أفكار وآراء

النظام العالمي الغربي !!

09 أغسطس 2017
09 أغسطس 2017

هيو هوايت -

ترجمة قاسم مكي -

ستريتس تايمز – سنغافورة -

كان خطاب دونالد ترامب في بولندا الشهر الماضي مطمئنا لأناس عديدين. فقد بدا، لأول مرة، على النحو الذي يفترض أن يبدو عليه رئيس الولايات المتحدة. أي رجل دولة. تخلى ترامب في خطابه هذا، وهو الخطاب الأهم عن السياسة الخارجية الأمريكية حتى الآن، عن شعار «أمريكا أولا» الذي بعث مخاوفا من العودة إلى عهد أمريكا الانعزالية في أعوام الثلاثينات من القرن الماضي. وقف الرئيس الأمريكي أمام النصب التذكاري لانتفاضة وارسو في عام 1944 ضد النازيين وطرح رؤية عريضة للولايات المتحدة كقائدة لتحالف أممي عالمي عظيم. وأكد مجددا عزم أمريكا على بذل الغالي والنفيس للمحافظة على القيم الأساسية التي أعلن عن تمسك هذا التحالف بها. جاء في خطابه «لن نتراجع أبدا» عن الدفاع عن هذه المبادئ. وهو بذلك يتنصل تماما عما ورد على لسان وزير خارجيته ريكس تيلرسون الذي أبلغ مسؤولي وزارته في وقت سابق بألا يتركوا مثل هذه القيم تقف في طريق المصالح الأمريكية. والأهم أن ترامب أكد مجددا، كما يبدو،على التزامات الولايات المتحدة تجاه أمن أوروبا بموجب البند الخامس من معاهدة الناتو. وهو ما كان قد رفضه على نحو قاطع قبل أسابيع من ذلك في بروكسل. فقد قال «نحن نقف بحزم خلف البند الخامس». كل هذا يوضح لماذا أن أناسا كثيرين رحبوا بهذا الحديث من أول وهلة باعتباره مؤشرا للعودة إلى ذلك النوع من السياسة الخارجية الأرثوذكسية التي يبدو أن ترامب حتى ذلك الوقت كان متلهفا على التخلي عنها. ولكن التمعن في الخطاب أقل مدعاة للاطمئنان.

فهناك عدم وضوح حقيقي إزاء الأشياء التي يلزم ترامب أمريكا بأدائها على المسرح العالمي وشكوك حول مدى جدية ذلك الإلزام. لنبدأ بالطريقة المميزة التي عرف بها ترامب المهمة العالمية لأمريكا. لقد كانت مختلفة جدا عن أي شيء شهدناه في الـ25 عاما السابقة. فمنذ نهاية تنافس القوتين العظميين مع انتهاء الحرب الباردة كان تعريف الزعماء الأمريكيين لهذه المهمة واسعا وشاملا (غير إقصائي.) لقد روجوا لرؤية نظام عالمي موحد بقيم وطموحات مشتركة تحت قيادة الولايات المتحدة. وهو نظام مفتوح لأي إقليم أو بلد أو شعب يرغب في أن يكون جزءا منه. أما مهمة أمريكا فقد كانت إقناع أكبر عدد من الشعوب والمناطق للانضمام إليه. حتى الحرب على الإرهاب هدفت في النهاية إلى ضم مناطق مثل الشرق الأوسط إلى هذا النظام العالمي الموحد الذي تقوده الولايات المتحدة. لكن رؤية ترامب في وارسو كانت أضيق كثيرا وأشد إعتاما وأكثر إقصاء. لقد تحدث عن «الغرب» الذي عرفه طوال خطابه بطريقة محصورة. فهو في نظره بلدان أوروبا وأمريكا. ووصف هذه البلدان بأنها أعظم جماعة. يقول «لا شبيه لجماعة مثل جماعة بلداننا. فنحن نكتب السيمفونيات. ونحن نبحث عن الابتكار. ونحن نحتفي بأبطالنا في الأزمنة القديمة ونحتضن تقاليدنا وعاداتنا الخالدة ونسعى دائما لاستكشاف واكتشاف تخوم جديدة تماما». وفي نظره، تواجه هذه البلدان الغربية مهددات كارثية «لأمننا وطريقة حياتنا. فأنتم ترون ما يحدث هناك. إنهم مصادر تهديد. سنواجههم. سننتصر. ولكنهم مصادر تهديد». وأضاف ترامب في خطابه» السؤال الأساسي في زمننا هذا هو هل لدى الغرب إرادة البقاء. هل لدينا الثقة في قيمنا للدفاع عنها مهما كلف ذلك؟» وهكذا فإن الدور العالمي الذي ألزم ترامب أمريكا القيام به في وارسو كان الدفاع عن «فكرة » ضيقة وإقصائية وكارهة للأجانب عن «الغرب». ويمكن القول إنها فكرة ترتكز على التفرقة تجاه أعداء يزعم أنهم يحيطون به. ماهي هذه المهددات؟ واضح أنها تشمل الإرهاب. ولكنها تذهب إلى أبعد من ذلك كثيرا.

