أفكار وآراء

في انتخابات النمسا.. اليمين الشعبوي هو الفائز الحقيقي

18 أكتوبر 2017
18 أكتوبر 2017

عبدالعزيز محمود -

لم يكن انتصار اليمين الشعبوي في الانتخابات المبكرة التي شهدتها النمسا يوم الأحد الماضي الموافق 15 أكتوبر الجاري إلا انعكاسًا للأوضاع الجديدة في أوروبا، فالشعبوية المناهضة للهجرة تواصل تمددها في مواجهة الليبرالية الجديدة التي تسعى لفتح الحدود أمام الهجرة والتجارة.

ولم يكن هذا الانتصار هو الأول لليمين الشعبوي الذي حقق مكسبًا قياسيًا في الانتخابات التي شهدتها ألمانيا في سبتمبر الماضي، حيث فاز حزب البديل من أجل ألمانيا بالمركز السادس بحصوله على 94 مقعدًا في البوندستاج الألماني (البرلمان الاتحادي) ليصبح أول حزب نازي يدخل البرلمان منذ الحرب العالمية الثانية.

وكان هذا الفوز امتدادًا لمكاسب أخرى حققها اليمين الشعبوي هذا العام في أوروبا، ففي هولندا فاز حزب الحرية بالمركز الثاني بحصوله علي ٢٠ مقعدًا في الانتخابات التي أجريت في مارس الماضي، وفي فرنسا فازت الجبهة الوطنية بالمركز السادس بحصولها علي ٨ مقاعد في انتخابات يونيو الماضي، وفي النرويج فاز حزب التقدم بالمركز الثالث عقب حصوله على ٢٩ مقعدًا في الانتخابات التي أجريت في سبتمبر الماضي.

ولا شك أن فوز حزب الحرية اليميني الشعبوي بالمركز الثاني في انتخابات النمسا، وحصوله على ٥٣ مقعدًا من أصل ١٨٣ مقعدًا في المجلس الوطني (البرلمان)، يعكس تجاوبًا من الناخبين النمساويين لتوجهات الحزب المناهضة للهجرة والإسلام، وهو ما قد يؤهله للعودة إلى السلطة ضمن حكومة ائتلافية.

وبهذا الفوز بدا واضحًا أن اليمين الشعبوي يكسب أرضًا جديدة في أوروبا الديمقراطية، بعد أن هيمن على شرق أوروبا، سواء بالمشاركة في حكومات، أو تولي السلطة مباشرة كما حدث في المجر وبولندا وكرواتيا، مستثمرًا أزمة المهاجرين وعدم المساواة الاقتصادية وخيبة الأمل تجاه الاتحاد الأوروبي.

الانتخابات التي شهدتها النمسا كان يفترض إجراؤها في خريف العام المقبل، لكن التغييرات التي جرت في قمة حزب الشعب، وانهيار الائتلاف الحاكم، أدت إلى اتفاق الأحزاب الرئيسية على إجراء انتخابات مبكرة، وسط خلافات حول الهجرة والتكامل الأوروبي والأمن والتخفيضات الضريبية.

وبحصول اليمين بكافة أطيافه على 58٪ من أصوات الناخبين النمساويين، تمكن حزب الشعب (يمين الوسط) وهو واحد من أكبر حزبين في النمسا من الفوز بالمركز الأول بعد حصوله على 61 مقعدا من أصل 183 (أي ما يوازي 41٪ من مقاعد البرلمان).

وأصبح زعيمه سيباستيان كورتز البالغ من العمر ٣١ عامًا والذي يشغل منصب وزير الخارجية مؤهلًا لشغل منصب المستشار (رئيس الوزراء)، خلفًا للديمقراطي الاجتماعي كريستيان كيرن، وتشكيل الحكومة الجديدة، ليصبح أصغر زعيم سياسي في أوروبا.

وهي نتيجة تحققت بعد أن رفع كورتز شعار التغيير، على الرغم من أن حزبه كان جزءًا من الحكومة النمساوية لثلاثة عقود، وتعهد بتقييد الهجرة، وربط حصول المهاجرين على مساعدات اجتماعية بشرط الإقامة لخمس سنوات، وأصدر قانونًا لحظر الحجاب، وهي سياسات مماثلة لتوجهات اليمين الشعبوي.

وجاء في المركز الثاني حزب الحرية اليميني الشعبوي بزعامة هاينز كريستيان عقب حصوله على 53 مقعدًا (أي ما يوازي 31 ٪ من مقاعد البرلمان)، وأكثر من ربع أصوات الناخبين.

وهو حزب قومي معاد للهجرة والإسلام، تأسس في عام 1956 على يد نازيين سابقين، وشارك في الحكومة بين عامي 2000 و2005 خاض انتخابات الرئاسة عام 2016، وخسر مرشحه نوربرت هوفر في جولة الإعادة رغم حصوله على 46 ٪ من الأصوات، أمام زعيم حزب الخضر ألكسندر فان دير بيلن الرئيس الحالي للنمسا.

