1054752
1054752
المنوعات

نص :الجثة في إفادتها الأخيرة قبل التحلل

09 يوليو 2017
09 يوليو 2017

أحمد الرحبي -

كل ما أعيه في رأسي الذي غدا داخله مساحة بيضاء بلا ذاكرة، أني ملقى في هذا المكان الجبلي الموحش منذ وقت طويل، في وضع مغشي فيه على وجهي، أطوي تحتي أحد ذراعي فتلتصق أصابعها ببطني، وسط إحساس برطوبة لزجة استشعرها من المؤكد أنها تغمر يدي، مصدرها منطقة البطن.في حالتي هذه أستطيع القول: انه بات يكتنفني شعور طاغ نوراني باللحظة، يتعدى في قوته حواس الجسد، مصدر من الإحساس والشعور الهائل كأنه كان متوارياً في أعماقي، انبجس فجأة يبقى أن هذا الإحساس والشعور بالأشياء الطاغي ليس له علاقة إطلاقاً بجسدي ولا بالحيز المادي الذي يشكله، وكأن هذا الإحساس والشعور أعيشهما بمعزل عن الجسد وبعيداً بمسافة كبيرة فوق فيزيائية عنه، بينما هو يتكوم في مكانه في حالة من الرثاثة تدعو إلى الشفقة. من جانبي لم تعد تربطني بما حولي أية علاقة: لا شعور ولا إحساس من أي نوع كان، وبدوري أصبحت خلواً من الاستعداد للاستجابة والتأثر سواء مصحوبة بردود أفعال إرادية أو بدونها هذه الاستجابة أو التأثر تحت أي ظرف كان، إنها حالة من الانسلاخ غريبة الأطوار أعيشها لم أعهدها من قبل، قائمة على مرتكز حيادي صرف ناحية الأشياء وطبيعتها الملموسة والمعاشة ضمن منظومة القوانين الفيزيائية التي تخضع لها في العادة العناصر في الطبيعة.أتوقع إنه ليس هناك من دور بات يذكر لي بعد الآن سوى أنني أظل قابعا هنا في هذه البقعة المهجورة كمرافق لهذا الجسد الذي اكتشف في كل ساعة أنه في سبيله إلى العفن والتحلل بعد أن أصبح يشكل بأجزائه مرتعاً لأنواع كثيرة من الكائنات والحشرات التي راحت تقبل عليه في مجاميع و أعداد كبيرة.

وبعد أن استمرت منذ نهاية اليوم الأول تخرج منه رائحة قوية لا تطاق. ولا حاجة إلى استخدام الشعور النوراني الذي بت أتمتع به للتوصل إلى استنتاج من مثل أن هذه الرائحة هي في حقيقتها دعوة مفتوحة لبدء أوان الوليمة على هذا الجسد ذاته. وطالما أني لست طرفاً في هذه الوليمة سواء من جانب المضيف أو من جانب المدعوين فإن متابعتي للمراحل التي تمضي عليها من المؤكد أنها تمنحني متعة المشاهدة عن كثب لهذا الكرم والحفاوة. أشبه بوضع الجار الفضولي غير المدعو، فكم هم نهمون وشرهون هؤلاء الضيوف، وقد حرص المضيف أن يبذل لهم أقصى ما بحوزته، يتمثل ذلك في جسد كبير الجرم يزخر بأرطال وافرة من اللحم والشحم الذي يمتلئ بهما بطنه الكبير في سمنة شديدة.بعد استغراق ليس بطويل في متابعة هذه المأدبة المفتوحة أجد من الضروري القول بصدق انه قد بدأ يداخلني السأم والقرف، طالما أن الافتراس والانتهاش الممارس على هذا الجسد التعيس ما فتئ يمضي على وتيرة واحدة، حيث يصعد الحماسة لها في نغم ونبرة سمجة سخيفة أصوات طنين الذباب والحشرات الطنانة التي أخذت تتدافع بالمئات في جسارة لتلتهم نصيبها من المائدة المفتوحة وسط هذا المكان المهجور.