المنوعات

أغنية هادئة على طريقة ليلى سـليماني

08 أكتوبر 2017
08 أكتوبر 2017

ليلى عبدالله -

حين قرأت رواية «أغنية هادئة» للكاتبة الفرنسية المولودة في المغرب «ليلى سليماني» الصادرة عن المركز الثقافي العربي 2017م، تبادر إلى ذهني شخصيتان من شخصيات المسلسل المصري «سجن النساء» الذي أخرجته المخرجة القديرة «كاملة أبو ذكرى» وتأليف الكاتبة «فتحية العسال»، الشخصيتان هما «رضا» و«حياة». رضا التي جسدتها الممثلة «روبي»، وحياة التي تلبست دورها بعناية ملفتة الممثلة «دنيا ماهر»، رضا لعبت دور عاملة منزل، فتاة ريفية بسيطة، أجبرها والدها على العمل خادمة في مدينة القاهرة في سبيل تعليم إخوتها الذكور، رضا التي تتقلب في أدوارها كعاملة للمنزل وتتعرض للإذلال، وحين توشك على نوع من الاستقرار في وظيفتها في إحدى البيوت تناكفها فتاة في مثل سنها عند مخدوميها، الفتاة التي تكون نهايتها الموت حرقًا على يد الخادمة رضا التي اندفعت وراء جريمتها لاسترجاع كرامة مقهورة.

بينما شخصية حياة وهي أم وزوجة، تحمل في قاعها رؤية سوداوية للحياة، وهي نقيض اسمها تمامًا، تندفع وراء وساوسها التي تشكّل واقعها وتطغى عليها كليًّا، فهي تخشى على أطفالها من الاغتصاب، أو من التعرض للاختطاف على يد متاجري أعضاء بشرية، تخشى عليهم من المواد المسرطنة في الأطعمة المعلبة ترتعب عليهم حتى من ظلالهم، ونتيجة لتفاقم وساوسها لاسيما بعد تعرضها لتحرش جنسي تندفع نحو تسميم زوجها وأطفالها ونفسها أيضا، لتخلصهم من حياة كالجحيم، فيموت الجميع ما عداها.

في رواية الكاتبة ليلى سليماني تلتحم هاتان الشخصيتان المتدفقتان بالانفعال في شخصية عاملة المنزل «لويز» الفرنسية التي لم تكن الحياة تمضي معها على نحو جيّد، من حبيب دائم الغضب «جاك» الذي مات بطريقة بشعة إلى ابنة «ستيفاني» التي رحلت عنها في وقت مبكر، «لويز» التي اعتبرت أطفال الآخرين أطفالها، «لويز» التي وجدت في كنف عائلة «بول» و«مريم» برفقة طفليهما «ميلا» و«آدم» مستقرها وخلاصها من حياة بلا جدوى، ليزا التي أصبحت مربية وأكثر في بيت العائلة؛ فحاجة «مريم» كأم إلى مربية لرعاية طفليها تضاعفت بعد أن تفاقمت لديها عقدة كونها مجرد ربة بيت بعد دراستها المحاماة، وجدت أثناء رعاية طفليها أن طموحاتها وئدت لاسيما بعد أن صادفت صديقها أيام الجامعة كيف أصبح محاميًّا متمرسًا، بينما غدت هي مجرد ربة بيت، وحين عرض عليها هذا الصديق أن تعمل محامية في مكتبه، شعرت «مريم» أن الحياة بدأت تنصفها، عقدة الأمومة المزدوجة لدى كثير من النساء الطموحات تتمظهر بعد سنوات من الإنجاب وممارسة الأمومة؛ فيشعرن أنهن مجرد رضاعات لصغارهن، وقد خصت الروائية «ليلى سليماني» روايتها لمناقشة هذه الظاهرة المتفشية عند كثير من الأمهات، وكاشفت مقاصدها في حوار لها: «فقد أحببت أن أقول من خلال الرواية: إن كثيرا من الأمهات لسن فرحات بأنهن صرن أمهات، وفي الوقت الذي يسيطر عليهن هذا الشعور الطاغي بعدم الرضا على كونهن صرن أمهات، تجدينهن يعشقن أولادهن بقوة، ويقمن بجميع واجباتهن على أكمل وجه، لكنهن يفتقدن شيئًّا مهمًا في حياتهن وهو الحرية، الأمومة قيد شئنا أم أبينا، يضاف إلى العديد من القيود التي تفرضها علينا مجتمعاتنا المعاصرة، ولكن في بعض الأحيان يتمنى الكثير من الأمهات أن يقضين يومًا في بيوتهن دون وجود أطفال، يشتقن أحيانًا إلى التحرر من تبعات الأمومة، لكنهن لا يجرؤن على الإعلان عن هذا؛ لأن النظرة المجتمعية ستدينهن بقوة باعتبارهن أمهات سيئات».

