1150129
1150129
إشراقات

مساعد المفتي: تهميش الفقه الإسلامي من واقع الحياة من الأسباب التي أفضت إلى الخلل في قيام الفقهاء بدورهم لمواجهة المستجدات

02 نوفمبر 2017
02 نوفمبر 2017

في تمكينه من إدارة شؤون الحياة توسعة للناس -

الفقه الإسلامي تجديد الحياة أم تبرير الواقع ؟ «2» -

متابعة: سيف بن سالم الفضيلي -

أكد فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام للسلطنة أنه لا يمكن أن تحسن العلاقة بين الفقه وبين عموم المسلمين أو من ذوي السلطة والحكم إلا إذا التفت الفقهاء اليوم إلى منظومة «فقه الذات وفقه الموضوع وفقه النظام» فكشفوا لهم مزايا هذا الفقه الإسلامي وكيف أنه يورث الحياة انتظامًا واعتدالًا وأنه يرفع عنهم الحرج والضيق ويبدد عنهم المكاره والمشاق ويزيل عنهم الأغلال الدنيوية التي أحاطت بهم ولا يكون ذلك بالشعارات بل لا بد أن تظهر الكنوز التي يشتمل عليها الفقه الإسلامي.

وقال فضيلته في الجزء الثاني من حلقة سؤال الذكر حول أن هناك خللًا جعل العلماء الفقهاء في كثير من العصور، ومنها المتأخرة يعرضون عن الالتفات إلى فقه الذات وفقه النظام العام، ويسلطون أنظارهم فقط على فقه الموضوع ولذلك لم يتبين الناس محاسن الفقه الإسلامي.

مشيرًا إلى أن صنيع الفقهاء أنهم يبررون للواقع فلا يحملون الناس إلى مراشد الفقه الإسلامي والى الغايات النبيلة السامية، وإنما يطوعون لهم الواقع فأدخلوا الأعراف والعادات والتقاليد، وجعلوها من الدين فتارة يمنعون بدعوة سد الذرائع وتارة يفتحون بحجة المصالح المرسلة، وهم في كل أحوالهم بعيدون عن حقيقة الأدلة الشرعية ومبادئ الاجتهاد الشرعي الصحيح الصادر من أهله المعتمد على أدلته الصحيحة هم في كل ذلك بعيدون لكن مع مُكنة إعلامية، ومع انتشار الجهل راجت هذه التبريرات الفقهية التي طوعت الدين ولوت أعناق النصوص وأضعفت من هيبة الدين في النفوس ومن اثره في واقع حياة الناس وهذا ليس بالأمر الحادث.

وبيّن فضيلته أن في تمكين الفقه من إدارة شؤون الحياة توسعة للناس وابعاد لهم عن الجفاء والغلو والحرج والضيق.

ونبه الخروصي إلى أن هناك ضعفًا في تكوين الفقهاء تكوينًا علميًا راسخًا عميقًا ما يجعل الناس يتخذونهم رؤساء جهالًا.

هذا سؤال فيه قدر من الحرج، يصعب أن نذكر نسبة، أولاً يهمنا أن نتعرف على الأسباب لِمَ لَمْ يؤدي الفقهاء دورهم فيما سميتموه بالتجديد، وهي تسمية في محلها، لأنها مأخوذة أيضا من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من طريق أبي هريرة «يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها» وليس المقصود أن يكون التجديد فيما هو مستقر معلوم نصا من أحكام الفقه الإسلامية وانما فيما يحتاج إلى اجتهاد فيما يحتاج إلى استنباط فيما يراد أن تصل الأمة وأن يصل إليه مجتمع المسلمين، وفي بعث هذه العلوم في حياة الناس أي علوم الأحكام الشرعية العملية التفصيلية في واقع حياة الناس فيما يتعلق في جوانب السياسة والمال والاقتصادية والجوانب الاجتماعية والحقوق، وفيما يتعلق بالقيم والأخلاق وفيما يتعلق بكرامة هذا الإنسان، هذا هو المقصود من التجديد.

