1120420
1120420
المنوعات

التعصُّب والحضارة

28 سبتمبر 2017
28 سبتمبر 2017

د. رفيف رضا صيداوي -

ترتفع في مطلع الألفيّة الحاليّة مناسيب التعصُّب، وذلك في الوقت الذي كانت فيه هذه الألفيّة قد شهدت فورة «توعويّة» إذا ما جاز التعبير، مُناهِضة لأشكال التعصُّب كافّة، وداعية للحوار لكونه من أنجع الوسائل المُكافِحة لهذه الآفّة البغيضة. فجاء قرار الجمعيّة العامّة للأُمم المتّحدة بشأن «إعلان سنة 2010 سنة دوليّة للتّقارب بين الثقافات» بعد سلسلة قرارات سعت إلى تعزيز الحوار بين الحضارات الذي بدأ منذ عام2001، وبعد إصدار الجمعيّة العامّة قراراتها بشأن تعزيز التفاهم والانسجام والتعاون الدينيّ والثقافيّ في19/‏‏12/‏‏ 2003، وبشأن تشجيع الحوار بين الأديان في 11/‏‏11/‏‏2004، وبشأن القضاء على جميع أشكال التعصُّب والتمييز القائمَين على أساس الدّين أو المعتقد في19/‏‏12/‏‏2006، وبشأن تشجيع الحوار والتفاهم والتعاون بين الأديان والثقافات من أجل السلام في 20/‏‏12/‏‏2006...

غير أنّ المُفارقة تتمثّل في أنّ منسوب التعصُّب المُشار إليه راح ينمو عكسيّاً في موازاة هذه الدعوات كلّها من جهة، وفي موازاة التطوّر الحضاري والمديني الذي راح يُنبئ بقيام حضارة عالميّة واحدة، لعلّ من أبرز سماتها «الفكر العِلمي» الموازي للانفجار المعرفيّ والعلميّ والتكنولوجيّ من جهة ثانية. ففي تعريف التعصُّب، يقول ابن منظور، صاحب معجم « لسان العرب» إنّ « التعصُّب: من العصبيَّة. والعصبيّة: أن يَدْعُوَ الرجل إلى نُصْرَةِ عَصَبَتِه والتأَلّبِ معهم على مَن يُناوِئهم ظالمين كانوا أو مظلومين. وقد تَعصَّبوا عليهم إذا تجمّعوا فإذا تجمّعوا على فريق آخر، قيل: تَعصَّبوا»...

وقد حدَّد معجم «لاروس»Larousse الفرنسيّ التعصُّب، على أنّه « التفاني المُطلق والحصريّ من أجل قضيّة تدفع إلى التعصُّب الدينيّ أو السياسيّ، وتقود إلى أفعال عنفيّة»؛ فيما حدّد المركز الوطني للموارِد النصّية والمعجميّة (CNRS) الكلمة على أنّها تعبير عن « سلوك، أو حالة ذهنيّة لشخص أو لمجموعة أشخاص يبدون تعلّقاً شغوفاً وحماسةً مبالغاً فيها من أجل عقيدة أو قضيّة، وبما يقود إلى التعصُّب، وفي الغالب إلى العنف».

