المنوعات

مـن قتـل رولان بارت؟

10 سبتمبر 2017
10 سبتمبر 2017

إعداد: أحمد شافعي -

في الخامس والعشرين من فبراير سنة 1980، اصطدم الناقد الأدبي الفرنسي الشهير رولان بارت بشاحنة تابعة لمغسلة أثناء عبوره شارعا في باريس، فمات لاحقا متأثرا بإصاباته. في أغسطس من العام نفسه فجَّر إرهابيون إيطاليون محطة القطارات في بولونيا مما أسفر عن مصرع خمسة وثمانين شخصا. بعد شهرين، خنق الفيلسوف الفرنسي الماركسي لوي ألتوسير زوجته عالمة الاجتماع هيلين، في ما يفترض أنه نوبة جنون أصابته. في مايو التالي، فاز مرشح الحزب الاشتراكي فرانسوا ميتران على فاليري جيسكار دي استان للانتخاب رئيسا لفرنسا.

هذه جميعا ـ من وجهة نظر التاريخ ـ أحداث منفصلة. لكن هل من الممكن الربط بينها؟ ماذا لو أن بارت ـ وهو صاحب السلطة على السميولوجيا (أي دراسة العلامات والرموز) كان قد اكتشف سرًّا لغويا هائل القوة، يقتل من أجله الناس؟ لقد اشتهر عن اللغوي البنيوي الرائد رومان جاكوبسن أنه شرح ست وظائف للغة، لكنه ألمح إلى وجود محتمل لوظيفة سابعة، وظيفة تكتسب من خلالها الكلمات قوة إقناع التعاويذ أو الرقى السحرية. فلو علم أحد تلك الوظيفة السابعة لأمكنه إقناع الناس بأي شيء على الإطلاق. ويصير بوسعه افتراضا أن يحكم العالم.

شأن مؤامرة أومبرتو إكو الكلاسيكية «بندول فوكو» أو «ثلاثية البردي» لزوران زيفكوفيتش، كتب لوران بينيه ـ أستاذ الأدب الفرنسي في باريس ـ قصة إثارة ثقافية سوف تلقى جاذبية كبيرة لدى القراء الجادين. في حين تحتوي قتلة بلغاريين، ومقاتلي نينجا يابانيين، وعميلة روسية جميلة، وساسة فرنسيين، والعديد من ممارسي البغاء الذكور، تبقى شخصياتها الرئيسية فلاسفة ومنظرين ثقافيين أوربيين مرموقين من بينهم إكو وميشيل فوكو وجاك ديريدا وجوليا كرستيفا وفيليب سولرز.

غداة «حادثة» بارت، يتلقى جاك بيار ـ وهو أحد ضباط جهاز الخدمة السرية الفرنسي ـ أمرا بالبحث في القضية. لماذا؟ السبب الأساسي أن بارت قبل تعرضه للحادثة كان قد حضر غداء هادئا مع ميتران (وهذا صحيح). وثانيا، لأن مفاتيح الضحية ومحفظته وأوراقه ضاعت بطريقة أو بأخرى (وهذا أيضا صحيح). حينما يسأل بيار إن كان لدى الناقد أعداء، ينفجر فوكو:

«طبعا! ... لم يكن لديه إلا أعداء: الرجعيون، والطبقة الوسطى، والفاشيون، والستالينيون، وفوق هؤلاء جميعا، النقاد القدامى المتعفنون الذين لم يغفروا له قط!».

«لم يغفروا له ماذا؟»

«أنه جرؤ على التفكير، أنه جرؤ على التشكيك في أفكارهم البرجوازية البالية، وإبراز وضاعة وظائفهم المعيارية، وفضحه حقيقتهم: مجرد بغايا ملوثون بالحماقة والمبادئ المغدورة».