ومن التجديد أيضًا نفي الأباطيل والشبهات عن الدين بصنع ذوي النفوس المريضة أو ذوي العداوات والكيد بهذا الدين وأهله أو بصنع الغالين أو الجاهلين ويؤكد هذا أيضًا حديث اختلف فيه المحدثون -أي من حيث حكمه- ولكن عددًا منهم يصححه وهو حديث «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» فهذا أيضًا من التجديد في الدين، وهذا الحديث يقول: «يحمل هذا العلم أو يرث هذا العلم -في رواية- من كل خلف عدوله» إذ الأصل في الفقهاء أن يكونوا عدولًا أمناء صادقين عاملين بما آتاهم الله تبارك وتعالى من نور كتابه ونور هدي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يكونوا في مقام القدوة فيكون من تجديدهم لهذا الدين أن ينفوا عنه تحريف الغالين المبالغين المتنطعين المتعصبين الذين يؤتى من قبل غلوّهم الدين وأهل الدين وتحريف الجاهلين وانتحال المبطلين فيردون هذه الشبهات ويبينون الحق وينفون عن الدين هذه المحدثات والبدع والضلالات والغوايات والشبهات هذا كله من التجديد في هذا الدين، فلما آل الحال إلى تهميش الفقه الإسلامي من واقع الحياة وهذه هي الأسباب التي أفضت إلى الخلل في قيام الفقهاء بدورهم مما أفضى إلى ضعف نسبة قدرة الفقهاء لمواجهة هذه المستجدات ولقيادة الناس إلى سعة هذا الدين الذي هو دين سمح وسط عدل قصد في كل جوانبه فإن تهميش الفقه من واقع الحياة وانتشار الجهل والأمية بين المسلمين وعدم الاحتكام إلى الفقه الإسلامي على المستوى التشريعي كما أراد الله تبارك وتعالى مع التنقص منه أيضا في واقع حياة الناس من قبل من تقدمت الإشارة اليهم من ذوي النفوس المريضة أو من ذوي الأغراض والعداوات لهذه الدين ولأهله وللإسلام والمسلمين. أو كان ذلك بضعف التعليم العام عمومًا في مختلف وجوه العلم اللازمة للمسلمين فإن هناك ضعفًا عامًا، ومن ضمن هذا الضعف، ضعف تكوين الفقهاء تكوينًا علميًا راسخًا عميقًا فيتخذ الناس رؤساء جهالا بالإضافة إلى أسباب أخرى هي ليست محل البحث الآن لكن هذه في صدارتها انقلب الحال وصار صنيع الفقهاء أنهم يبررون للواقع فلا يحملون الناس إلى مراشد الفقه الإسلامي والى الغايات النبيلة السامية وإنما يطوعون لهم الواقع فأدخلوا الأعراف والعادات والتقاليد وجعلوها من الدين فتارة يمنعون بدعوة سد الذرائع وتارة يفتحون بحجة المصالح المرسلة وهم في كل أحوالهم بعيدون عن حقيقة الأدلة الشرعية ومبادئ الاجتهاد الشرعي الصحيح الصادر من أهله المعتمد على أدلته الصحيحة هم في كل ذلك بعيدون لكن مع مُكنة إعلامية ومع انتشار الجهل راجت هذه التبريرات الفقهية التي طوعت الدين ولوت أعناق النصوص وأضعفت من هيبة الدين في النفوس ومن اثره في واقع حياة الناس وهذا ليس بالأمر الحادث، لا يظنن ظان أن صنيع هذا النوع من الفقهاء انما هو في الأعصر المتأخرة بل كان ذلك من زمن طويل، لكنه اقتصر منذ زمن فيما يتعلق بالفقه السياسي ولذلك سوغوا للاستبداد والظلم وأضفوا عليه شرعية ورتبوا عليه أحكامًا فطووا أثر حقيقة الفقه الإسلامي القائم على المشاركة والشورى والنصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمناصحة والصبر والأخلاق الكريمة وعلى العزة وإعلاء حقوق الإنسان وكرامة هذا الإنسان والدعوة إلى الله تبارك و تعالى على بصيرة فإن من آثار ما صنعه هؤلاء الفقهاء أنهم قتلوا هذه الروح في نفس المسلم فإذا ما توالت الأعصر وازداد الناس في مدنيتهم وتقدمت العلوم وتوسعت المعارف فإن ذلك أدى بالمسلم إلى حيرة يبحث فيها عن مكامن الخلل وما درى أن الخلل الذي أصابه انما صنعه له أمثال هؤلاء الفقهاء، فهم إما فقهاء تبرير لا يبينون للناس الأحكام الشرعية كما أرادها الله تبارك وتعالى أو أنهم في الحقيقة متفيهقون بمعنى انهم جهلة لكنهم أدعياء علم، هم رؤساء جهّال كما في بعض الروايات عن رسول الله صلى عليه وآله وسلم، وبدل أن يشغلوا مع ذلك بالتصحيح اشتغلوا بتمزيق وحدة هذه الأمة فصرفوهم إلى العصبيات فتجد الفقهاء لا يشتغلون بالفقه الإسلامي وأنما يشتغلون بالتفسيق والتبديع وبالتكفير وبإخراج أهل القبلة من الإسلام وبتصنيف الناس وبإعطاء صكوك غفران لهؤلاء ومنعها عن هؤلاء، وبالتنابز بالألقاب وبالسخرية فزاد ذلك من ضعف هذه الأمة ومن تشتتها وتفرقها مع أن الأصل أن يكون الفقه الإسلامي سببا لجمع كلمتها ولتآلفها وتلاقيها على مائدة القرآن الكريم وسنة رسول الله صلى الله على وآله وسلم، لكن الظلم ابتدأ بتسويغ الظلم وتبرير الاستبداد وسحب مشاركة المجتمع في اتخاذ القرار وفي المشورة والمناصحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم امتد ليشمل أيضا التراجع على المستوى التشريعي وقبول ان يحتكم إلى غير الله تبارك وتعالى والى غير كتاب الله عز وجل في وجوه كثيرة في مجتمعات المسلمين فزادهم ذلك ظلمة فوق ظلمتهم وضعفا فوق ضعفهم إلا ما ندر من تجارب ناجحة صحيحة وتستند إلى كتاب الله عز وجل والى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تقوم على هذه الأسس والمباني الصحية ومع ذلك فإن اردنا أن نلخص النسبة فإنها نسبة ضئيلة للأسف الشديد لأن كل هذه الوجوه حتى وصل الحال إلى الظن ان التفقه في دين الله تبارك وتعالى يقتصر على إعادة بحث ما فرغ من بحثه ولذلك جذب أيضا بعض هؤلاء الفقهاء إلى الأرض بفعل ما كان يصنعه عامة الناس أو ما كان يفعله أيضًا ولا يزال بعض المتفيهقين من محاولة زيادة الميوعة في الفقه الإسلامي بتطويع بعض النصوص ولي أعناقها لأجل مناقشة قضايا حسمت تجاوزها الزمن واستقرت بنيت على أدلة صحيحة من كتاب الله عز وجل ومن سنّة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فأضعف ذلك من عزة المسلمين وهيبتهم وكرامتهم بين الناس جميعا.

