الأمر المؤكد أن ما سبق ليس اكثر من المستوى المباشر لمشاكل وتناقضات التعمين، وأن العوامل الفاعلة فيها أعمق وأكثر اتساعا من ذلك، مما يجعلها تجري في سياق متعدد المستويات، وزاخر بتيارات متضاربة، وتفعل فيه إرادات مختلفة. ما هو المقصود بذلك؟

تسعى العملية لإضفاء طابع وطني على القوى العاملة، في سياق اقتصاد وطني وكوني ينزع للاندماج، وكما نرغب أن تتدفق في ظله التكنولوجيا يجب أن نقبل تدفق الأيدي العاملة. وفي إطار مسعى لتنويع الاقتصاد الوطني، لن يحقق أقصى درجات النجاح إلا وفقا لمعايير الاقتصاد القائم على المعرفة الذي يعتمد نمطا كونيا لتقسيم العمل لا يهتم بالهوية القومية. مما يفرض التوفيق، ومعرفة المجالات التي يبدو فيها التعمين صعبا.

وتنطلق العملية من تخطيط مركزي، في سياق عام من الإرادات المتعددة والمتنوعة وتيارات السوق المتقلبة، الأمر الذي يفرض عمليات تفاوض وإعادة تفاوض مستمرة، تصحبها مراجعة دائمة للبرامج والمعايير على ضوء المستجدات، واستعداد يقظ وموضوعي للتمييز بين التقصير أو التراجع الناتج عن عوامل واقعية، وهذا الناتج عن التهرب من الالتزام أو ضيق أفقه.

وتتخذ العملية مسارا أساسيا اقتصادي النزعة، بينما توجد القوة المحركة الحقيقية على المدى الطويل، داخل مسار آخر ثقافي وقيمي، الأمر الذي يفرض إطلاق خطاب ثقافي عام يشدد على جملة من المفاهيم، مثل الإبداع وبناء الذات وواجبات المواطنة والإحياء التاريخي.

وكل ذلك يعني أننا بصدد عملية لا يمكن توجيهها حصرا عبر برامج معدة سلفا. هذه البرامج ضرورية وبدونها ستزداد الصعوبات، لكن علينا أن نعي أنها ستتم استجابة لأداء عملية تاريخية ممتدة زمنيا، تتسم بالصعوبة وتعدد المستويات وحتمية التقدم والتراجع، وبالتالي يتعين مراجعتها دوريا.