لقد تحدث ترامب بطريقة مبهمة عن مهددات «من الجنوب والشرق» وأيضا من داخل مجتمعات الغرب نفسه. والانطباع الذي عكسه خطابه هو أن كل من لا يشاطره رؤيته عن قيم الغرب عدو لأمريكا. كل هذا يخلف أسئلة مقلقة من أوضحها كيف تتموضع آسيا داخل رؤية ترامب للعالم؟ لقد عرَّف ترامب الدور العالمي لأمريكا بأنه الدفاع عن الثقافة والحضارة والقيم التي زعم أنها مقتصرة على أوروبا وأمريكا ضد كل التحديات القادمة من المناطق والحضارات ومصفوفات القيم الأخرى. هل هذه الصورة متوافقة مع طبيعة الدور الذي ظلت الولايات المتحدة تلعبه في آسيا حتى الآن؟ هل هو متوافق مع الدور الإقليمي الأمريكي البناء والمرسخ للاستقرار في المستقبل؟ من الصعب أن نرى كيف سيكون ذلك كذلك. ثمة سؤال أوسع نطاقا هو: هل يجب أخذ خطاب ترامب في وارسو مأخذ الجد؟ فكما قال هو نفسه في وارسو «الكلام سهل ولكن الأفعال هي الأهم».

فالقول إن الولايات المتحدة تقف خلف البند الخامس شيء ولكن إلزام الولايات المتحدة حقا بالتكاليف الضخمة ومخاطر اندلاع حرب في أوروبا لمواجهة أي عدوان روسي في المستقبل، مثلا ضد دول البلطيق، شيء آخر تماما. لا يوحي أي شيء قاله ترامب في وارسو أو أي مكان آخر بأنه قد بدأ يفكر في الخيارات الاستراتيجية الحقيقية التي على أمريكا مواجهتها في سياق تعريفها لدورها العالمي في عصر يفرض حقا تحديات للقوة والقيادة الأمريكية. ربما من الأفضل أن ننظر إلى خطاب وارسو ببساطة كامتداد لذلك النوع من الجدل المحلي الذي حقق له الفوز بالبيت الأبيض في العام الماضي. فقد ضم خطابه كل العناصر التي وردت في إحدى أشهر خطبه في أثناء الحملة الانتخابية الرئاسية الأخيرة. لقد سعى لاستثمار مخاوف مستمعيه باستحضار إحساس ضيق بالهوية المشتركة التي يهددها أعداء محددون بطريقة مبهمة. ووعد بإيجاد حلول جريئة لن تجد طريقها إلى التنفيذ الفعلي. ربما علينا ألا ندهش من أن ترامب ومستشاريه كانوا يؤمنون بأن نمطا من السياسة نجح معه في الداخل سينجح في الخارج أيضا. ولكن يجب أن ندهش من أن أناسا عديدين ممن ينبغي أن يكونوا أفضل علما ومعرفة اعتقدوا خطأ أن هذه السياسة تعد نوعا من الحنكة السياسية.

• الكاتب أستاذ الدراسات الاستراتيجية بالجامعة الوطنية الأسترالية في كانبيرا