إصابة مبكرة

كان مبكرًا، وأصاب المدارس الإسلامية في وقت مبكر لكن كان مقتصرًا، من العلماء من يقول إن التحالف مع السلطة هو الذي أفضى بهم إلى ذلك ومنهم من يقول بأنهم راعوا فقه الضرورة، وإذا بفقه الضرورات ان يتحول الى الأصل، فهم آثروا ان يغضوا الطرف عما يتعلق ببعض مظاهر الاستبداد والظلم والتغلب في سبيل نشر دعوة هذا الدين وحفظ عقل المسلمين ووعيهم الجمعي بصدارة الاحتكام إلى كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والاشتغال بما يحتاجون إليه من إصلاح أحوال معيشتهم، ففقه الضرورة تحول بعد ذلك إلى أن يكون أصلًا يبنى عليه ويقاس عليه ولم يوضع في محله، وكلا التبريرين صحيح.

يعتمد على تبيين حقيقة..

الجواب يعتمد على تبين حقيقة غابت عن كثير من فقهاء الإسلام فضلًا عن جماهير المسلين، إذ ليست القضية في علاقة الفقه الإسلامي بالأنظمة القائمة وبذوي القرار والسلطة أو علاقة الفقه بجماهير المسلمين وإنما القضية تكمن في علاقة الفقهاء الذين يطوعون الفقه صوب إحدى الجهتين فيبتعدون بذلك عن حقيقة الفقه الإسلامي، فلنتبين أولًا هذه الحقيقة ثم لننظر في منزلة الفقهاء بين هاتين الجهتين.

الفقه الإسلامي في جوهره ومضمونه يقوم على ثلاثة أركان: على فقه الذات، وفقه الموضوع، وفقه النظام.

