المنوعات

في التعصُّب المُعَوْلَم

06 أكتوبر 2017
06 أكتوبر 2017

رفيف رضا صيداوي -

في مقال سابق بعنوان «التعصّب والحضارة»، عرّفنا التعصُّب، على أنّه « التفاني المُطلق والحصريّ من أجل قضيّة تدفع إلى التعصُّب الدينيّ أو السياسيّ، وتقود إلى أفعال عنفيّة»، وبيّنا المُفارقة المتمثّلة في نموّ منسوب التعصُّب نموّاً عكسيّاً في موازاة الدعوات كلّها التي شهدتها وتشهدها الألفيّة الحاليّة من أجل مُناهَضة أشكال التعصُّب كافّة، فضلاً عن الدعوات إلى الحوار بوصفه إحدى الوسائل المهمّة لمُكافِحة هذه الآفّة البغيضة.

في هذه المقالة، نتابع ما انتهينا عنده، وهو أنّ التعصّب لا يزال آفة المجتمعات كلّها، وأنّه كبُنية ذهنيّة ونفسانيّة غير غائب عن المجتمعات المتحضّرة، على الرّغم من كلّ المظاهر السلميّة التي يتستّر بها. فماذا عن هذا التعصُّب المُعولَم؟

...وممّا قلناه أيضاً إنّ مجتمعاتنا المسمّاة «متخلّفة»، قد تكون أكثر قابليّة للتفجّر والتحوّل إلى حالات عنفيّة تُجسِّدها حركات وتيّارات وأحزاب تأخذ من الدّين حجّة لها لبثّ خطاب الحقد والكراهية تجاه الآخر، إلى أيّ لون أو عرق أو ثقافة أو دين انتمى؛ لكنّ ذلك لا يعني أنّ المجتمعات الموسومة بـ «المتقدّمة»، ونقصد البلدان الغربيّة عموماً، لا تختزن مقداراً لا يُستهان به من التعصّب الذي يختفي تحت أشكالٍ من التَورية الناعمة تارةً، والذكيّة تارةً أخرى، ولاسيّما مع الشوط الكبير الذي قطعته تلك المجتمعات منذ عصر الأنوار، في تبنّي قيَم وأفكار برّاقة، بدءاً من الحرّية والإخاء والمساواة، شعار الثورة الفرنسيّة التي غيّرت مجرى التاريخ في فرنسا وأوروبا والعالَم، مروراً بمفاهيم العدالة الاجتماعيّة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان وغيرها الكثير من القيَم التي لا يزال العالَم بأسره يدّعي أنّه من مناصريها؛ ذلك أنّ عالَمنا اليوم، تتعولَم فيه القيَم، بغثّها وسمينها، أكثر فأكثر، ولاسيّما أنّ اتّجاه هذا العالَم، وإن بات « ظاهِراً أو جليّاً في المجالات كافّة»، إلّا أنّه أيضاً، على حدّ تعبير مارسيل غوشيه Marcel Gauchet، عالَمٌ « مُذهل أو دراماتيكيّ في المجال الإيديولوجي والثقافي»(L›avènement de la démocratie IV. Le nouveau monde,2017.)

فإذا ما توقّفنا عند مسألة التمسّك القومي باللّغات مثلاً، فإنّنا نُلاحظ أنّ هذا التمسّك المشروع باللّغة القوميّة، والذي لطالما كان تعبيراً عن حالة وجوديّة وهويّاتية، لم يخفِ، في أيّ لحظة، ما ينطوي عليه من تعصّب معلَن تارةً ومُستَتر تارةً أخرى؛ تعصّب كان، ولمّا يزل، متوارياً خلف شعار «الحرص أو الحفاظ على اللّغة القوميّة» لاعتبارات مختلفة ومُبرَّرَة؛ لأنّ اللّغة أداة تعبير عن الفكر، ولأنّها بالتالي، وكما لا يخفى على أحد، ذات طابع إنسانيّ، وتكتسي أهمّيتها بوصفها مكوِّناً ثقافيّاً، ورأسمالاً رمزيّاً لحضارةٍ ما أو لثقافةٍ ما أو لقوميّةٍ ما أو لمجتمعٍ ما... ومن هنا تعريفها- أي اللّغة- بوصفها مكوّناً ثقافيّاً وحضاريّاً وهويّاتيّاً بامتياز.

