أفكار وآراء

قضايا تنموية ومالية

23 أغسطس 2017
23 أغسطس 2017

مصباح قطب -

أعلنت مسؤولة في وزارة التخطيط والمتابعة والتنمية الإدارية في مصر مؤخرا أن الوزارة ألغت ما يسمي بمؤشر السعادة من رؤية مصر 2030 واستعاضت عنها بمجموعة مؤشرات تؤدي نفس الغرض من عينة جودة الحياة والتنافسية والشفافية...... الخ وقد أثار ذلك في الذهن الكثير من الجدل فقد سبق هذا الإعلان عن الإلغاء موجات من النقد لمسمي هذا المؤشر، بدت لي غريبة وغير موضوعية، وأعطت انطباعا وكأن الناس يستكثرون على أنفسهم أن يكونوا سعداء أو ينضموا إلى صفوف الشعوب السعيدة، إذ لم يكن نقدهم للمؤشر منصرفا إلى محتواه أو محتويا على إضافات له أو تعديلات مقترحة عليه لكن النقد ولا أقول السخرية طالت اسم المؤشر فقط، وزادت من شهية مجموعات من الناس على مواقع التواصل أو عبر الميديا المختلفة لمزيد من النقد في نفس الاتجاه.  إن تحقيق هدف أن تكون مصر بين أسعد 30 دولة على مستوي العالم في 2030  كما جاء بالرؤية، هو هدف يحتاج إلى مدى طويل والجمهور العام منكفئ  على معاناة اللحظة أو قضاياها ولا وقت لديه لينظر أو يناقش ما هو أبعد بل وربما لا وقت لديه لان يحلم أو يدع الآخرين يحلمون. للإنصاف قد يكون واضعو الرؤية قد قصروا في التعريف بها وإشاعة الوعي بمرتكزاتها  ونقل محاورها وأهدافها ومؤشراتها التقييمية إلى مستوى وعي كل مواطن، بل أن التقصير يصل إلى حد عدم تعريف النخبة الحكومية والموظفين والعمال الرسميين بشكل كاف بالرؤية  وأهدافها ووسائل تحقيقها، لكن في المقابل فإن الأمر لمن تصفحوا الرؤية مثلي يحمل معنى التقصير في الاتجاهين، تقصير الحكومة في التبشير بالرؤية وتقصير المجتمع في السعي لمعرفتها ومتابعة تحقيقها وتعديلها أو حتى تغييرها إذا لزم الأمر، حيث وجود رؤية استراتيجية هو أحد المتطلبات الأساسية للدولة الحديثة، وقد شاع الوعي العالمي والعربي بذلك في العقدين الماضيين بصفة خاصة وعمقت أهداف الألفية الإنمائية للأمم المتحدة، والتي انتهت في 2015 وتم تجديد مستهدفاتها من احتياج البلدان إلى مثل تلك الرؤى بل أن قارة إفريقيا وضعت لنفسها إطار استراتيجي يمتد حتى العام 2063. ولم تكن هذه هي القضية الوحيدة التي أثارها إلغاء مؤشر السعادة لكن كان هناك أيضا وضمن مناقشات جرت بين مجموعة من مسؤولي وزارة التخطيط المصرية وعدد من المحررين الاقتصاديين حول الرؤية ومؤشراتها في مدينة الإسكندرية بداية هذا الأسبوع قضايا أخرى مهمة ذات أبعاد عربية وعالمية فقد تبين علي سبيل المثال أن المؤشرات التي وضعتها مصر لقياس التقدم في مجال العدالة الاجتماعية غير كافية ومن هنا لزم أن يكون هناك مؤشرات إضافية وتم الاتفاق بعد بحث واسع على عملها استلاهما من تجربة منظمة دول التعاون الاقتصادي والتنمية، وتبين أيضا أن المعنيين بمتابعة الرؤية غير مؤهلين بعد للقيام بهذا الأمر طبقا للمنهجية التي نصت عليها الرؤيا ذاتها حتى مع القصور في بعض مؤشراتها كما ذكرنا ومغزى هذا الأمر في أنه لا يمكن إنجاح رؤية دون بناء نظام محكم للمتابعة والتقييم ثم أن المتابعة ليست عملية وصف ما هو قائم أو ما سيحدث ولكنها عملية ذات أبعاد مختلفة يجب أن تفضي إلى القدرة على التقييم والتصحيح أو التصويب والمحاسبة والتوجيه، والشائع في مصر وغير مصر هو الاعتماد بشكل شبه كلي على المؤشرات الكمية بمعنى التطور في معدل النمو أو البطالة أو التضخم أو حجم الإنفاق العام أو حجم الاستثمارات بصفة عامة، دون قياس الأثر الحقيقي لمثل هذه التطورات سواء كانت سلبية أم إيجابية فأنت مثلا قد تذكر أن هدف تخريج عدد معين من طلبة الجامعات قد تحقق لكن قياس قدرة هؤلاء الطلبة على المنافسة في سوق العمل ومستوى مهاراتهم وطموحاتهم الشخصية وقدرتهم على الإضافة سواء عملوا في مشاريع عامة أو في مشاريع خاصة ورؤيتهم لمستقبلهم وإلى أي مدى لديهم استعدادا للمغامرة.... الخ . كل ذلك غير معروف.