ولعلّ أبرز السمات الأساسيّة الثلاث لذهنيّة المتعصِّب هي أنّها أولاً ذهنيّة إلغائيّة. بمعنى أنّها ذهنيّة كلّ مَن لا يعترف بالآخر، ويَحتكر السلطة والمعرفة، لكونه هو وحده صاحب الحقّ والحقيقة؛ بحيث تفضي هذه الذهنيّة إلى إيلاء الذّات (سواء أكانت فرداً أم جماعةً أم دولة) حقّ تكفير الآخر وتخوينه، سواء أكانت المنطلقات دينيّة أم غير دينيّة. ومن هنا منبع مصادرتها الحقّ في الاختلاف؛ وأنّها ثانياً مُعادية للآخر، و« لكلّ جديد يأتي من الخارج، مؤمنة أنّ الخارج مصدرٌ للشرّ، وأنّ الآخر المختلف متّهم في كلّ الأحوال، وذلك في عدائها الحادّ الذي لا يعرف التسامح مع الأفكار المُناقضة»(جابر عصفور، تحرير العقل)؛ وأنّها ثالثاً ذهنيّة عنفيّة؛ ذلك أنّ تعصّبها يجعلها إلغائيّة، بحيث لا مكان معها للحوار؛ وبالتالي، يغدو مقدار العنف الذي تستبطنه سمة طبيعيّة، إذ إنّ هذه الذهنيّة قادرة كذلك على إيجاد منفذ للالتفاف على أيّ رأي آخر، وعلى تحوير مرتكزاته السلميّة، من أجل تبرير العنف. من ذلك مثلاً تيّارات الإسلام السياسي، كتيّارات متشدّدة، تُبرِّر الجهاد وتمنحه طابعاً مقدّساً، على الرّغم من كلّ المضمون السلمي للخطاب القرآني، مثل «جادلهم بالتي هي أحسن»، و«لوْ شاءَ ربّكَ لآمَنَ مَن في الأرضِ كلّهم جميعاً»...).

لكنْ، ولئن تصدّر التعصُّب الديني اليوم الواجهة فهل يعني ذلك أنّ الدّين هو الذي يقود إلى التعصُّب؟ ربّما يصحّ هذا الكلام في فترات سابقة على حضارة القرن العشرين وما بعده، أي زمننا الحاليّ، ولنا في هذا السياق مقاربة ابن خلدون للدلائل كافّة ذات الصلة بقانون العصبيّة وقوّتها في الأطوار الأولى من الدولة والتحامها بالدعوة الدينيّة والتعصُّب للنسب، وبقانون البداوة، حيث إنّ وجود البدو في النظريّة الخلدونيّة- وكما يشرح في الباب الثاني من الكتاب الأوّل من المقدّمة- «متقدّم على وجود المُدن والأمصار وأصلٌ لها، بما أنّ وجود المُدن والأمصار من عوائدِ الترفِ والدَعَةِ التي هي متأخّرة عن عوائد الضرورة المعاشيّة». في حين أنّنا على مستوى العالَم المتحضّر عايشنا أنواعاً أربعة من التعصُّب حدّدها جيرار حدّاد في كتابه « في يمين المولى» (الصادر مؤخّراً عن دار الجديد، والذي قام بتعريبه رشا الأمير وسعيد الجنّ)، وهي التعصُّب القومي، التعصُّب العنصري، التعصُّب القائم على الأيديولوجيا التوتاليتاريّة، التعصُّب الديني، لكن مع ضرورة الإشارة إلى أنّ هذه الأنواع الأربعة، وربّما غيرها، تقوم على مشاعر نبيلة، سواء أكانت هذه المشاعر تحمل تعاطفاً أو تأييداً لقوميّة معيّنة أم عرق معيّن، أم لإيديولوجيّة معيّنة، أم لدينٍ معيّن. لكنّ هذه المشاعر حين تصبح تعصُّباً تغدو كما يقول حدّاد علّة اجتماعية.

ومن شواهد التاريخ على ذلك، ولاسيّما في تاريخنا العربيّ، هو قيام مفهوم «أصالة الأمّة» بالمعنى القومي، على تجنيد «جملة من المفاهيم التاريخية والاجتماعية والسياسية غير المتوافرة في التراثَين العربي والإسلامي» ( عزيز العظمة، الأصالة أو سياسة الهروب من الواقع، 1992)، وقيامها بحسب العظمة أيضاً على «مفهومٍ للحركة التاريخية داخل ميتافيزياءٍ للهويّة والتطابق عرفها الفكر الألماني( بدأ بهردر وهيغل)، أصبحت أساساً لكلّ فكر قومي ذي طابع فاشي».

هكذا ينقلب الشعور النبيل إلى تعصّب وعصبيّة، وبدل أن تصيب آفته الأفراد فحسب، فإنّه قد يُطاول جماعة بكاملها: « أن يخرج من صفوف جماعة ما، فردٌ ما متعصّب، أو عنصريّ ينادي بالموت لجماعة أخرى شيء» على حدّ تعبير حدّاد، «وأن تُصاب جماعة ما، بقضّها وقضيضها، بالتعصُّب، أو بالعنصريّة، شيء آخر».