أما فقه الذات فيراد به ما يتعلق بالمكلف نفسه في توثيق صلته بالله تبارك وتعالى وفي تزكية هذه النفس وفي توجيهها نحو المراشد والهدى والحق والنور وهذا لا شك يبدأ من البناء العَقَديّ الإيماني الراسخ، ثم بتزكية خصال الخير وتوجيه هذه النفس نحو اتباع الصراط المستقيم، فالفقه الإسلامي يبدأ من مخاطبة النفس ولذلك قلت بأن هذا الركن يتمثل فيما يعرف بفقه الذات كما انه يتناول فقها آخر وهو فقه الموضوع أي الحقيقة، الموضوع الذي يراد تبين الحكم الشرعي له، فما هو حكمه هل هو واجب أو مستحب، مندوب إليه أو أنه من عموم المباحات أو انه في دائرة المكروه أو أنه من المحظور المحرم شرعا، هذا يتعلق بالأحكام الشرعية للموضوعات والقضايا والمشكلات والاستفتاءات التي يبحث عنها الناس أو التي يريد الفقه الإسلامي وتتشوف الشريعة بمقاصدها إلى إيصال الناس إليها.

وأما الركن الثالث فهو فقه النظام العام، إذ لا يمكن توجيه الذات ولا معالجة الموضوع إلا ببناء نظام مجتمعي ونظام عام يهيئ البيئة المناسبة للالتزام والتعرف على الأحكام الشرعية تعرفًا صحيحًا حقيقيًا يفضي بالأفراد إلى اتباع الحق ويورث المجتمع والبيئة بكل ما فيها من عناصر ومكونات إلى التكامل في سبيل هذا البناء الفقهي.

لنأخذ مثالًا، وهو واضح، لكن الفقهاء للأسف الشديد لم يبيّنوه للناس ولعلهم لم يفعلوا ذلك لظنهم أن جماهير الناس تعي هذه الحقيقة عن الفقه الإسلامي، لنأخذ تحريم الخمر، سنجد في الآيات التي نزلت بتحريم الخمر فقها للذات يتوجه إلى خطاب المكلف بتزكيته وتوجيهه ونجد تناولًا للموضوع نفسه محل بيان الحكم الشرعي كما نجد نظاما عاما يهيئ البيئة اللازمة للامتثال والالتزام «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»، ما يتعلق بالخطاب «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا» يتعلق بالنظام العام، لكن «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ» هذا هو فقه الموضوع، «فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» هذا هو فقه الذات.

«إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ» هذا يتعلق بالنظام العام، «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» مرة أخرى يتعلق بالذات.

في تكامل تمتزج أركانه امتزاجًا يورث النفس خشية من الله تبارك وتعالى ويبصرها بالحكم الشرعي بأوكد العبارات ويجعلها في إطارها اللازم للامتثال والالتزام.

لو أخذنا مثالا آخر أيضا من معهود الناس ومألوفهم، ما يتعلق بالحدود والعقوبات في الإسلام فإن أحكامها الشرعية بينت وهذا هو ما نعرفه بفقه الموضوع وخوطب به المكلفون لكنه أحيط بقدر من الاشتراطات والضوابط الحاكمة للعلاقة بين الذوات والموضوع في نظام عام بحيث انه إذا حصل خلل في النظام العام فإن ذلك يؤدي إلى شبهات تدرأ بها تلك العقوبات والحدود، وهذا مطرد حتى لو فحصنا ما يتعلق بإقامة الصلاة إيتاء الزكاة فرضية الصيام سنجد ان هذه الشعائر التعبدية أيضًا يتناولها الخطاب القرآني وخطاب رسول الله صلى عليه وآله وسلم بهذا التكامل.

