أفكار وآراء

أطماع القوى الدولية الفاعلة .. تعطل التسوية في ليبيا

16 سبتمبر 2017
16 سبتمبر 2017

طارق الحريري -

,, هكذا أصبح على أوروبا أن تدفع فاتورة انتهازيتها في التعامل مع الأزمة الليبية منذ بدايتها حينما تركت الشعب الليبيي وقتها يكابد مصيره بعد التخلص من القذافي ,,

تمثل الأزمة الليبية الحالة الأكثر تعقيدا من بين ما يعرف بدول الربيع العربي، وإذا كانت التدخلات والمصالح الإقليمية قد لعبت دورا يختلف من حالة لأخرى في بلدان هذا الربيع، إلا أن ما يجري في ليبيا الآن هو نتاج للتدخل الدولي وما لحق به من تداعيات أشعلت مسار النزاع الداخلي بين الأطراف المتضاربة منذ بداية الاضطراب الذي أدى إلى سقوط النظام السابق ثم - وهذا هو الأخطر - سقوط الدولة وتفشى الفوضى في البنية السياسية، ويشي مسار الأزمة الذي تسببت فيه دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية تحديدا بصعوبة الحل في المدى القريب ورغم أن الدول الأوروبية تسعى للبحث عن مخرج إلا أنها في واقع الأمر غير معنية بمصير الشعب الليبي الذي تتزايد معاناته يوما بعد آخر.

كان القضاء على العقيد القذافي غاية في حد ذاته لما كان يسببه كنظام مارق ومشاغب من إزعاج للغرب بصفة عامة وخطر على بعض القادة السياسيين الذين حصلوا منه بصفة خاصة على مساعدات مالية شخصية، لهذا اهتم التحالف الدولي الذي شكلت القوة الضاربة فيه الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا لاحقا اهتماما أساسيا بالتخلص من هذا الحاكم، وهذا الموقف كان في غاية الانتهازية، فالنظام الذي سقط لم يكن يملك مؤسسات بمفهوم الدولة القومية الحديثة والقذافي رغم التكديس المبالغ فيه للأسلحة كان واقعيا قد ألغى الجيش، فغابت القوة الحاكمة والمسيطرة للحفاظ على الدولة على عكس ما حدث - على سبيل المثال - في مصر، وهكذا ترك الغرب ليبيا بعد سقوط القذافي في مهب الريح تعصف بها المخاطر والانقسامات والتدخلات الإقليمية الخبيثة من خارج دول الطوق، مما أسفر عن فوضى سياسية وانفلات أمني.

ومن الواضح أن الولايات المتحدة غير معنية بدرجة كبيرة بالملف الليبي طبقا لسياستها في الشرق الأوسط التي بنيت على تأمين تدفق النفط من منطقة الخليج وحماية أمن إسرائيل والأزمة الليبية في تفاعلاتها لا تشكل أي خطر على استراتيجية واشنطن في المنطقة بينما أفرزت الأزمة مشكلات جمة لأوروبا تمثلت في أن شواطئ ليبيا التي يبلغ طول شريطها الساحلي ما يقل قليلا عن 2000 كيلومتر صارت نتيجة الخلل الأمني وغياب السلطة المركزية على كامل تراب البلاد البوابة الكبرى للهجرة غير الشرعية من دول إفريقيا والشرق الأوسط لأوروبا يضاف إلى هذا أن عناصر الإرهاب التي تسللت إلى ليبيا كانت تحت سمع وبصر أوروبا في إطار التحالف مع جماعات من الإسلام السياسي في الداخل حيث تصورت قوى من الغرب أن مساعدتها أو إظهار التغاضي عنها يمكن أن يحقق مكاسب وتحديدا في صفقات بيع النفط الخاضعة لبعض الميليشيات لكن الطبيعة الإرهابية الكامنة في تنظيمات الإسلام السياسي أسفرت عن تهديد بغزو روما التي أصبح تنظيم الدولة الإسلامية - داعش - على مقربة منها في الجنوب وفيما بعد عندما بدأت عمليات الذئاب المنفردة الإرهابية في أكثر من دولة أوروبية وكانت هناك عناصر منفذه أو متداخلة منها ليبية.

هكذا أصبح على أوروبا أن تدفع فاتورة انتهازيتها فى التعامل مع الأزمة الليبية منذ بدايتها حينما تركت الشعب الليبي وقتها يكابد مصيره بعد التخلص من القذافي . وإذا كان الليبيون هم من دفع الثمن الأصعب إلا أنه غاب عن الأوروبيين أن موقفهم المتخاذل في حق الشعب الليبي سوف يسفر عن مشكلات عنيفة لبلدانهم في شمال البحر الأبيض المتوسط وبمرور الوقت اكتشفت أوروبا أن عليها أن تبحث عن حل للأزمة التي انتقلت تداعياتها إلى عقر دارها .