ولمّا كانت هذه اللّغة كسائر الكائنات الحيّة، تنمو وتتطوّر وتتراجع وتنكمش وتموت أيضاً، فقد يتعرّض أحياناً الدّفاعُ عنها في بيئاتها الأصليّة إلى خطر التحوّل إلى عداء للّغات الأخرى ولثقافاتها أيضاً. هذه الظاهرة التي ليست بحديثة أو بناشِئة على الإطلاق، كما أسلفنا، تلمّسناها في أوروبا (ولاسيّما ألمانيا وفرنسا وإسبانيا...إلخ) بقدر ما تلمّسناها وما زلنا نتلمّسها مثلاً، في بلداننا العربيّة التي تدافع عن وجودها ضدّ القوى الاستعماريّة القديمة والجديدة، ما جعل من الدّفاع عن اللّغة أحياناً، مصنعاً للتعصّب؛ حيث تُستخدم حجّة الدفاع عن اللّغة استخداماً عصبيّاً أو تعصّبيّاً/‏‏‏ شَرِساً، سواء في البلدان المُستضعفة ذات التواريخ التي «خـرجت من حال القوّة إلى حال الفعل أو تفعَّلت في ثقافات لم تلبث أن تعرّضت للإخضاع، والتصنيف، ثمّ إلى التحيز وإلى وضعها في وضعيّةِ الدونيّة، وتظهـر اليوم وتتجلّى كتحدّيات تُواجِه الكونيّة الجامِعة الغربية»(برتران بادي، «ما هو عالَم اللّامساواة»، من كِتاب أوضاع العالَم 2017، صادر عن مؤسّسة الفكر العربي)، أم في البلدان /‏‏‏ القوى التي تَستخدم هذه الحجّة للحفاظ على مكتسباتها في خارطة القوى العالميّة في ظلّ العَولَمة الرّاهنة.

فها نحن نشهد «الإمبرياليّات» اللّغوية التي لطالما هيمَنت لغويّاً على البلدان الأضعف، وقد باتت اليوم تُظهر تعصّبها اللّغوي حيال «إمبرياليّات» تكاد توازيها في الوزن أو القوّة. فمن باب تهمة « إهانة اللّغة الفرنسية وانتهاك قانون 1994» الذي يهدف إلى حماية اللّغة الفرنسية، ناهضت جمعيّات عدّة ترشُّح باريس لاستضافة أولمبياد 2024، نظراً إلى استخدام البلاد شعار الأولمبياد بالإنجليزية، وهو «مايد فور شيرينغ» (أي صُنع من أجل المُشارَكة)؛ إذ إنّ الأمر بالنسبة إلى المُناهضين لهذا الحدث ينطوي على « إهانة للغّة الفرنسية».

الهويّات بين اندثار اللّغة و»سوق اللّغات»