لنأخذ في هذا السياق أيضا حتى تتضح الصورة تماما ما يتعلق بجانب المعاملات المالية فهناك أوامر مباشرة حتى في ابسطها ما معنى «من غشّ فليس منا» فهناك موضوع وهو الغش ينهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمخاطبة المكلفين مباشرة ثم بنفي أن يكون من يقع في هذا المنهي عنه من جماعة المسلمين وكأنه يحدث خللا في النظام العام، وكذا الحال بسائر المعاملات المالية «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» فالخطاب لجمع المؤمنين ولأفرادهم بالوفاء بالعقود، هذا الأصل التشريعي المتعلق بالمعاملات المالية بنى عليه الفقهاء ما نعرفه نحن اليوم بنظرية العقد، ونظرية العقد مثل سائر النظريات الفقهية، تتناول مرة أخرى ذوات المكلفين بالتوجيه والتزكية والإرشاد والعظة كما تتناول موضوعات المعاملات المالية بأنواع العقود وأنواع هذه المعاملات وبيان أحكامها الشرعية ما الممنوع منها وما هو الجائز ثم بما تحدثه في النظام العام ولذلك نجد أن الله تبارك وتعالى في مواضع عديدة من كتابه الكريم يبين عاقبة الخلل في هذه العقود ويبين مغبة عدم الاكتراث بالأحكام التشريعية اللازمة للعقود، فعلى سبيل المثال إذا ما دخل الفساد في الذمم وتعامل الناس بما حرم الله تبارك وتعالى من أنواع الرشا والفساد واكل أموال الناس بالباطل فإن ذلك يفضي إلى تكدس الثروات في أيدي قلّة منهم ولذلك يبين الله تبارك وتعالى في سياق واحد هذه العاقبة فيقول: «كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ».

حتى نفهم الجواب على هذا السؤال، حصل خلل جعل الفقهاء في كثير من العصور وفي هذه العصور المتأخرة يعرضون عن الالتفات إلى فقه الذات وفقه النظام العام ويسلطون أنظارهم فقط على فقه الموضوع ولذلك لم يتبين الناس محاسن الفقه الإسلامي. لم يعرفوا الروائع الحضارية التي أوجدها الفقهاء الكبار الأئمة الأعلام.

لا يمكن إنكار أن هناك روائع ومحاسن عظيمة تناولت وجوه الحياة ولذلك قاد المسلمون ركب الحضارة الإنسانية في العلوم في المعارف في الثقافات في الأخلاق في مختلف وجوه الإبداع الإنساني لأن الالتفاتة إلى النظام العام وإلى فقه الذوات كانت بقدر كاف لتحقيق هذه الغاية لكن بدأ المسلمون يتراجعون فلا يلتفتون إلا إلى الموضوعات يبينون أحكامها الشرعية مجزأة عما يتعلق بتوجيه الفرد وبحفظ النظام العام ولذلك ساءت العلاقة بين الفقه الإسلامي الذي ينتجه -لا نتحدث عن حقيقته وانما نتحدث عن نتاج الفقهاء المعاصرين أو في الأعصر المتأخرة- حصلت فجوة بين هذا الفقه الإسلامي، وبين جماهير المسلمين، كما حصلت علاقة مضطربة بين الفقه الإسلامي وبين ذوي النفوذ والسلطة فتارة يجنح الفقهاء لإرضاء ذوي السلطة وتارة يجنحون صوب حيازة رضا الجماهير فيستبد بهم ذلك بعيدًا عن الحق والرشد ومقتضيات الفقه الإسلامي. ولا يمكن أن تحسن هذه العلاقة إلا إذا التفت الفقهاء اليوم إلى هذه المنظومة فكشفوا للناس سواء كانوا من عموم المسلمين أو من ذوي السلطة والحكم كشفوا لهم مزايا هذا الفقه الإسلامي وكيف انه يورث الحياة انتظاما واعتدالا وانه يرفع عنهم الحرج والضيق ويبدد عنهم المكاره والمشاق يزيل عنهم الأغلال الدنيوية التي أحاطت بهم ولا يكون ذلك بالشعارات بل لا بد أن تظهر الكنوز التي يشتمل عليها الفقه الإسلامي، إذ في تمكين الفقه من إدارة شؤون الحياة توسعة للناس وابعاد لهم عن الجفاء وابعاد لهم عن الغلو وابعاد لهم عن الحرج والضيق وسيرون كيف أن ثرواتهم تحفظ وأن أعراضهم تصان وان دماءهم تحفظ وان حقوقهم تؤدى اليهم إذ من وظائف الفقه ان يحمل الناس على ما يسعهم في دينهم، فإذا اكتملت هذه المنظومة أمكن ان تكون هذه العلاقة علاقة كما أرادها الله تبارك وتعالى عندما قال: «وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ» فلئن كان مجموع الأمة موصوف بهذه الصفات فإن أهل الذكر العدول الأمناء أحرى ان يصدق فيهم هذا الوصف وأن يكونوا ممن يهدون الى الحق وبه يعدلون. وهذا لا يعني الا تكون هناك عقبات وصعوبات يواجهها أهل الفقه الإسلامي أو يواجهها جماهير المسلمين لكن لا مناص من هذا الانتظام، والله تعالى أعلم.