إشراقات

أخلاقيات إسلامية

17 أغسطس 2017
17 أغسطس 2017

محمد عبد الرحيم الزيني/ أستاذ الفلسفة ـ كلية العلوم الشرعية -

إن أخلاقيات الإسلام جاءت لتقر قواعد للحياة الشريفة وتعطي لكل ذي حق حقه وتنصف المظلوم من الظالم، وتقضي على صنوف الانتهازية والمحسوبية والعادات السيئة والأفكار المنكرة التي يستسيغها بعض الناس نظرا لتفشيها بين أفراد المجتمع، وتشيع روح المحبة والتعاون لنهضة المجتمع وتحقيق السلام الاجتماعي والأخوة الإنسانية.

جاءت الرسالات السماوية بقواسم مشتركة فيما بينها أهمها الحفاظ على حياة الإنسان وحماية دمه وحفظ ماله وعرضه واحترام كرامته والإعلاء من شأن إنسانيته بصفته خليفة الله في الأرض، ولما كان الإسلام آخر الديانات وختام اتصال بين السماء والأرض، وتوجيه من الإرادة الإلهية إلى البشرية، لذلك كان دستوره جامعا شاملا يعالج كل القضايا المتعلقة بالإنسان أينما كان وحيثما حل، وضع معالم كاشفة للطريق القويم وهادية للإنسان تحقق سعادته في الدنيا والفوز بالجنة في الآخرة.

حينما نزلت مبادئ الإسلام إلى أرض الواقع عالجت مشكلات الحياة الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية والتربوية والنفسية، وتحولت من قواعد نظرية إلى خطة للعمل ومنهجا للسلوك السليم وخريطة هادية، على معالمها سارت الحضارة الإسلامية عبر عصورها الزاهرة، تشيع روح التعاون بين أفراد المجتمع وتحقق المساواة بين أفراده على أن يكون المعيار الذي يحظى به صاحب المنصب يعود إلى المواهب الشخصية والقدرات الذاتية والملكات العقلية.

وقد ركز الإسلام على تنظيم العلاقة بين الإنسان والله وبين الإنسان وأخيه الإنسان في كل ما يتعلق بالتعامل اليومي نظرا لضرورة التعاون فيما بينهما لتوفير الاحتياجات الأساسية التي لا يمكن أن ينهض الفرد الواحد بتوفيرها بقواه الخاصة حتى تستقيم حركة الحياة، وهنا يتجلى في البعد الاجتماعي في الإسلام الذي وضع قواعد رئيسة لحركة المجتمع وتنظيم شؤونه، وعمل بإصرار على وصول سفينته إلى بر الأمان والإيمان، وكان من أولى مبادئه إرساء قضية الأخوة الإنسانية وتعميق روح المحبة بين أفراد المجتمع وإقامة العدالة الاجتماعية كركن قوي لترسيخ قواعد المجتمع ودفعه إلى العمل المنتج وتوفير حاجياته ومتطلبات المعيشة التي تتطور من زمن إلى آخر.

