أفكار وآراء

التاريخ الكاذب أسوأ من الأخبار الكاذبة

25 أغسطس 2017
25 أغسطس 2017

ناتالي نُوجْيارَيْد/ ترجمة قاسم مكي -

الجارديان -

في 22 يوليو، وقف رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان أمام طلاب الجامعة وألقى خطبة بعنوان» هل ستكون أوروبا للأوروبيين؟» أطنب أوربان في الحديث عن «خطة البليونير جورج سوروس» التي قال إنه يجري تنفيذها لجلب «مئات الآلاف من المهاجرين كل عام (وإذا أمكن جلب الملايين منهم) إلى أراضي الاتحاد الأوروبي من العالم الإسلامي». والهدف من ذلك، بحسب أوربان، تحويل القارة إلى «أوروبا جديدة ومؤسلمة». ويرى أن ذلك ما يكمن خلف سحب بروكسل المتواصل والخفي لسلطات الدول الوطنية». لدى أوربان سوابق فيما يتعلق بالرؤية المذعورة «رؤية جنون الارتياب.» إنه شعبوي مستبدٌّ - حسب قول الكاتب - جَعَلَ تأجيج كراهية الأجانب ومشاعر العداء للمسلمين عادة له. وهو يتلهف إلى تضخيم نظريات المؤامرة التي يعتنقها اليمين المتطرف حول الأغلبية المسيحية التي يتهددها «إحلال» سكاني. ولكن رسالته ليست فقط أخبارا مختلقة عن الحاضر، بل هي أيضا مزركشة بتشويهات تاريخية. يقول في ابتهاج ذو دلالة « لم تكن بلدنا منذ معاهدة أريانون أقرب مما هي عليه اليوم إلى استعادة ثقتها وحيويتها». وهو يشير بذلك إلى معاهدة ما بعد الحرب العالمية الأولى التي جردت المجر من ثلثي أراضيها. الفكرة التي يسترشد بها أوربان هي أن على المجر السعي للثأر من الإذلال التاريخي. والفكرة الموحى بها في هذا الصدد أن حكومته وهي تصطدم بالاتحاد الأوروبي حول حصص المهاجرين إنما تنتقم لمظالم تعود بجذورها إلى أوائل القرن العشرين. وتمضي تلاعبات أوربان إلى أبعد من ذلك كي تشمل إعادة كتابة كاملة لفصول الماضي السوداء. لقد قال علنا أن ميكلوس هورثي، الزعيم المجري الذي تعاون مع النازيين، كان رجل دولة استثنائيا.» بالطبع ليس هو وحده من يلوي عنق التاريخ خدمةً لأهدافه السياسية. ففي بلدان أخرى يتم تعديل الكتب المدرسية (بغرض التعظيم الآيديولوجي للماضي من أجل اقتناص المزيد من السلطة في الحاضر). كما تتموضع السيطرة على الذاكرة في صميم نظام بوتين في روسيا. فليس فقط ستالين هو الذي أعيد تأهيله ببناء صروح جديدة تشريفا له حول روسيا ولكن أيضا تعرض المؤرخون وناشطو حقوق الإنسان الذي يوثقون للجريمة الستالينية إلى ضغوط سياسية. وحوكم بعضهم مثل يوري ديمترييف بناء على تهم مختلقة. كما أن إعادة كتابة الماضي السوفييتي لا تخدم أغراضا سياسية داخلية فقط. فإنكار جرائم الاحتلال السوفييتي في وسط وشرق أوروبا والدفاع عن اتفاق مولوتوف – ريبينتروب مع النازيين (معاهدة عدم اعتداء بين الروس والألمان في 23 أغسطس 1939 - المترجم) يبرران لموسكو استرداد «مجال نفوذها». وفي صين شي جينبينج يتم اجتثاث أي ذكر للوقائع التي جرت إبان الثورة الثقافية أو مذبحة ميدان تيانانمين لأن ذلك يعتبر تحديا لحكم الحزب الشيوعي. فالنسيان الجماعي هو ما يبحث عنه النظام حول قضايا قد تخاطر بتقويض شرعيته. إذ ليس يكفي إلقاء المنشقين في السجن أو مراقبة المعلومات وحجبها. فالماضي يتم تطهيره كذلك. وفي حين من المغري الاعتقاد أن إعادة كتابة التاريخ توجد حصريا في الأنظمة غير الليبرالية أو الدكتاتورية إلا أنها صارت باطراد سمة من سمات الأنظمة الديموقراطية. فخطاب دونالد ترامب في وارسو في الشهر الماضي سعى جاهدا لتصوير الكفاح التاريخي لبولندا من أجل الحرية والاستقلال كمعركة «حضارية» من أجل القيم العائلية والتقاليد والرب، بدلا عن أن يكون تطلعا إلى الديمقراطية. لقد نُزِعَ عن هذه السردية تماما نسيجُها السياسي المتعدد الألوان والذي كان وراء صعود حركة التضامن البولندية. وفي انعطافة غريبة، قارن ترامب أيضا بين التهديد الذي يشكله إرهاب المتطرفين الإسلاميين للغرب وخطر البيروقراطية واللوائح الإجرائية. إن رؤيته المنحازة لأهل البلد والتي تنظر للغرب كقلعة لبلدان مسيحية محاصرة بخطر ثقافي لم تعكس فقط عقيدة سياسية شخصية ولكن محاولة أوسع نطاقا لإعادة كتابة تاريخ الديمقراطيات الليبرالية والمبادئ التي يجب أن تحافظ عليها. وفي بريطانيا، أثبت دعاة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أنهم على استعداد لطرح نسختهم الخاصة بهم للتاريخ. فالحنين إلى أيام الإمبراطورية وإلى روح «الطعن والنزال» الرومانسية تعود الآن برفقة لازمة (عبارة متكررة) فحواها أن المشروع الأوروبي قَيدٌ استبدادي دائم. بحسب هذه الحكاية، لم يكن لبريطانيا أبدا رأي في أي شيء يقرره الاتحاد الأوروبي وهي الآن تملك الفرصة «لتحرير» نفسها. ذلك على الرغم من أن بريطانيا عضو كامل العضوية ومؤثر في نادٍ (أوروبي) استفاد منه مواطنوها واقتصادها. فَالْغُلُوُّ يغير ليس فقط طريقة إدراك الحقائق الحالية ولكنه أيضا يعدِّل الماضي كي يلائم نظام عقائد بعينه. وردت في رواية جورج أورويل (1984) عبارة معروفة جيدا عن التاريخ وأهميته هي «من يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل. ومن يسيطر على الحاضر يسيطر على الماضي.» نحن نشعر عن حق بالقلق من أثر الأخبار الكاذبة.

