Untitled-1
Untitled-1
إشراقات

المجالس.. ودورها في ترسيخ العادات والتقاليد العمانية في نفوس الناشئة

19 أكتوبر 2017
19 أكتوبر 2017

سالم بن حمدان الحسيني -

للمجالس العامة دور مهم في حياة العمانيين على مر العصور، ويجب ألا يقتصر دورها على بعض المناسبات الاجتماعية، بل ينبغي أن يتوسع دورها أكثر من ذلك لتكون محضنا لكثير من الفعاليات والمناسبات الدينية والاجتماعية كإقامة حلقات تعليم القرآن الكريم وتدريس أحكامه بدلا من أن تبقى مغلقة طوال العام، كما أن دورها الحقيقي لا يقل أهمية عن دور المدارس والجامعات فهي تربي الأجيال وتهذب السلوك، وكانت قديما عامرة باللقاءات والجلسات يلتقي فيها الأهالي لتبادل الآراء والأفكار، ويتعلم فيها الصغار النهج الحميد، والسلوك القويم والعادات الحسنة، ولها دور رائد فهي محطة لاستقبال الضيوف، كما أنها تمثل دور إثبات الهوية العمانية والانتماء العريق لهذا الشعب الأصيل .. ذلك ما أوضحه الاستطلاع التالي عن أهمية المجالس العمانية ودورها في ترسيخ القيم والمبادئ والأخلاق الفاضلة ..

بداية يحدثنا أمين الفتوى بمكتب سماحة المفتي العام للسلطنة الشيخ إبراهيم بن ناصر الصوافي عما تمثله هذه المجالس من أهمية وما تقوم به من أدوار مجتمعية فيقول: تعد المجالس متنفسا لأهل القرية يجتمعون فيها للأفراح والأتراح، ويتبادلون فيها الأفكار والآراء، ويتوصلون إلى الحلول التي من شأنها أن تؤدي إلى حدوث الإصلاح وتطوير البلدة وجمع أبناء البلدة الواحدة من الكبار والصغار؛ فيتعلم الصغار من الكبار آداب المجالس والأخلاق الإسلامية والعادات والتقاليد العمانية التي لا بد من ترسيخ النافع والجيد والصحيح منها في نفوس هؤلاء الناشئة حتى تتوارث هذه العادات وتبقى متأصلة لا تندثر مع الأيام إلا أن دور المجالس لا ينبغي أن يقتصر على الاجتماع في الأفراح والأتراح، كما هو الحاصل في كثير منها، وإنما ينبغي أن يتوسع دورها أكثر من ذلك تكون محضنا لكثير من الفعاليات والمناسبات الدينية والاجتماعية والأهلية، فهنالك الأمسيات التي تتجدد بين فترة وأخرى، فبدل أن تبقى المجالس مغلقة تفتح أبوابها لهذه المناسبات، فيكون ذلك مظهرا من مظاهر الاجتماع ولمّ الشمل وتوحيد الكلمة، كما أن القرآن الكريم هو النور الذي يهتدي به الناس، فينبغي أن يكون لهذه المجالس دورها ونصيبها في إقامة حلقات تعليم القرآن الكريم وتدريس أحكامه سواء كان ذلك للأطفال الصغار أو للكبار، ومما يثلج الصدر أننا نجد عددا من المجالس بدأت في الانتباه؛ لذلك ونخطو خطوة ينبغي أن تتبعها خطوات لتعم هذه الفكرة وتنتشر في ربوع البلاد.

وأضاف: كما أن المناسبات الدينية كدخول السنة الهجرية والمولد النبوي الشريف ومناسبات الإسراء والمعراج وشهر رمضان المبارك كلها مناسبات ينبغي أن تأخذ المجالس حظها ونصيبها لتكون رافدا في تنمية المجتمعات، والمجالس ليست كالمساجد فالمساجد لها أحكام خاصة وينبغي التحفظ فيها من حيث الكلام ومن حيث ما يجري فيها من حديث أو اكل أو أفعال أخرى. وكذلك المجالس يمكن أن تدخلها صاحبات الأعذار، فلا يحرمن من هذه المناسبات، فتحصل لهن الفائدة كغيرهن من أبناء المجتمع.

أما عن عزوف بعض الفئات المقتدرة على المساهمة والتعاون في إنشاء مثل هذه المجالس .. بحجة أن الأجر فيها ليس كإنشاء المساجد .. أوضح فضيلته قائلا: لابد من العناية بكل مرافق البلاد فعندما تكون البلدة غير محتاجة للمساجد نظرا لوجود العدد الكافي منها، فلا بد أن تتوجه إرادة المحسنين والراغبين في الأجر إلى المرافق الأخرى التي من شأنها أن تخدم المجتمع وفضل الله واسع وأجره كبير، فلا يقتصر الأجر على المساجد وحدها بل قد يكون في بعض الأحيان إنشاء المجلس أفضل وأولى من إنشاء المسجد، فمن غير الصحيح اعتقاد أن الأجر يقتصر على المسجد مثلا.

