أفكار وآراء

نتجه نحو الفردانية !!

10 سبتمبر 2017
10 سبتمبر 2017

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

يبدو أن الصورة الحالمة لعالم الاجتماع إبن خلدون -رحمه الله- في جزئيتها الاجتماعية والتي تذهب الى اجتماعية الإنسان لا تتحقق إلا من خلال تقارب هذه الاجتماعية وتكاملها الشامل؛ لا تأخذ مكانتها كقاعدة ذهبية لهذه الاجتماعية، لا يظهر عليها التبدل والاختلاف.

` ذلك أن الواقع الذي نعيشه يقول غير ذلك تماما؛ فالاجتماعية، في تكاملها الجمعي؛ على ما يبدو أنها حالة كأي حالة إنسانية قابلة للتغيير والتبدل، بل تخضع وفق متطلبات العصر واحتياجاته المختلفة، والحقيقة الكبرى في هذا الجانب هي؛ أن أي نشاط إنساني لا يمكن أن يأخذ صفة السرمدية؛ حيث البقاء للأبد، لأنه مرتبط بنشاط هذا الإنسان واحتياجاته المادية والمعنوية وسعيه لإشباعها وفق مقتضيات العصر، ووفق احتياجاته الخاصة، بغض النظر عن ما يجب أن يكون، وبغض النظر إن كان ذلك يناقض قواعد معينة ألفها الإنسان وبنى عليها تصوراته ومعارفه من خلال تجربته الطويلة في الحياة، والتي أرخت له الكثير من القناعات، فحالات الانفصال أو الانسحاب من مجمل التكوينات التي تقوم هنا أو هناك؛ تظل حالة قائمة مع تغير العصر وتبدل ظروف الناس، واستحداث الأدوات.

يؤكد ترتيب الأولويات في هرم ماسلو الشهير؛ أن الفردانية المتمثلة في «تحقيق الذات» تأخذ أولوية أولى، متقدمة بذلك على «الاحتياجات الاجتماعية» بمرتبتين، وتحقيق الذات شأن فردي بحت، وإن انضم تحت عباءة الجماعة في صورتها العامة؛ كتحقيق الذات الاجتماعية، لكنه يظل مطلبا فرديا بحتا، وهذا المطلب الفردي البحت، هو الذي يدفع بالإنسان الى البحث الدائم عن حيوات وصور جديدة مختلفة عن ما هو مألوف ومعتاد، فوق أن «الحاجة أم الاختراع» كما يقال، هي المحفز الدائم للنشاط الإبداعي عند الإنسان الفرد، لكي يجد لمساحة اشتغاله هذه الصور الجديدة، وهذه الحيوات الجديدة التي تؤصل صور فرديته، واستقلاليته، وهو ذاهب نحو بناء مستقبل حياته، تحت مفهوم «ها أنا ذا» وليس تحت مفهوم «كان أبي» هذه فطرة لا يمكن إنكارها، أو تجاوزها عند مناقشة هذا الموضوع، صحيح أن هناك حثا على أهمية بناء الجماعة أو الجماعات، لأن في ذلك قوة.

كما يرى البعض، وفي مثال الرجل الذي اختبر أبناءه في شأن العصي « ... وإذا افترقنا تكسرت أحاد» إلا ان مثل هذه الصور ربما تكون ضرورية في ظروف استثنائية، أو القاعدة هي أن الفردية لا يمكن أن تذوب في الجماعة، وتفقد كل معطيات قوتها وتفردها فترسلها في مهب الريح، فذلك أمر يناقض الفطرة الإنسانية.

يستلزم الأمر هنا الحديث عن تجربتين، أو حادثتين؛ الحادثة الأولى: هو انهيار فيما كان يعرف بـ «الاتحاد السوفيتي» في مطلع التسعينيات من القرن الماضي ، وقد حدث ذلك – كما تؤكد المصادر – « في 26 ديسمبر 1991 عقب إصدار مجلس السوفييت الأعلى للاتحاد السوفييتي الإعلان رقم (H-142) والذي أُعلِن فيه عن الاعتراف باستقلال الجمهوريات السوفيتية السابقة، وإنشاء رابطة الدول المستقلة لتحل محل الاتحاد السوفيتي». وانتهاء الحرب الباردة «نهاية العداء المستمر منذ عقود بين منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) وحلف وارسو، والذي كان السمة المميزة للحرب الباردة».

وأما الحادثة الثانية هي الحيثيات القائمة الحالية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، حيث يؤكد «الاستفتاء الذي جرى في يونيو 2016 على عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، أن 52% من الناخبين صوتوا لصالح مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي ، الأمر الذي نتج عنه بدء عملية معقدة لانسحاب المملكة المتحدة بالإضافة إلى حدوث تغيرات سياسية واقتصادية في المملكة المتحدة ودول أخرى» – مصادر مختلفة؛ بتصرف.