أخيراً، لئن أقرّينا بأنّ للتعصّب أسبابه الموضوعيّة الكامنة في بنية المجتمعات المتخلّفة، وبأنّ العنف المصاحب له «هو لحظة انفجار الحقيقة الكامنة في بُنية التخلّف، والأشكال الدمويّة والكاسحة التي يأخذها تؤكّد هذه الحقيقة» (مصطفى حجازي، التخلّف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجيّة الإنسان المقهور)، فإنّ عدم رؤية التعصّب اليوم من قِبل الغرب إلّا في الإسلام لهو دليل على نزوع هذا الغرب «إلى الكونيّة»، وعلى أنّه بات «عُرضة لأن يُتَرجِم عن نفسه تعصّباً، ومُغفلِاً عن التململ الذي تنشرُهُ بين الشعوب رغبته في الهيمنة». إنّه «تعصّب» شرحه المفكّر والباحث الفرنسي إيف شـــميِّل Yves Shemeil على طريقته قائلاً: « لا شيء سـيكون أكثر ضلالة من الاعتقاد بأنّ روابط الدمّ وما شاكلها من علاقات قـد باتت أموراً بالية.

الدّولة الحـديثة لم تقضِ لا على الجماعات الطبيعيّة ولا على الأُسَــر والسلالات السياسيّة. والتجمّعات الطوعيّة أو الجمعيات «التطوعيّة» المكوَّنة من أفراد يشـتركون في هدف واحـد، لم تحلّ محلّ الأُسـر والعائلات والسلالات، ولا محلّ العشـائر والقبائل. والحقّ أنّ كبـار مفكّري الحـداثة من أمثال ماكس فيـبرMax Weber أو بيري أندرســونPerry Anderson أبـدوا إفراطاً في التفاؤل، حين جعلوا البيروقراطيّة العقلانيّة والمركزيّة، أو المُتمركِزة، تظفر بالإقطاعيّات المحلّية وتنتصر عليها. وبدلاً من الصلات والروابط الأفقيّة التي كانا يريانها تظفر وتنتصر، فإنّ العلاقات العمودية لا تزال قائمة في العالَم الحالي، حيث لا تزال تتغلّب على الحواجز والفواصل والتقسيمات التي تفترضها نظرية التطوّر وتطرحها لدى تطبيقها على المجتمع والإدارة والدّولة»(من كتاب أوضاع العالَم 2017، صادر عن مؤسّسة الفكر العربي).

لا بل إنّ الأصوليّات الدينيّة هي التي نشطت في الغرب كما في الشرق لتؤكّد «مقولة صدام الحضارات» السياسيّة المنبت والمآل، والتي من مظاهرها أنّه بارتباط الحريّة بالديمقراطيّة الليبراليّة بحسب فهمي جدعان، في كتابه المقدَّس والحرّية، « أذنت لنفسها بأن تتدخّل في كلّ الأمكنة وفي كلّ الفضاءات. وبلغت في تطاولها على المقدَّس وعلى كلّ السلطات الأخرى، شأواً بعيداً» كما «غذّت قوى الكراهيّة والنفاق الغربي وأجهزتها الإعلاميّة صورة طارِدة لدين الإسلام وعرضته في صورة الدِّين المضادّ للحضارة والإنسانيّة».

على هذا، كان التعصّب ولا يزال آفة المجتمعات كلّها، وقد يكون، في مجتمعاتنا المسمّاة «متخلّفة»، أكثر قابليّة على التفجّر والتحوّل إلى حالات عنفيّة تُجسِّدها حركات وتيّارات وأحزاب تأخذ من الدّين حجّة لها لبثّ خطاب الحقد والكراهية للآخر، إلى أيّ لون أو عرق أو ثقافة أو دين انتمى؛ إلّا أنّ هذا التعصّب كبُنية ذهنيّة ونفسانيّة غير غائب عن المجتمعات المتحضّرة، على الرّغم من كلّ مظاهر السلم التي يتستّر بها.

*مؤسّسة الفكر العربي