الملف السياسي

مسار الأزمة السورية: تهدئة عسكرية أم حل سياسي؟

28 أغسطس 2017
28 أغسطس 2017

د.صلاح ابونار -

شكل التدخل العسكري الروسي النشط، الذي انطلق مع أولى الغارات على داعش في سبتمبر 2015، والتدخل الجوي الأمريكي المكثف مع ولاية ترامب على مواقع داعش العراقية، بدايات نقلة نوعية في تطور المسارين العسكري والسياسي للأزمة السورية.

لم تمض سوى شهور قليلة على انطلاقة الثورة السورية في مارس 2011 حتى دخلت في طور المواجهة العسكرية، مع الهجوم العسكري على درعا وبانياس وحمص وحماة فيما بين مايو ويوليو 2011. وعند نهاية عامها الأول انطلقت عملية إلحاق عميقة ومتصاعدة للأزمة في السياقين الإقليمي والدولي، مع قرار الجامعة العربية بتعليق عضوية سوريا في نوفمبر 2011، ثم اعتراف الدول الكبرى بالتحالف الوطني في ديسمبر 2012.

ولا تبدو الأزمة في ظل التطورات الأخيرة مرشحة «لحل سياسي ناجز ونهائي». ماهو المقصود بتلك العبارة؟ تأسيس سلطة جديدة في سياق انتقالي، تطلق عملية إعادة بناء النظام على أسس دستورية جديدة، وتمتلك صلاحيات وإمكانيات فرض النظام وتطهير البلاد من القوى العسكرية الوافدة، ووضع القواعد القادرة على إعادة تأسيس وحدة البلاد. باختصار مسار وحل يندمج في إطار المخططات التي نجدها في الوثائق الدولية للأزمة، من أول بيان مؤتمر جنيف الأول يونيو 2012، مرورا بالوثائق الصادرة عن بقية الجولات حتى الجولة السابعة يوليو 2017، وحتى قرار مجلس الأمن رقم 2254 في ديسمبر 2015. وهو تصور قوي المعارضة السورية المدنية ذاتها.

والواقع أن الأزمة لم تظهر في أي مرحلة إمكانية للوصول لهذا الحل. ويتضح هذا عند تتبع مسار جولات جنيف. انطلقت الأولى في يونيو 2012 بمبادرة من الأمم المتحدة والجامعة العربية، ولم تسفر إلا عن إطلاق «إعلان جنيف» الذي حدد خطوات الدخول في عملية انتقال سياسي. ولم تسفر جولة أغسطس 2012 عن أي شيء، فلقد أصر وفد السلطة السورية على إعطاء الأولوية لمكافحة الإرهاب قاصدا به الانتفاضة، وأصرت المعارضة على أولوية الانتقال السياسي وبنده الأساسي رحيل الأسد. وجاءت الثالثة في مارس 2016، وانتهت بالفشل بفعل التناقض ذاته مقرونا بعمليات عسكرية متبادلة خلال فترة انعقادها. وانطلقت الرابعة في فبراير 2017، وانتهت بالفشل للأسباب ذاتها. وشرعت الخامسة في أعمالها في مارس 2017، وانتهت كما انتهت السابقة. وبعدها صرح دي ميستورا: «كنت أقول لنفسي ولمن حولي يحب ألا نتوقع اختراقا كبيرا، ويجب أيضا ألا نتوقع انهيارا.» وانطلقت السادسة في مايو 2017، لتنتهي على المنوال نفسه. ولم تسفر السابعة في يوليو الماضي إلا عن اتفاقات عامة مثل استقلال سوريا ووحدة أراضيها.

ولا يبدو هذا الفشل المزمن مرشحا لأي تخطي، لغياب الإرادة السياسية القادرة والراغبة.