أما الحزب الديمقراطي الاجتماعي بزعامة كريستيان كيرن والذي كان الفائز الأول في انتخابات 2013، فقد احتل المركز الثالث بـ52 مقعدًا، فيما يشكل أكبر خسارة له منذ تأسيسه في عام 1945.

وجاء حزب نيوس -النمسا الجديدة- في المركز الرابع بـ٩ مقاعد، وقائمة بيتر بيلز في المركز الخامس بـ٨ مقاعد، بينما لم يحصل حزب الخضر والحزب الشيوعي والحزب اليساري الاشتراكي والحزب المسيحي على أية مقاعد.

وبدا واضحًا أن نتيجة الانتخابات تأثرت إلى حد كبير بأزمة المهاجرين، فالنمساويون يشعرون بالقلق نتيجة تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين إلى بلادهم منذ عام 2015، ويعتبرون ذلك تهديدًا ثقافيًا وأمنيًا، وطبقًا للأرقام فقد دخل النمسا 90 ألف لاجئ معظمهم من بلدان مزقتها الحروب مثل سوريا وأفغانستان والعراق.

مما جعل النمسا التي يقدر عدد سكانها بنحو 8.7 مليون نسمة تكافح لاستيعاب القادمين الجدد وسط جدل عام حول أحقيتهم في الحصول على مساعدات الرعاية الاجتماعية.

وهكذا فوض الناخبون النمساويون حزب الشعب اليميني برئاسة سيباستيان كورتز بتشكيل الحكومة، وهي مهمة تتطلب الائتلاف مع حزب آخر، لإحراز الأغلبية (92 مقعدًا داخل البرلمان)، حتى يمكن تشكيل الحكومة الجديدة.

وحتي الآن لم يحسم كورتز موقفه، هل يحاول كورتز عزل اليمين الشعبوي كما حدث في السويد، أم يتحالف معه بهدف ترويضه كما حدث في النرويج؟

وأيًّا كان الاختيار، فالمؤكد أنه سيعبر عن تعهدات كورتز بإحداث تغيير حقيقي، وإيجاد نمط سياسي جديد وثقافة جديدة، وهو ما بدأه قبل الانتخابات بتفكيك تحالفه مع الديمقراطيين الاجتماعيين.

وهكذا ربما يشكل كورتز تحالفًا مع حزب الحرية، وفي هذه الحالة فإن اليمين الشعبوي سوف يعود مرة أخرى للحكومة لأول مرة منذ عام ٢٠٠٥، كما ستتبنى النمسا سياسات أكثر تشددًا تجاه الهجرة والمساعدات الممنوحة للاجئين.

كما ستتبنى الحكومة الجديدة سياسات ملائمة لتوسيع الأعمال التجارية ولا سيما إلغاء الضرائب المفروضة علي الأرباح المحتجزة للشركات والدعوة لتبني تقشف مالي في منطقة اليورو.

والأهم أن تحالف حزبي الشعب والحرية سوف يشكل تحديًا لمحاولات ألمانيا وفرنسا تعميق التكامل الأوروبي، والحفاظ علي العقوبات الاقتصادية ضد روسيا. وقد تدعو النمسا الاتحاد الأوروبي لاتخاذ موقف أكثر تشددًا تجاه تركيا.

ومن الوارد أن يجدد كورتز تحالفه مع الديمقراطيين الاجتماعيين الذين فازوا بالمركز الثالث في الانتخابات النمساوية، لتهدئة مخاوف الشركاء في الاتحاد الأوروبي، خاصة وأن النمسا سوف تتولى رئاسة الاتحاد الأوروبي في خريف العام المقبل.

وهو توجه ربما يمثل تكرارًا لما حدث في السابق، حيث حكم الحزبان الكبيران الشعب والديمقراطي الاجتماعي النمسا معا لمدة 44 عامًا من الـ72 عامًا الماضية.

لكن هذا الاحتمال يبدو ضعيفًا، بعد أن رفع كورتز شعار التغيير، على الرغم من ازدهار الاقتصاد وانخفاض البطالة وتوافر فرص العمل.عمومًا وأيًّا كان شكل التحالف المقبل في النمسا، فالمؤكد أن فوز حزب الحرية اليميني الشعبوي بنحو ٣١٪ من مقاعد البرلمان النمساوي، سوف يدفع الحكومة النمساوية الجديدة نحو أقصى اليمين، كما سيعطي دفعة قوية لليمين الشعبوي في أوروبا، وهو طيف من الأحزاب والحركات التي تأسست في أواخر السبعينات علي يد نازيين سابقين لمعارضة العولمة والهجرة والتعددية الثقافية وأوروبا الموحدة. وهكذا فمن المتوقع أن تتجه النمسا نحو أقصى اليمين خلال السنوات الأربع المقبلة، وهو ما سيترك بصمات واضحة علي السياسات المتعلقة بالهجرة والعمل والعلاقة مع الاتحاد الأوروبي، فاليمين الشعبوي هو الفائز الحقيقي في الانتخابات النمساوية.