لقد وقعت المأساة منذ الصفحات الأولى، فقد وصفت الكاتبة الجريمة في حق الطفلين على يد «لويز» غير أن حكايتها شابها نوع من الغموض، لقد وظفت هذا الغموض في سرد الرواية بمهارة، وجعلت القارئ يلاحق عوالم «لويز» والطفلين ووالدهما، «لويز» التي تغدو ككنز ثمين حصلت عليه العائلة، تتوثق علاقتها بهذا المحيط الأسري، وتصبح جزءًا من العائلة التي يمكن الاستغناء عنها، لقد قامت بكامل واجباتها كمربية، قامت بذلك بحب كبير دون تلكؤ، لقد كانت مربية مثالية بامتياز، غير أنها مع مرور الوقت شعرت أن مدتها في العائلة على وشك أن تنتهي، فالطفلة «ميلا» في المدرسة و«آدم» الذي كان رضيعًا صار في سن المدرسة أيضا، وبذلك لن تحتاج الأسرة لخدمات «لويز»، لويز التي تفاقمت عليها همومها النفسية والمادية، واستبد لديها شعور الوحدة، والحاجة، واليأس من كل شيء، لذا استبقت لديها أمنية وحيدة، أمنية لا تخصها بقدر ما تخص المرأة التي ترعى أطفالها «مريم» في أن تنجب طفلاً ثالثًا كي يكون الحاجة إليها ملحًا «هذا المولود الذي تشتهيه بعنف، وتهفو نفسها إليه بعماء إلى حد أنها مستعدة لأن تخنُق وتحرق وتُدمِّر كل ما قد يحول بينها وبين حلمها».

لقد سعت «لويز» لتهيئة «مريم» وجو البيت كي يأتي هذا الطفل الثالث، وليكون طوق نجاة مما يستبد بها من لوعات الوحدة، غير أن «مريم» كأنها قذفت بمخططها عرض الحائط وذلك حين سألتها طفلتها «ميلا» بتحريض من «لويز» إن كان ثمة طفل بداخلها غير أن مريم تضحك من مداعبة ابنتها ويخيّب جوابها المربية!

يبدو أن شعور الفقد لدى «لويز» تفاقم في نهاية الرواية، وجاء استشهاد الكاتبة في مقدمة صفحات روايتها بعبارة «دوستويفسكي» من روايته «الجريمة والعقاب» في محله تماما: «وتبادر إلى ذهنه فجأة السؤال الذي طرحه عليه مارميلادوف في الليلة السابقة «أتفهم يا سيدي؟ أتعرف معنى ألا يكون للمرء مكان يذهب إليه؟ لأنه يلزم كل شخص مكان يأوي إليه».

نعم، لقد فقدت «لويز» مأواها لا في بيتها فحسب بل في البيت الذي ملأها بالأمومة وأشعرها بحاجة الآخرين لها، البيت الذي اعتقدت لوهلة أنه بيتها الأبدي، وأن الطفلين ميلا وآدم لن يكبرا بل يظلان متلهفين لحكاياتها الملفقة ولمطارداتها في لعبة الغميضة، وحين أدركت مدى قسوة واقعها سحبت روحهما. لقد أنهت الساردة روايتها بسيناريو مفتوح الذي بدا كفاصلة طويلة الأنفاس، وحمّلت القارئ شحنات من الانفعالات المضطربة، ليست مقهورة أو متشفية بقدر ما هي مونولوج داخلي عميق عن حال عاملات المنزل، وحال الأمهات أيضا في هذا العالم المشوب بتحديات هائلة!