وإذا كانت كل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا قد قامت بالدور الأساسي مع الولايات المتحدة إلا أن بريطانيا اتصفت من بين الدول الثلاث بأنها حافظت طوال فترة أوباما الذي كان يدعم الإخوان المسلمين في بلدان الربيع العربي بتماهيها مع الموقف الأمريكي الذي ساعد على إعداد اتفاق الصخيرات لصالح التنظيمات الإسلامية ، التي فشلت فشلا ذريعا في الانتخابات البرلمانية التي اتسمت بالنزاهة تحت رقابة دولية ، لكن بريطانيا اكتشفت أخيرا أنها راهنت على جواد الإسلام السياسي الخاسر وبدلت نسبيا موقفها ومع هذا فإن لندن في إطار ترتيباتها للخروج من الاتحاد الأوروبي وما يترتب على هذا من مشكلات ولأنها ليست على تماس متوسطي مع ليبيا لذا تراجع الملف الليبي في أولويات سياستها الخارجية.

أما فيما يخص فرنسا وإيطاليا فلكل منهما مصالحا وهما الأكثر اهتماما وتدخلا من بين كل الأطراف الدولية فى ملف الأزمة الآن ، وقد أوصلتهما طبيعة المصالح في ليبيا إلى تنافس عميق في هذا الملف يصل إلى حد الصراع السياسي المكتوم الذي فرضته معطيات الواقع والتاريخ الذي يتمثل لدى إيطاليا فى أنها تاريخيا استعمرت ليبيا وكانت هناك وشائج بين البلدين في كل العهود وجغرافيا فإن المسافة الفاصلة بين جنوب إيطاليا وشمال ليبيا تبلغ نحو 300 كيلومتر ، مما يجعل من ليبيا بلدا ذا أهمية كمجال حيوي فى دوائر أمن إيطاليا القومي القريبة ، وروما هي المستورد الأكبر للنفط الليبي حال اكتمال طاقة الانتاج كما تستورد من طرابلس جزءا من احتياجات الغاز الطبيعي والعلاقات التجارية خارج مصادر الطاقة بين البلدين ذات مردود في الميزان التجاري لصالح إيطاليا، فليبيا مستورد هام للسلع الإيطالية على تنوعها.

على الطرف الآخر تأتي فرنسا التي نجحت في تحقيق مكسب دبلوماسي بجمع كل من فايز السراج رئيس حكومة الوفاق والمشير خليفة حفتر قائد الجيش الليبي في شرق البلاد اواخر شهر يوليو الماضي ، وهو الاجتماع الذي يجري للمرة الأولى التي تسفر عن إصدار بيان رسمي عرف ببيان النقاط العشر لأن اجتماعهما الوحيد السابق في أبو ظبي لم ينته بأي بيان معلن وتسعى فرنسا في قضم جزء من كعكة الغاز الليبي حيث تعمل شركة «توتال»على الفوز بحصة من المخزون الموجود في حقل «نالوت» الذي تطمح إيطاليا في الحصول عليه كاملا لذلك اتسم الموقف الإيطالي بعصبية عقب اجتماع فرنسا ومن المعروف أن شركة توتال كانت قد فازت بعقد لاستثمار الغاز في حوض نالوت عام 2010 إلا أن ليبيا في مرحلة لاحقة فسخت هذا التعاقد بعد جدل قانوني.

هكذا يبدو واضحا للعيان تداعيات الصراع على النفط والغاز الليبي بين فرنسا وإيطاليا حيث لا يشكل البحث عن حل للفوضى التي تعم المشهد السياسي الليبي أولوية حقيقية ومسعى مخلص بحثا عن حل سياسي ويكشف أطماع الطرفين أن إيطاليا أسست غرفة عمليات أمنية في طرابلس يتكون قوامها من جنود القوات الخاصة لحماية خبراء من المخابرات ووزارتي الدفاع والأمن العام وفي المقابل فإن فرنسا اضطرت للإعلان عن وجود عسكري لها في بنغازي بعد الجهر بمقتل 3 ضباط صف من قواتها ومع هذا فإن أيا من الدولتين وباقي دول أوروبا والولايات المتحدة غير مستعدة للزج بأي قوات تساعد تحت غطاء أممي أو دولي وإقليمي متفق عليه على تأمين فرصة حقيقية للحل السياسي.

من المؤسف أن أطماع الدول الفاعلة في الملف الليبي أو تجاهل بعضها يترك علامة استفهام كبيرة حول وجود إمكانية واقعية وحقيقية لدور دولي نشط و موضوعي يمكن أن يفتح بابا في نفق الأزمة يطل منه بعض الضوء والأمل.