ولكن العواطف القومية اليوم أكثر تجذرا في تشويه التاريخ. وهذا سمٌّ يتجرعه المواطنون في بلدان عديدة دون تفكير. لقد ظل الماضي دائما ساحة للمعارك. وأظهر القرن العشرون إلى أي مدى تبسط الدولة سيطرتها على الذاكرة. لقد ذكر مرة بريمو ليفي، الذي عاش فظائع معسكرات الاعتقال النازية، في إحدى كتاباته أن تاريخ الرايخ الألماني بأجمعه «يمكن إعادة قراءته كحرب ضد الذاكرة». إحدى بركات العيش في نظام ديمقراطي أن الباحثين والطلاب والصحفيين والمواطنين عموما يمكنهم النفاذ إلى الماضي دون أن يخضعوا أنفسهم إلى أي شكل من أشكال السيطرة المركزية والمراقبة. لقد وصف الفيلسوف تزفيتان تودوروف هذه البركة بقوله أنها «إحدى الحريات الراسخة إلى جانب حرية التفكير والتعبير عن الذات.» ورغما عن ذلك، قد لا يكون أمن الذاكرة في المجتمعات الديمقراطية مضمونا كما نعتقد. ذلك أن بعض الساسة يريدون قيادتنا في مسيرة نحو النسيان. ولكن بهذه الطريقة يتأسس عالم من اللامعنى والخداع. إن تعلم التاريخ والقدرة على مساءلة بعض السرديات التي يتم تقديمها باسم السياسة بنفس أهمية معرفة أين نحصل على أخبار موثوقة. لقد تساءل المؤرخ تيموثي سنايدر في مؤتمر انعقد مؤخرا حول الدولة الوطنية والأكاذيب العديدة التي يلصقها بها الساسة قائلا»هل يمكن أن ينقذنا التاريخ من أنفسنا؟» ربما يمكنه ذلك.

• الكاتبة معلقة الشؤون الخارجية بصحيفة الجارديان البريطانية ومديرة تحرير سابقة لصحيفة لوموند الفرنسية.