لم تعد القوى السورية التي تبنت هذا الحل تمتلك قوة تؤهلها للنضال من أجله. فلقد أخذ امتداد الصراع وعنفه وفيضان التدفق الجهادي الكثير من قوتها، وأدت عمليات النزوح الواسعة إلى انحسار قواعدها السياسية. وأضحى المسرح السياسي السوري مسرحا سلفيا، غارقا في طوفان تنظيمات عابرة للقارات، يحلم اغلبها بدولة بعيدة عن أي مفهوم مدني، لا تختلف عن التي ولدت الأزمة من رحمها. وهناك قوى دوليه مثل الولايات المتحدة تفضل هذا الحل، وسنراه مطروحا في بعض مؤسساتها، لكن التفضيل السياسي لا يصمد أمام حسابات التكلفة السياسية. كما أن قدرته على التجذر السياسي ليست مؤكدة كما دلت الخبرة العراقية.

وفي المقابل يميل أغلب القوى الدولية والإقليمية الضالعة في الأزمة لحل سياسي آخر يكتفي بعودة الأوضاع إلى ما كانت عليه. بعضها يريد العودة بذات القيادات كما هو حال روسيا وقوي إقليمية حليفة لها. والبعض الآخر لا يمانع في تغيير القيادات، إذا كان من شأنه ان يفتح مخرجا لحل الصراع ويجنبه تداعياته الوخيمة، وهذا حال الاتحاد الأوروبي في خوفه من تدفق الهجرة السورية. والبعض الثالث يصر تحت تأثير صراعات إقليمية وتحيزات وحزازات مذهبية، على تغيير القيادات مع الاحتفاظ بجوهر الصيغ السياسية القديمة نفسها. والحاصل أن ثمة توافق على جوهر عودة الأوضاع على ما كانت عليه، والجوهر هنا يعني سلطة دولة مركزية قوية تعيد تأسيس وحدة سوريا وتفرض الأمن وتدفع بالجهاديين خارجا، ولا بأس على الإطلاق من إطار انتقالي شكلي مستعار من جنيف يحفل بالمصطلحات الانتقالية. ولكن يظل هناك خلاف أساسي ومستحكم يتعلق بهوية القيادة في ظل الدولة الجديدة، ومعها بالضرورة هوية النخبة الحاكمة.

ولكن لأن الوضع بات لا يحتمل من ناحية التكلفة الإنسانية وتداعياتها الخارجية، ولأن الدور العسكري الروسي النشط استدعي دورا أمريكيا عسكريا، ولان سوريا أضحت بيئة خصية لتشكيلات جهادية سرعان ما تشق طريقها إلى الغرب وروسيا، ولان استمرار الأزمة يعني تصاعد للدورين الروسي والإقليمي غير العربي في المنطقة، اصبح من الضروري تخطي المأزق الراهن. وتتشكل مسيرة عملية التخطي عبر تفاعل المعطيات السابقة، إلا ان الدور الروسي النشط يشكل قوة دفعها الأساسية، دون ان يصل إلى حد تسيد المجال السياسي للأزمة.

استطاع الدعم العسكري الجوي الروسي في الفترة من ديسمبر 2015 الى ديسمبر 2016، تمكين السلطة السورية من استعادة مراكزها الحضرية الكبري في الغرب : تدمر وحمص وحلب. وبمحازاة ذلك انطلقت عملية «آستانا» السياسية، بقيادة تحالف روسي - إيراني - تركي، مستهدفة تشكيل إطارا تفاوضيا من الدول ذات التوجهات السياسية المتقاربة والضالعة مباشرة في الإدارة العسكرية للأزمة. انطلقت تلك العملية في مدينة آستانا عاصمة كازاخستان في يناير 2017، وأسفرت عن إنشاء آلية سياسية ثلاثية لمراقبة وقف إطلاق النار الذي بدأ في 13 ديسمبر 2016. وسرعان ما تلتها أربع جولات فيما بين فبراير ويوليو، أسفرت عن إنشاء مناطق منخفضة التوتر في أدلب والغوطة الشرقية وشمال حمص وجنوب سوريا.