هذا مع العلم أنّنا في الواقع، وكما يقول الإتنولوجي الفرنسي موريس هويسMaurice Houis « لا نوجد لغةً، لأنّ ذلك يتطلّب توافقاً جماعيّاً. ولا نقتل كذلك لغةً إلّا إذا تمّ قتل الذين يتكلّمون بها». والخوف، كلّ الخوف، يكمن حقيقةً من «سوق اللّغات». بمعنى أنّ هذا الدفّاع الشرس عن اللّغة الأمّ في البلدان المتقدّمة تُحرّكه دوافع اقتصادية ومالية هي التي تُحدِّد قيمة اللّغة في السوق العالمية أو على حدّ تعبير لويس- جان كالفيه Louis- Jean Calvetفي «سوق اللّغات»؛ فبرأيه « أنّنا بتنا إلى حدّ ما، في مُواجَهة قيمة اللّغات في السوق، أي في مُواجَهة سوق اللّغات، تماماً مثلما أنّ هناك سوقاً للتوابل، وللزهور أو للعصافير... ففي هذه السوق، ليس للّغات، شأنها في ذلك شأن العُملات، أيّ تكافؤ ثابت في الأسعار؛ إذ يُمكن أن يُبخَّس ثمنها، أو أن تُخفَض قيمتها، أو بالعكس، يُمكن أن تَكسب قيمة. هكذا، فإنّ للإنكليزية اليوم قيمةً أعلى من قيمة اللّغات الأخرى، وحين يختار الأهلُ تدريسها لأولادهم، فإنّهم بذلك يخضعون لقانون السوق» (Les Langues: quel avenir?,2017). وبحسب رأي كالفيه في المرجع نفسه أيضاً، أنّه « إذا كان اندثار اللّغات واقعةً أبديّةً لا علاقة لها بالعَولمة، يبقى أنّ العَولَمة، التي تُضاعِف التبادلات وتُسرّعها، هي التي تُحدِّد قيمة اللّغات أو تُرسِّخها، وتدفع إلى تملّك لغات أخرى، وتخلق بيئة مُلائمة لهذه الاندثارات».

في طُغيان الرُهاب

في المقلب الآخر، وفي إطار ردود الفعل الهويّاتيّة التي تعكس تصاعد الإيديولوجيّات العنصريّة التعصّبيّة أكثر ممّا تعكس خوفاً على الهويّة، بدأت تظهر بعض التدابير لحماية المأكولات أو الأطعمة الوطنيّة من «الغزو الثقافي»... ففي تقرير لتوف دانوفيش Tove Danovich، منشور في كورييه أنترناسيونال (العدد 1395 في 27 /‏‏‏6 - 16 /‏‏‏ 7 /‏‏‏ 2017)، ورد أنّه «منذ عام 2009، بدأ بعض البلديّات في إيطاليا بمنع افتتاح مطاعم «غريبة» أو «إتنيّة»، وليست إيطاليا البلد الوحيد الذي يمنع المطبخ ذا النكهات الغريبة. ففي العام 2011، أبعدت فرنسا «الكاتش أب» من المطاعم المدرسيّة. وفي الدنمرك، أثار تقديمُ شرائح اللّحم الحلال في المستشفيات والمدارس غضبَ البعض: حزب الشعب الدنمركي (المُناهِض للمُهاجرين) قضى بأنّ هذه المُمارسات هي [مُمارسات تمييزية] تجاه الثقافة الدنمركية». وبحسب المصدر نفسه، فإنّ رئيس بلدية فورتي دي مارمي الإيطالية، أمبرتو بوراتّي Umberto Buratti، برّر ذلك بحجّة أنّ هذا المنع لا علاقة له برُهاب الأجانب، بل بـ»حماية ثقافتنا ومنْحها قيمة. ونحن نقول لا أيضاً لسلاسل الهمبرغر الأمريكيّة».

ولئن كان الطعام، شأنه في ذلك شأن عناصر ثقافية أخرى، ليس حكراً على بلدٍ واحد، بما أنّ بعض المظاهر والعادات الثقافيّة هي في الواقع نِتاج التداخل التاريخي للحضارات وثقافاتها(وليس أدلّ على ذلك من كلام توف دانوفيش، المختصّة في موضوع الغذاء وثقافة الغذاء، التي تؤكّد في مقالتها المذكورة أنّ «الإسباجيتّي» الإيطاليّة مثلاً هي ذات أصول عربيّة)، فإنّ ضرب الحصار على هذا النوع أو ذاك من أنواع الطعام بحجّة «الحماية الثقافيّة» لهو خير دليل على «عَولَمةَ « التعصّب في زمنٍ عَولَميّ اجتاح العالَم بشعارات «القرية الكَونيّة»، و»السلام الشامل»، و»نبذ العنف»... وإلى ما هنالك من شعارات يجري الترويج لها بوصفها شعارات العالَم الجديد الخالي من الصراعات تارةً، أو بوصفها شعاراتٍ تتفوَّق في مضامينها وأبعادها على شعارات عصر «التنوير» وما تبعه تارةً أخرى.

 

*بالتعاون مع مؤسّسة الفكر العربي