وعن تفعيل دور هذه المجالس، ومن الذي عليه القيام بهذه المهمة أجاب قائلا: تقع المسؤولية في تفعيل دور هذه المجالس على جميع من لديه القدرة على تفعيلها وتقديم ما يستطيع تقديمه من فكرة أو رأي؛ لأنه يتحقق على يد الجماعة ما لا يتحقق على يد الفرد الواحد، فقد يكون لدى بعض الجهات من الأفكار أو التجارب ما تستطيع نقله إلى غيرها، وبالتقاء الأفكار يظهر الجديد ويتحسن العرض المقدم للجمهور.

من جانبه أوضح الشيخ سلام بن حمد بن عبيد السليمي من ولاية سمائل قائلا: في اعتقادي أن دور المجالس لا يقل أهمية عن دور المدارس والجامعات فهي تربي الأجيال وتهذب سلوكهم، وكانت هذه المجالس قديما عامرة باللقاءات والجلسات منذ الصباح الباكر حتى صلاة العشاء يلتقي فيها أهالي المنطقة يتجاذبون أطراف الحديث ويتبادلون الآراء والأفكار فيما يهم المجتمع، حيث يتعلم الصغار من آبائهم النهج الحميد، والسلوك القويم والعادات الحسنة، كما كان لهذه المجالس دور رائد فهي تستقبل الضيوف القادمين من أماكن مختلفة فيتعاون الأهالي في إكرامهم كل يقوم بدوره في القيام بواجب الضيافة، كذلك يتم إكرام الضيف باصطحابه إلى ربوع البلدة للتعرف على معالمها وآثارها، وكان ذلك نهجا عمانيا أصيلا الأمر الذي يجعل الضيف يحمل انطباعا حسنا وشعورا بالرضا، وحق له ذلك لأن ديننا الإسلامي الحنيف يحثنا على المبالغة في إكرام الضيف، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه.

وأضاف: كانت المجالس قديما تقوم بدور المدرسة حيث تقام فيها الدروس وحلقات تحفيظ القرآن الكريم، كما يحضر هذه المجالس جمع كبير من فئات عمرية مختلفة يأتون للاستماع لما يفيدهم في أمر دينهم ودنياهم، وكثيرا ما يقوم أحد الحاضرين بقراءة كتاب في الفقه أو الحديث أو التفسير حتى تعم الفائدة جميع الحضور.

وأوضح السليمي قائلا: عاصرت المجالس القديمة حينما كانت تقوم بتلك الأدوار المجتمعية المهمة حيث كانت تعقد فيها اللقاءات، وتقوم بمهام متعددة، فكنا نأتي مع آبائها منذ الصباح الباكر، وتجتمع فيها الأيادي مع حضور الضيوف القادمين من أماكن بعيدة نتناول معهم القهوة وكذلك بعض الوجبات كالإفطار، وبعد الإفطار يذهب كل منا إلى أعمالهم، ومن ليس له عمل يجلس يبقى جالسا في تلك المجالس مع حلقات الذكر لتدارس العلوم المختلفة وقراءة ما تيسر من كتبه الفقه والعقيدة وغيرها. لذلك كان الأولاد يتعلمون من هذه المجالس ونشأ منهم جيل أخلاقي تربى تحت أقدام آبائهم على الأخلاق الطيبة وعلى التواضع وعلى الهمة وعلى العمل وعلى تقدير الناس.

ويتمنى السليمي أن يعود دور المجالس كما كان سابقا، حيث قال: ينبغي أن يقوم الأهالي بلقاءات دورية في هذه المجالس لمناقشة ما يهم أمور بلدهم وتقوية أواصر المحبة والتعاون والتآلف فيما بينهم، ومناقشة ما يهم أبناءهم، كما ينبغي أن تفعل هذه المدارس حتى تقوم بدور أكبر مما تقوم به الآن من إقامة مناسبات الأفراح والأتراح فحسب بل تقام فيها الدروس للأولاد الصغار حيث إن الملاحظ أن هناك نسبة قليلة من هذه المجالس تقام فيها الدروس، وهذا شيء مهم في نظري، فإقامة مثل هذه الدروس في المجالس يعضد دور المدارس، فلا يجب أن يتكل أولياء الأمور على المدارس فحسب في تربية أبنائهم بل يجب أن ينشأ الولد بداية من البيت والمجتمع ففي ذلك خير عظيم .. مشيرا إلى أن من يقوم بهذه العملية التعليمية لوجه الله فيه أجر عظيم، ولو كان ذلك مرة أو مرتين في الأسبوع الواحد، فينبغي أن يتنبه لهذا الأمر. والله ولي التوفيق.

