1150752
1150752
إشراقات

المجاملة بين حســـن الخلق والنفاق

02 نوفمبر 2017
02 نوفمبر 2017

وسيلة لا غاية -

يوسف بن إبراهيم السرحني -

«إن كانت المجاملة لا تضر بالدين ولا تضر بالنفس، ولا تضر بالمبادئ والقيم، ولا تضر بالمصلحة العامة، ولا تتعارض مع الأمانة في النصيحة، فتلك مجاملة من حسن الخلق، ومهما يكن من أمر فإن المجاملة المحمودة يجب أن تكون وسيلة وليست غاية في حد ذاتها، وتكون بحسب المقام»

بداية أقول: المجاملة على حساب الدين محرمة شرعًا، وممقوتة فطرة، فهي ليست من الدين في شيء، وليست من الخلق الحسن في شيء، وليست من المروءة في شيء، والمصيبة تكبر، والإثم يعظم إن كانت تلك المجاملة مجاملة لأعداء الدين، لذا فهذه المجاملة مرفوضة جملة وتفصيلًا بأي وسيلة من الوسائل، وبأي صورة من الصور، ويدل على ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس» رواه الترمذي. رقم الحديث:2414، وابن حبان: رقم الحديث:276.

وقبل الحديث عن الموضوع أرى من الأهمية بمكان تحديد معاني المصطلحات التي يتألف منها عنوان الحوار؛ لأن الحكم على الشيء فرع تصوره، فهناك الكثير من الناس من يخلط بين المفاهيم وتلتبس عليه الأمور، فتحديد معاني المصطلحات يعين الكاتب والقارئ على حد سواء، يعين الكاتب على تصور الموضوع تصورًا تامًا، وتوضيحه بشكل علمي، وتجليته بأسلوب سهل ميسر خال من التعقيد والغموض والإبهام، ويعين القارئ على فهم الموضوع واستيعابه، ومعرفة ما يريد منه الكاتب.

وعنوان الحوار هنا يشمل ثلاثة مصطلحات هي؛ المجاملة والخلق والنفاق؛ فالمجاملة على وزن مفاعلة، أي مشاركة بين طرفين أو بين أطراف، وقد جاء في لسان العرب لابن منظور وغيره من قواميس اللغة العربية؛ المجاملة تعني المعاملة بالجميل، أي معاملة الآخر بالجميل، والمجامل هو الشخص الذي يقدر على جواب غيره فيتركه؛ إبقاءً لمودته وعلاقته الطيبة، والمجامل أيضًا هو الشخص الذي لا يقدر على جواب غيره فيتركه ويحقد عليه إلى وقت ما. ويقال: جامله أي سَايره في كلامه مجاملة؛ تأدبًا لا عن اقتناع أو تسليم، إبقاء لمودته أو حفزًا له وتشجيعًا أو اتقاء لشره وضرره، ويقال: جامله بكلام عذب، أي أسمعه كلامًا جميلًا حسنًا فيه كثير من الاحترام والتقدير، ولو لم يكن مخلصًا في كلامه، كأن يقول له: كنت موفقًا في حديثك، أو رائعًا في أدائك، أو بارعًا في دورك.

أما الخلق فيراد به الخلق الحسن؛ المأمور به شرعًا، والمتقبل فطرة وعقلًا؛ الخلق الذي بعث به جميع الأنبياء والمرسلين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق» رواه البيهقي والبزار. الخلق الذي وصف الله تعالى به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : «وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ».

ولا ريب أن الخلق الكريم يؤمر به كل مسلم؛ ذكرًا كان أو أنثى، لذا يجب على كل مسلم أن يتحلى به، وأن يتصف به، وأن يجعله منهج حياة، ودستور معامله في كل ما يأتيه وفي كل ما يذره مع الناس جميعًا، يقول الله تعالى: «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا».

إنه أمر إلهي بأن نقول للناس حُسْنًا؛ لأنه كما يقال: لذيذ الألفاظ مغناطيس القلوب، وهو من الخلق الحميد، فالنفوس جبلت على حب واحترام من أحسن إليها، وطبعت على كره وبغض من أساء إليها.

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن» رواه الترمذي. رقم الحديث:1987، وقال: حديث حسن.

فالصدق، والأمانة، والعدل، وإفشاء السلام، والابتسامة الصادقة، والكلام الحسن، كل ذلك من مكارم الأخلاق، ومحاسن الصفات، الذي له الأثر الحسن العظيم في نفوس الآخرين.

أما النفاق فهو آفة مقيتة وظاهرة سيئة، وداء عضال، وهو أن يظهر الإنسان خلاف ما يبطن، وهو قسمان اعتقادي وعملي أو أخلاقي، يقول ابن كثير: النفاق هو إظهار الخير وإسرار الشر، وهو أنواع: اعتقادي وهو الذي يخلد صاحبه في النار، وعملي وهو من أكبر الذنوب.