وللعدالة معاني مختلفة، ولعل أول ما يتبادر إلى أذهاننا رد الحقوق إلى أصحابها، والقصاص من القتلة أو اللصوص وردع المفسدين في الأرض وهذا ما يقوم به جهاز القضاء الإسلامي ونشاهده في المحاكم تأكيدا لقوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، وقوله تعالى: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) والعدل بالمعنى الثاني «وضع الرجل المناسب في المكان المناسب» من منطلق الكفاءة الشخصية والمواهب التي تفرد بها، والقدرات الخاصة، وهذا ما نراه في حياتنا اليومية حينما تجري المؤسسات المختلفة في الدولة لتعيين أفضل الأطباء أو أمهر المهندسين أو اختيار أكفأ أعضاء هيئة التدريس، وقس على ذلك باقي الوظائف يكون المعيار الذي تستند إليه أي مؤسسة «معيار الكفاءة والتميز والإبداع». وهذا ما أشار إليه أفلاطون في الجمهورية في تعريفه العدالة، ورأى أن الظلم هو تخطي هذه المعايير ووضع الشخص غير الكفء في المكان الذي لا يتناسب مع قدراته ومواهبه. وهذا منطوق قوله تعالى (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)، وقوله تعالى: (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ) وغيرها من الآيات. وهذا يتجلى أيضا في اختيار الرسول أكفأ الشخصيات وأفضلها لمعاونته سواء لقيادة المعارك أو المستشارين الذين كان يرجع إليهم فهم المتميزون برجاحة العقل وسعة الأفق وسلامة المنهج والقدرة على الإحاطة بأبعاد المشكلات. وهذا أيضا هو المنهج الذي سار عليه الصحابة الكرام من اختيار معاونيهم في مجال تعيين الولاة وقيادة الجيوش ورجال القضاء، كان المعيار هو الكفاءة والجدارة وتوفر الملكات الخاصة والمواهب اليتيمة.

أما المعنى الأخير فهو تدخل الدولة لتحقيق قدر من العدالة الاجتماعية القائمة على أساس حاجة الأفراد وسد عوز الفقير، وإحداث نوع من التوازن بين طبقات المجتمع أو تقريب الهوة بين الغني والفقير، وإقامة نوع من التكافل الاجتماعي وتقوية آصرة المحبة بين أفراد المجتمع. ونستطيع أن ندرك ذلك في قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ)، وقوله تعالى: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ)، وقوله: (آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ). وأحاديث الرسول كثر في هذا المجال منها: (الناس شركاء في ثلاث؛ الماء والكلأ والنار). وحروب أبي بكر مع مانعي الزكاة، وقول عمر: لو استدبرت من أمري ما استدبرت لأخذت من فضول الأغنياء ورددتها على الفقراء، وضم أرض الجزيرة إلى بيت المال ولم يوزعها على المجاهدين.

ولكن هل تستقيم الحياة بناء على هذه القواعد الدينية والأوامر النبوية، وتاريخ الصحابة المشرف والصفحات الناصعة في تاريخ الحضارة الإسلامية التي قدمت نماذج باهرة؟.. ان

الناظر في طبيعة الإنسان نجد أنه مكون من عنصرين عنصر المادة أي الجسد وهذا له شهوات فائرة ورغبات عنيفة وطموحات غير مشروعة، ونفس أمارة بالسوء وهذا الجانب يهوي به إلى أسفل مع الجاذبية الأرضية. وهنا تشتد المعركة والصراع بين هذا الجانب وجانب الروح الذي يجذبه إلى أعلى إلى عالم الملائكة والأنوار والإشراقات. ولما كان الناس ليسوا سواء في درجة الإيمان والاعتقاد بأهمية القيم الأخلاقية هنا تظهر أنانية بعض أفراد المجتمع والضعف البشري لهدم هذه القيم فيقع الخلل من خلال «الانتهازية والمحسوبية والتسلق على أكتاف الآخرين والتمهيد لهدم قيم المجتمع.

وتعد المحسوبية من أضر العادات السلبية والأفكار الخاطئة التي تنتشر داخل المجتمعات الإنسانية ونعني بها: حصول الآخر على حق الغير، عن طريق الأنساب والأصهار، أي محاولة ذلك الآخر الحصول على وظيفة أو منصب أو أي شيء مادي من ماديات الحياة دون أن تتوفر فيه شروط الكفاءة والجدارة اعتمادا على مساعدة شخص آخر ذو منصب أو جاه فيتسلق على أكتاف الآخرين، ويستبعد صاحب الكفاءة الذي تتوفر فيه شروط الوظيفة لعدم وجود سند يعينه ويحصل له على حقه.