وقد أثيرت قضية ثالثة أرى أننا في أغلب البلدان نتهرب من مواجهتها بشكل حقيقي وهي: من الذي يقوم بالمتابعة وما نوع السلطة التي يجب أن يتمتع بها، ويحدث أحيانا أن يترك مجلس الوزراء رئاسة هذا العمل لوزارة أخرى وتظل الوزارة الأخرى طوال الوقت تشكو من أنها غير قادرة على المتابعة بالشكل السليم لأنها بحاجة إلى سلطة أعلى وإزاء ذلك تبرز دعوات في المجتمع إلى نقل سلطة المتابعة إلى مستوى قيادة الدولة وقد يرى البعض أن البرلمان يمكنه أن يتولى المهمة بينما قد يقول

آخرون أن ذلك غير كاف ولابد من مستويات متابعة أخرى تكون قريبة من كل مناطق العمل وهكذا وفي المحصلة يصعب أن تبني معادلة جيدة لعملية المتابعة هذه، وأرى في ذلك أن أحد أفضل ما يمكن عمله هو أن تكون المتابعة لها سلطة قوية من ناحية على الوزارات والجهات المختلفة، وفي نفس الوقت لديها مؤشرات تفصيلية فنية دقيقة وبرامج إلكترونية تجعل حيادية الأداء ودقته عند أعلى مستوى، وقد أشير ويشار كثيرا إلى أن تجربة ماليزيا جيدة في هذا الإطار وتحقق منها ما أشرت إليه فضلا عن أنها تشمل «جروب» للوزراء على «الواتس اب» يتواصلون عليه نهاية كل أسبوع لبحث أسباب تأخر تحقيق بعض الأهداف والعقبات القائمة وكيفية إزالتها.

ثمة أمر آخر مهم للجميع رغم أنه متعلق بالاستثمارات العامة أي الممولة من الخزانة أو من المنح التي تأتي للحكومة أو من موارد ذاتية للهيئات الحكومية هو سلامة الأولويات بالنسبة للمشاريع الاستثمارية وسبل تمويلها وإنهائها في مواعيدها وتحقيقها للأهداف المبتغاة منها ولذلك تسعى الحكومة المصرية حاليا إلى استقدام خبير عالمي لوضع ما يسمى الإطار المنطقي للمشاريع، ويتضمن هذا الإطار أسئلة أساسية يتعين على الجهات التي تريد أن تشرع في إقامة مشروع أن تجيب عليها (إجباريا) وتتحمل مسؤولية إجابتها، ومن هذه الأسئلة ماذا سيحدث لو لم تتم إقامة هذا المشروع وهل هناك بدائل أخرى لإقامته ومن هم تحديدا الذي سيستفيدون منه وكيفية تمويله والعوائد المتوقعة منه ؟.... الخ، ومن شأن إطار كذلك خاصة إذا صدر بقانون أن يمنع الكثير من أشكال الهدر في الموارد العامة عبر اختلاق مشاريع لا ضرورة حقيقية لها أو لا ضرورة لها الآن أو أنها لن تصبح ضرورية في مدى زمني قصير أو يمكن الاستعاضة عنها إذا كان المشروع إقامة مدرسة جديدة مثلا ببناء معبر فوق شريط السكة الحديدي ليعبر التلاميذ إلى مدرسة قريبة بها أماكن كافية غير أن الأهالي كانوا يخافون على أبنائهم من عبور شريط القطار، وبإقامة المعبر الذي هو أقل تكلفة بكثير من إقامة مدرسة جديدة يصبح لا حاجة إلى بناء تلك المدرسة وهكذا.

إذا لا تقاس الأمور التنموية بمقدار الشعارات التي تعبر عنها مثل شعار السعادة الذي لفتنا النظر إليه، ولكنها تعرف بالمدى الذي يمكن فيه استخدام الموارد المتاحة بأعلى كفاءة ممكنة، وبما يحقق أعلى منفعة اجتماعية واقتصادية وبيئية وثقافية وروحية للمواطنين، ويتطلب الطريق إلى ذلك الكثير من الاجتهاد فحتى لو كانت الرؤية الطويلة المدى قد خضعت لمستويات عالية من التشاورية عند وضعها ومن الحرص على الإدماج الاجتماعي والجغرافي والاستدامة فيها، فإنها تظل بحاجة طوال الوقت إلى تقييم فعال وتصويت ذكي ومرونة عالية في تعديل المسارات طبقا للمتغيرات.

 

[email protected]