من جانبه أكد فضيلة الشيخ مسعود بن محمد المقبالي في محاضرة له عند افتتاح أحد المجالس: إن إنشاء المجالس هي إحياء لأحد ركني التربية في السلطنة الفكرية والوجدانية والسلوكية، فالعمانيون درجوا على أن يلتفوا حول أمرين اثنين الأمر الأول مدارس تحفيظ القرآن الكريم، فقبل المدرسة اعتماد الطفل العماني أن يتعلم الحروف الأبجدية في هذه المدارس ولذلك إذا وصل الصف الرابع في مدرسته لا تعجزه جملة في القراءة أن يقرأها بخلاف ما هو عليه الآن، فهناك في هذه الفترة ما قد يصل إلى الثانوية العامة وهو لا يحسن القراءة بخلاف الواقع السابق، حيث كان الناشئ يتعلم القراءة والكتابة ويتعلم الأدب ويحبب إليه القرآن حيث تحتفي القرية كلها بمن يختم القرآن الكريم من أهل البلدة، وكان المعلم له هيبة وله سلطة على الولد فإذا ما ختم الولد القرآن الكريم قرأوا ما يعرف بالتيمينة ويتجولون به في الحارة للاحتفاء بهذه لأنه ختم القرآن الكريم، هذا هو الركن الأول. أما الركن الثاني فهي هذه المجالس حيث تربي هذه المجالس الناشئة على القيم الجميلة وعلى العادات الأصيلة، وأنا لما تتبعت العادات العمانية وجدتها سننا نبوية، حتى جمعتها في رسالة مستقلة أسميتها .. «عادات عمانية .. سنن نبوية» فهي تربي على أمور رفيعة نبيلة منيعة.

وأضاف: فمثلا اللهجة العمانية لهجة فصيحة حتى أن الحافظ الأسيوطي في كتاب «الإتقان في علوم القرآن» عدد لغات العرب التي نزل بها القرآن الكريم، حيث قال في «باب فيما نزل بلغة أهل عمان»: ومن القرآن ما نزل بلغة أهل عمان، ولما تتبع كتب التفسير بدءا من ابن جرير وابن كثير والقرطبي وابن أبي حاتم والبغوي وكتب التفسير القديمة والمحدثة يأتون على بعض الآيات، ويقولون: هذه بلغة أهل عمان، فالعمانيون كانوا يجلسون هذه المجالس وفي كلامهم فيما بينهم كانوا يغرسون اللغة العربية تلقائيا، ولما بعدنا عن المجالس العمانية أصبحنا نستورد عبارات ما كانت معروفة، فالواحد منا يقول لزوجته مثلا: «المدام» فلم تكن هذه اللفظة موجودة في لغة العمانيين، كانوا يقولون للزوجة: «الأهل» وهذه موجودة في القرآن الكريم في قوله تعالى: (وقال لأهله امكثوا) يعني زوجته وكثير من مثل هذه الألفاظ.

وأضاف: لو تتبعت كلام العمانيين لوجدت له أصلا في اللغة العربية فهم من قلة الناس في العالم الذين التزموا بمفردات اللغة العربية حتى أن الشيخ سعيد بن حمد الحارثي – رحمة الله عليه – ألف كتابا مستقلا في ذلك سماه: «إزاحة الأعيان في لغة أهل عمان» وأرجع كل مفردة إلى أصلها من قواميس اللغة ومعاجمها، وكذلك من محاسن المجالس تعلم النشء المحافظة على السمت وعلى الهيئة وارتداء الملبوس العماني .. موضحا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس ثيابا، بل كان يحب الثياب العمانية فقد ورد أنه أحرم عليه الصلاة والسلام في أثواب عمانية، وكفن في أثواب عمانية، ويذكر صاحب السيرة الحلبية فيقول: وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ترك أثوابا عمانية وكان إزار رسول الله صلى الله عليه وسلم عمانيا. فإذا هذه المجالس تحبب الناشئة على أن يتربى على هيئته ويعتز بشخصيته، وكذلك يتعلم الاحتفاء بضيفه إذا أتاه يقوم من مقامه إذا أتى الضيف ويصافحه بكلتا يديه .. مؤكدا أن هذا من خلق الأنبياء فهذه هي عادة عمانية سنة نبوية حيث يقول: أنا حقيقة ذهبت وأنا أتتبع العادات العمانية فإذا بي أجدها مطابقة لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقواله وأفعاله وأحواله.. متسائلا: أين يحافظ على هذه العادات؟ مجيبا: يحافظ عليها في هذه المجالس التي تعد مدرسة يتعلمون من خلالها الحفاظ على هذه العادات وعلى هذه الأعراف الجلسة والهيئة والسمت والاحتفاء بالضيف، كما أن عادة ما يعرف بالمعازمة عند العمانيين هي سنة نبوية، وهي إيثار للغير على النفس، وهي عادة حسنة وردت في السنة عنه صلى الله عليه وسلم، فهذه العادات قيمة وبقاؤها إثبات هوية وإثبات انتماء عريق أصيل إلى الإسلام وما قبل الإسلام، فنسأل الله تبارك وتعالى أن يثيب كل من ساهم ولو بالشيء اليسير في إقامة مثل هذه المشاريع الخيرة.