وفي ضوء ذلك يقع الخلل داخل المجتمع ويتوارى معنى المساواة بين أفراده، وينسحق مبدأ تكافؤ الفرص ويعم الإحباط بين الجميع، وتضيع الكفاءات في زحمة الحياة وتذبل الخبرات وتذوي المواهب حينما تقصى عن المناصب المرجوة لها، ويتم تنحية أصحاب المواهب ويقل الإنتاج وتشيع روح من السلبية والهزيمة النفسية بين صفوف الشباب، وهذا يعد سببا لهجرة العقول العربية إلى الخارج، علاوة على تضاؤل مكانة الضمير الديني.

أضف إلى ذلك أن هذا يعد سرقة لجهود الآخرين وعرقهم وسلب تعبهم وآمالهم وحقهم في الحياة وإهدار لمؤهلاتهم، يعاقب عليه الإنسان في الدنيا والآخرة. فهي سرقة مقنعة، وقديما قال الحسن البصر حينما رأى أحد الأمراء يقطع يد السارق فقال: لص السر يقطع يد لص العلن.

وفي هذا السياق أود أن أشير إلى أن أول مقاصد الإسلام محو هذه الفوارق ويقرر: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).. وغني عن البيان والشرح أن هناك بونا شاسعا بين الشفاعة المقبولة في الدين والتي يحث عليها الإسلام والشفاعة غير المقبولة والتي تجور على حق الغير. وقد عرّف الإمام السالمي الشفاعة؛ بأنها سعي ذي جاه إلى من يرعاه ويقدره من أجل دفع ضرر عن أحد أو تحقيق مصلحة له. واصطلاحا؛ «هي السؤال في التجاوز عن الذنوب من الذي وقعت الجناية في حقه».

وفي تعريف آخر؛ درجة يمنحها الله لمن يشاء من عباده يوم القيامة، فيأذن له أن يطلب لغيره غفران ذنب أو رفع درجة أو تعجيل دخول الجنة، وهي للنبيين وقد تكون لغيرهم كالشهداء ولكن الشفاعة العامة هي للرسول وحده. وعرفها شيخنا الخليلي بأنها: «سعي إنسان إلى ذي منصب أو طول لإنقاذ أحد من ضرر أو لتحقيق منفعة له أو مصلحة».

وقوله تعالى: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا) نعتقد أن الأمر واضح للعيان ، فأي إنسان ذي منصب أو جاه إذا تدخل لإنصاف شخص آخر ورد له حقه المقرر في وظيفة أو مال ضائع، أو أي شأن من شؤون الحياة المختلفة وله «حق» فنهض لإعادته له وبذل جهودا فلا شك أن ذلك عمل مشكور ومجهود طيب، فهذه تعد شفاعة حسنة ومطلوبة في الدين لأنها قائمة على إعادة الحقوق لأصحابها ومنحه حقه الذي يقرره القانون، أو الشريعة.

وهذا يتجلى في موقف كبار القوم والمسؤولين في البت في شكاوي الجمهور وإنصاف من يستحق الإنصاف وإعادة الحقوق لأصحابها، أما الشفاعة السيئة والمرفوضة من الدين فهي التي تعمل على تعطيل حد من حدود الله، فحينما أراد أسامة بن زيد أن يتشفع في المرأة المخزومية لإنقاذها من حد السرقة غضب الرسول غضبا شديدا. وقس على ذلك ما نعيشه في حياتنا اليومية حينما يتدخل مسؤول ما لإعطاء قريب له أو صديق وظيفة أو منصب ليس جديرا به ولا يملك مسوغات التعيين فيه إلا القفز على الأكتاف وتنحية صاحب الحق والكفاءة والجدارة.

موجز القول إن أخلاقيات الإسلام جاءت لتقر قواعد للحياة الشريفة وتعطي لكل ذي حق حقه وتنصف المظلوم من الظالم، وتقضي على صنوف الانتهازية والمحسوبية والعادات السيئة والأفكار المنكرة التي يستسيغها بعض الناس نظرا لتفشيها بين أفراد المجتمع، وتشيع روح المحبة والتعاون لنهضة المجتمع وتحقيق السلام الاجتماعي والأخوة الإنسانية.