المنوعات

الرقابة بالفأس

10 سبتمبر 2017
10 سبتمبر 2017

عادل محمود -

نشرت مجموعة قصص واحدة عام 1979 بعنوان «القبائل» عن دار ابن رشد في بيروت.

وهي المجموعة الوحيدة بين كتبي الخمسة عشر.

ولم أكتب بعدها أبداً في القصة.

في إحدى القصص «اختفاء حميد الديب» يذهب هذا الرجل ولا يعود.

ويسأل أهله وأصدقاؤه عنه فلا يعثرون له على أثر.

يتولى صحفي فضولي البحث فيكتشف شخصية ملئت أيامها بتجارب كبيرة ومحبطة، ويعلم أن حميد الديب اسم على مسمى آخر...

فيكتشف الصحفي شخصية أخرى من جيل آخر ـ جيل حرب فلسطين.

فيحصل الصحفي على شهادة مختلفة كلما توغل في البحث.

في شهادة أحد زملاء حميد الديب القديم، (وليس الذي نبحث عنه) ما يلي: «...

إن كنت تبحث عن حميدة فقد التقيت بمن يعرفه حقاً.

فقد رأيته كثيراً، وعشت معه طويلاً.

أعرفه من أيام الرعاة وحتى آخر يوم صرخ فيه قتيلاً». ثم يستطرد الراوي في الحديث عن اليهود والظروف المحلية الظالمة في البلاد...

وعن الكفاءة البدنية والنفسية للشخصية.

ورغم إدراك الصحفي أن حميداً هذا هو شخص آخر...

يتابع الشهادة:

«...المهم حميد لم يتأخر عن النداء الذي وجهته البلاد المنكوبة إلى الناس.(يقصد فلسطين 1948)

فذهب، فيمن ذهب، إلى حرب فلسطين.

كنا معاً في الفوج العلوي بقيادة غسان جديد.

فقد رحلنا إلى هناك أفواجاً أفواجاً: الفوج الحموي، والشركسي، والأدلبي (تشكيلة جيش الإنقاذ السوري بقيادة فوزي القاوقجي).

«...

يا بنيَّ العربُ خائنون وعرب ذاك الزمان لا يفهمون أيضاً، أنا أيضاً لا أفهم كيف تعترف أمريكا بدولة إسرائيل بعد اثنتي عشرة دقيقة فقط من إعلان بن غوريون قيام الدولة، ثم يقول الملوك العرب:

نحن لا نريد الخلط بين السياسة والنفط.

وسنحافظ على تعهدنا بحماية التابلاين والأمريكان والامتيازات التي منحناهم إياها...

لن نضحّي بذلك من أجل «قرية» اسمها فلسطين!! حميد كان يقول لي ونحن في وعر «صفد» سنموت بطريقة رخيصة.

المكتوب مُعنْوَن سلفاً.

وهذه الجيوش والأسلحة وخطط الحرب لا تساوي شيئاً!! ومات حميد في معركة «دجانيا» وهو بلا قبر.

وأقول دائماً: يا حميد، الأفضل أنك لم تعد بيننا اليوم...».قُدِّمت المجموعة القصصية إلى وزارة الإعلام للرقابة.

وبعد أكثر من شهر كتب «الوزير» على حاشية الرقيب بقلمه الأخضر «تمنع من التداول والدخول إلى سوريا لأنها تثير «النعرات» الطائفية، وتشكك بحرب تشرين التحريرية»!! (هناك في المجموعة قصة أخرى عن الحروب العربية استدعت ذكر حرب تشرين).وعندما رأى الحاشيةَ معاونُ الوزير قال له: سيادة الوزير، هل تريد أن تمنع الكتاب، أم تُعدم الكاتب؟!

هذه تجربة بسيطة رغم خطورتها.

فماذا نقول عن تدخل الأزهر بالأغاني.«قدر أحمق الخطى» في أغنية عبد الحليم حافظ صارت «قدر أحكم الخطى».وآلاف القصص التي لا تكاد تُصدّق.

الرقابة ومنسوب الرقابة لهما علاقة بفكرة الدولة عن المواطن.

إنه أحد رعاياها.

ونسبة القرابة صفر.

لأنه لا يختارها ولا تمثله.

من هنا.

تأتي الرقابة كتفصيل في سياق الحرية والتي لم يذقها عربي حتى هذه اللحظة من المحيط إلى الخليج إلا في «التعريف الإنشائي والحقوقي» أي الكتابة...

وهي الممنوعة والمراقبة.

إن الرقابة سلطة على الكلام.

وهي تحمل الأقلام الحمراء والبلطة أيضاً.

لا داعي للقول إن الحرية تحت طائلة المسؤولية القانونية أصبحت من البديهيات في الدول والمجتمعات.

وزادت ثورة المعلومات، وبيئات الاتصال الحر من ورطة الرقابة المتخلفة والرقيب المتعصب.

ومع ذلك أعتقد أن زمناً طويلاً سوف يمضي قبل أن يزول الرقيب.

ولكنه سيزول، تماماً لوجود الشبه بينه وبين «العذول» و «الواشي» في أزمنة الحب العذري، البدوية القديمة.

سيزول...

لأن الحروب غطت بغبارها ودمارها رفوف المكتبات، وأنقصت من قيمة الوظائف، التي لم تكن ذات قيمة أصلاً...

كالرقابة على الكتابة.