نأخذ هذين المثالين كمجرد نموذجين – من نماذج أخرى عديدة بما فيها في منطقة الخليج - للتأكيد على أن الحالة الفردية هي الأصل، وأن الجماعية تظل حالة مرتبكة، لا يستقر لها قرار حتى تصل الى حالتها الفردية، عندها تبدأ في بناء مشروعها الذي تجد فيه ذاتها وموطنها للذهاب قدما نحو البناء والتميز والتفرد، صحيح أن الأحداث السياسية تلعب دورا محوريا في هذا الاتجاه، كما هو الحال في الأمثلة أعلاه، ولكن هذه الأحداث السياسية لم تأت من فراغ لولا أن هناك محفزا داخليا يربك مختلف الاستكانات والهدوء المشبوب بالحذر الذي يعتلي الأنفس داخل الكيان الواحد في أية مجموعة تحت أي عنوان كان (سياسية، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية) وقس على ذلك أمثلة كثيرة .

حتى عهد قريب ظلت صورة الأسرة التقليدية «الممتدة» مخيمة على المشهد الاجتماعي في كثير من المجتمعات الإنسانية، ووجد فيها الفرد الكثير من الحماية والأمان، من ظروف الحياة المختلفة، في عصر كان يحتم على أفراده أن يكونوا أكثر قربا من بعضهم البعض، واكثر حميمية، حيث شكل الحقل الزراعي المقصد اليومي لجميع أفراد الأسرة لإنتاج قوتهم اليومي وفقط، حتى ازدهر العصر الصناعي منذ القرن التاسع عشر ، ثم العصر الصناعي الثاني في اواخر القرن العشرين ، حيث بدأ الحراك الاجتماعي يأخذ مسارات كثيرة، وتغيرات نوعية في مختلف البناءات الاجتماعية، وحفلت الصورة الحديثة للأسرة «الأسرة النووية» بالكثير من العناية والاهتمام، فقد وجد فيها المحفز الكبير نحو التحرر والانعتاق من روابط الأسرة الممتدة، وهي الرابط المقيدة للحركة الفردية وطموحاتها لتحقيق الذات، ولذلك أخذت طريقها نحو الانفصال عن الأسرة الممتدة، وهو انفصال يتسق مع مجريات الحياة الحديثة اليوم، حيث لم يعد الحقل الزراعي هو مقصد الإنتاج لملء أفواه الجوعى، فقد ولدت مصادر متعددة لإنتاج الدخل الفردي والجماعي، هذه المصادر هي التي أملت على الناس شروطها الاجتماعية والاقتصادية، وهي التي فعلت من حجم الحراك الاجتماعي لدى أبناء المجتمع، فلم تعد القرية، على سبيل المثال، هي المستقر الاجتماعي، فقد تنازعت المدن الكبرى والصغرى على حد سواء في احتواء القادمين من القرى، ولأن المدن لا تؤمن كثيرا بالحميمية الاجتماعية، انعكس ذلك على نمو وتكاثر الأسر النووية، الأمر الذي أدى الى وضوح اكثر لمفهوم الفردية، فالجميع بلا استثناء اصبح يخدم ذاته الفردية، ويؤصل استفراغ طاقتها لتقوية جدرانها الأربعة، وما صورة عمل المرأة واستقلالها المادي إلا نتيجة من نتائج هذه الاستقلالية الفردية من عباءة المجتمع الصغير «الأسرة» التي تسيد عليها الرجل فترة من الزمن، وبذلك انتقلت الصورة الاجتماعية من حالتها الراكدة المستقرة الى حالتها الديناميكية المتحركة، تفعل حركتها الأسرة النووية بطموحات أفراده المستقلين بصورة غير مباشرة، واشتغالاتها التي لا تهدأ موظفة مبدأ «أكون او لا أكون»، وليس هناك خيار ثالث، وعلى ما يبدو، فقد كسبت الرهان، وتأتي اليوم ثورة الاتصالات الحديثة لتزيد من تفاعل هذا الحراك الفردي، متعدد الجوانب ، وتشعر الفرد بأن أهميته الفردية أصبحت اكبر مما كان عليه، حيث لا يشعر بأي قيود بمكن أن تحد من حركته في تواصله واتصاله بالآخر، مهما كان هذا الآخر قريبا او بعيدا، ففي كل هذه الأنشطة هو لا يحتاج الى جماعة تساعده وتؤازره، او ينتظر أذنا مسبقا من أحد ما.

ولأن مسألة الانفصال هذه أو الاستقلالية ليست سهلة ويسيرة على الشعوب التي للتو تبدأ حراكها، فإنها تقيم أية حركة اجتماعية تنحو هذا المنحى ، على أنها تخرج عن نطاق القيم المتعارف عليها، وقد تتهم في أخلاقها، وتنزل منزلة النقد الشديد، فحتى حركة الاسرة النووية في مجتمعنا العماني ينظر اليها على أنها خارجة عن المألوف، خاصة إذا كان أحد الوالدين على قيد الحياة، وقد يوسم هذا الإقدام على أنه نوع من العقوق احيانا، وهناك من ضحى باستقلاليته، وآثر رضا احد والديه عليه، وذلك بقي على بيت العائلة الكبير، اتقاء لسيل الانتقادات التي سوف يتعرض عليها جراء انتقاله الى بيته الذي بناه ليحقق له نوعا من الاستقلالية الفردية، ولكن تظل هذه حالات استثنائية، أما المسألة في صورتها العامة؛ فهي ذاهبة الى هذه الاستقلالية أو الفردية، لأن هذا هو الوضع الطبيعي لاستقرار الأنفس، وقدرتها على تحقيق مصيرها، او تحييد قراراتها لمستقبلها، وهو ما تنادي به الرأسمالية في مفهومها الاقتصادي الذي نعيشه جميعا.