شاعرا أنه في غير أرضه، يستأجر بيار أكاديميا شابا اسمه سيمون هيرتسوج لا يفهم فقط كلمات مثل «معيارية»، بل هو أيضا قادر على توظيف السميولوجيا لاستخلاص نتائج أشبه بنتائج شيرلوك هولمز. ويقلبان معا شقة بارت رأسا على عقب، ويبحثان في حمام بخار مزدحم عن بغي مذكر معين، ويدرسان جنازة الناقد العظيم المزدحمة ـ لكنهما لا يلاحظان في ثنايا ذلك أن سيارة سوداء تتعقبهما أينما يذهبان، أو العمال ومسؤولي الشرطة ذوي الأصابع المقطوعة. قبل أن ينقضي وقت طويل، وشأن كثير من ألغاز العصر الذهبي، يبدأ موت شخصيات عديدة وهي تردد في همهمة كلمات سحرية مثل «صوفيا» و»إيكو/‏‏صدى»، فلا يعني أي منها ما يبدو أنه يعنيه.

وأخيرا، ومن خلال خيط يمدهما به المنظر الأدبي تزفيتان تودوروف، يبدأ المحققان رحلة إلى بولونيا، مدينة إكو، وكان في ذلك الوقت مجرد أستاذ للسيميولوجيا (وإن كان في ذلك الحين يفكر في اسم الوردة). وهناك يعرفان المزيد عن منظمة خفية عمرها قرون، هي نسخة ثقافية من «نادي القتال»، يتناقش فيها أشخاص ينتمون إلى شتى مناحي الحياة في مسائل فلسفية. ويحظى الفائزون بمكانة هائلة، ولكن تكلفة الخسارة مرتفعة.

ويمضي بيار وهيرتسوج في بحثهما عن هوية قاتل بارت واكتشاف الوظيفة السابعة للغة إلى مؤتمر دولي في جامعة كورنيل. وفضلا عن جميع الأعلام الفرنسيين الذين نقابلهم في الرواية حتى ذلك الحين، يتضمن حضور المؤتمر نعوم تشومسكي، وبول دي مان، وجاياتري سبيفاك، وجون سيرلي، وكاميلا باجليا. ولما كنت أنا قد درست في مدرسة كورنيل للدراسات العليا في ذلك الوقت تقريبا، فبوسعي أن أشهد بدقة الأوصاف التي يقدمها بينيه للجامعة وإيثاكا بنيويورك. بل إن أحد مشرفي أطروحتي، وهو جيفري ميلمان يظهر في الرواية ظهورا سريعا، مثلما يظهر أيضا موريس زاب بطل رواية «عالم صغير» الكوميدية التي تدور أحداثها في الوسط الأكاديمي.

قبل أن يمضي وقت طويل، تنتهي واقعة كورينل هذه إلى جدل محتدم بين سيرلي وديريدا (قائم على واقعة حقيقية)، مع تناول أيضا لبعض المشاهد الجنسية الساخنة. ويبقى في الرواية أيضا المزيد من الحركة والإثارة: فهل ذكرت شيئا عن الألوية الحمراء؟ وأحداث مهرجان فينسيا؟ وما انكشف ليلة الانتخابات في باريس؟

شأن «HHhH»، وهي رواية بينيه ما بعد الحداثية عن اغتيال الزعيم النازي رينارد هايدريتش، لا تكتفي «وظيفة اللغة السابعة» بمجرد حكي قصة. فبينيه يستكشف أيضا العلاقة بين الخيال والواقع. حيث تعلن الجملة الافتتاحية في الرواية أن «الحياة ليست رواية». وهو يقحم في سرده بين الحين والآخر أفكاره الشخصية وتعليقاته الخاصة ـ «أتمنى لو يعيد أنطوني هوبكنز قراءة هذه الفقرة من أجلنا»، كما يتساءل سيمون هيرتسوج أحيانا لو أنه شخصية روائية. وفي رأيي أن بينيه لا يبذل الجهد الكافي مع هذه المسارات الميتاقصصية المألوفة، وأنه أبرع كثيرا في ما يتعلق بالتهكم والإثارة.

غير أن هذا التحفظ العابر لا يكاد يعني شيئا في مقابل زخم المتعة الذي يمكن الحصول عليه في «وظيفة اللغة السابعة» الذي أتاحه باقتدار سام تايلور في ترجمته الإنجليزية. ففوكو وسولرز بالذات يظهران في الرواية شخصيتين كوميديتين في المقام الأكبر. فضلا عن ذلك، فإن تاريخ بينيه البديل ـ أو السري المحتمل ـ يلمح إلى أن وراء صعود باراك أوباما أكثر بكثير مما قد يذهب إليه خيال دونالد ترامب.

عن استعراض مايكل ديردا في واشنطن بوست