وأول ما ظهر النفاق في الإسلام ظهر في المدينة المنورة بعد الهجرة النبوية وكان نفاق عقيدة، أي كانوا يظهرون الإيمان ويخفون الكفر، يقول الله تعالى عنهم: «وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ».

أما النفاق العملي أو الأخلاقي فهو كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» متفق عليه، وفي رواية عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» متفق عليه.

وفي ضوء ما تقدم تنقسم المجاملة من حيث الحكم الشرعي قسمان، مجاملة جائزة محمودة، ومجاملة محرمة مذمومة، فإن كانت لأجل الدين فهي مجاملة جائزة وتسمى مدارة، وفيها تضحية بالدنيا لمصلحة الدين، وقد جاء وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مداراة الناس صدقة» رواه ابن حبان. رقم الحديث:471. وجاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: «أَنَّهُ استَأذَنَ عَلَى النّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ: ائذَنُوا لَهُ فَبِئسَ ابنُ العَشِيرَةِ أَو بِئسَ أَخُو العَشِيرَةِ. فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الكَلَامَ. فَقُلتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قُلتَ مَا قُلتَ ثُمَّ أَلَنتَ لَهُ فِي القَولِ؟ فَقَالَ: أَيْ عَائِشَةُ! إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنزِلَةً عِندَ اللَّهِ مَن تَرَكَهُ أَو وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحشِهِ»

وعليه فإن المدارة هي كما قال الإمام القرطبي: «بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا وهي مباحة وربما استحبت» وقيل المدارة هي: درء الشر المفسد بالقول اللين، وترك الغلظة، أو الإعراض عنه، إذا خيف شره، فالمداري أي المجامل لا يُضمِرُ الشر لأحد، ولا يسعى في أذية أحد في ظاهر ولا في باطن، ولكنه يظهر المحبة والمودة والبِشر وحسن المعاملة ليتألف قلب صاحب الخلق السيء، أو ليدفع أذاه عنه وعن غيره من الناس، ولكن من غير موافقة له على باطله، أو معاونة له عليه بالقول أو الفعل، وللمدارة فوائد منها؛ تزرع الألفة والمحبة بين الناس، وتؤلف القلوب المتنافرة، وتجمع النفوس المختلفة، وتسهم في نجاح الدعوة إلى الله تعالى.

أما إن كانت المجاملة لأجل الدنيا على حساب الدين فهي لا ريب مجاملة محرمة، وتسمى مداهنة، ولا مداهنة في الدين؛ لأن معنى المداهنة ترك ما يجب لله تعالى؛ لغرض دنيوي، وهوى نفساني. وقال الإمام القرطبي المداهنة هي: « ترك الدين لصلاح الدنيا»

وعليه فمن المهم التفريق بين المدارة والمداهنة، يقول ابن حجر العسقلاني : «وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغَلِطَ ؛ لأن المداراة مندوبٌ إليها، والمداهنةَ محرَّمة، والفرق أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها: معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة: هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله، وتركُ الإغلاظِ عليه حيث لا يُظهِر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك» المصدر: فتح الباري شرح صحيح البخاري ج1ص528.

ومما تقدم يتضح إن كانت المجاملة لا تضر بالدين ولا تضر بالنفس، ولا تضر بالمبادئ والقيم، ولا تضر بالمصلحة العامة، ولا تتعارض مع الأمانة في النصيحة، فتلك مجاملة من حسن الخلق، ومهما يكن من أمر فإن المجاملة المحمودة يجب أن تكون وسيلة وليست غاية في حد ذاتها، وتكون بحسب المقام، فهناك من يفرط في استخدام المجاملات لدرجة الإخلال، فيصبح عرضةً لسخرية الناس به، فلا ينظر إليه نظرة تقدير، ولا يكون لقوله وزن، حتى من جانب من يجامله؛ حيث يُسمع لكلامه على مضض؛ لذا فلا يصح أن يبالغ الشخص في المجاملة، ولا أن يكثر من التصنع والتمثيل والتملق، فهذا له أثر سلبي لدى المتلقي، ومردود سيئ على الشخص المجامل، بل تجب أن تكون في حدود المعقول، كما يجب اختيار الكلمات والألفاظ والعبارات المناسبة؛ فالمقامات تختلف، والأحوال تتباين، والأشخاص يتفاوتون.

أما إن كانت المجاملة على حساب الدين، وتتعارض مع المبادئ والقيم، ويترتب عليه ضرر بالنفس، وبالمصلحة العامة فلتلك مجاملة من النفاق. وهي مجاملة خاسرة منذ بدايتها، ومشكوك في بقائها واستمرارها، وهي مجاملة تدل على ضعف الإيمان، وقلة الخوف من الله تعالى وعقابه، وعدم استشعار مراقبة الله تعالى. فالمجاملة بهذا المعنى سلوك خاطئ لا يجوز شرعًا.