ولم يتمكن الدور الروسي من مواصلة دعمه لاستعادة سيطرة النظام على كل سوريا، إذ جاءت صحوة الدور الأمريكي مع ترامب لتقلب الحسابات. انطلقت الخطوة الأولى من العراق بدك معاقل داعش عبر الدعم الجوي للقوات العراقية. ثم انتقلت إلى سوريا عبر دعم جوي أمريكي وروسي مكثف، لهجوم تشنه قوات الجيش السوري وقوات سوريا الديمقراطية وقوات حماية الشعب الكردي، في اتجاه بقية معاقل داعش في دير الزور والرقة في معركة محسومة نتائجها. ولأن قوات سوريا الديمقراطية وقوات حماية الشعب الكردي تعمل تحت قيادة أمريكية ودعم جوي أمريكي، فالمرجح ان ما يحدث حاليا هو عملية اقتسام نفوذ على الأرض متفق عليها، سيكون للقوات المتحالفة مع أمريكا نصيب الأسد فيها، التي ستشرع في التوسع جغرافيا انطلاقا منها. وستأخذ هذه العملية الأمريكية في التوسع، وسيكون هدفها تأمين وجود مناطق سورية مهمة خارج سيطرة النظام والقوى الحليفة له. وبعد الانتهاء من قوات الدولة الإسلامية، ستنطلق فيها عملية تطهير واسعة من الجماعات الجهادية.

ويمكننا أن نكتشف في السياسات الأمريكية- الروسية المرصودة: مصلحة مشتركة وتناقض. تبدو المصلحة المشتركة في تهدئة الساحة السورية، بما يمكن الطرفان من إجلاء الجماعات الجهادية النشطة منها، والقضاء على بيئة خصبة لتشكل الجماعات الجهادية، ووضع نهاية لمناخ العنف الأهلي الذي يدفع بموجات الهجرة صوب الغرب.

وسنجد السياق الأعم للتناقض في حاله العداء، الذي أضحت نخب أمريكية بارزة تشعر به تجاه روسيا. حالة انطلقت من أزمة التدخل الروسي في أوكرانيا، والتدخلية الروسية النشطة في مناطق أخرى التي أعقبتها، والتدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. وكل ذلك جعل من روسيا هاجس سياسي داخلي أمريكي مثير للعداوة، وهو ما تبدي في قانون العقوبات الروسية الأخير. ومن المنظور الخاص بالأزمة السورية، أضحت واشنطن ترى ان بوتين تمكن من تحقيق انتصارات مستغلا انسحابية أوباما، ولم تعد راغبه في أن يستكمل حصاد مكاسبه السورية. كما تدرك ان ترك بوتين يستكمل عمليه استعادة الدولة السورية لإقليمها وقوتها تحت القيادة والنخبة الحاكمة ذاتها، يعني انتصارا موازيا للدور الإيراني لا ترغب فيه، وشرخا قويا في علاقتها مع قوى إقليمية أخرى لا تقوى على تحمل تبعاته.

والحاصل أن الأزمة تتجه إلى تهدئة عسكرية أهلية، وتطهير لسوريا من القوى الجهادية، في إطار اقتسام جغرافي للنفوذ السياسي بين واشنطن وموسكو، لن يمكن السلطة السورية العائدة من استكمال استعادة نفوذها على كامل إقليمها. اقتسام للنفوذ السياسي سينطوي بالتبعية، على نوع من التقسيم السياسي الواقعي وليس الرسمي. وضع مرشح للاستمرار لفترة، حتى يتم التوافق الدولي والإقليمي على نمط تغيير هوية القائمين على السلطة السورية. هذا التوافق الذي يبدو عصيا الآن، من المحتمل ان يصبح أكثر سهولة وقابلية للتوفيق، مع اكتمال واستقرار التهدئة العسكرية.