أفكار وآراء

شكوك دولية في عصر «أمريكا أولا»

08 يوليو 2017
08 يوليو 2017

تيرنس مولن - ترجمة قاسم مكي -

مجلس العلاقات الخارجية -

تهدد الأحداثُ التي وقعت في العام الماضي، وأهمها استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانتخاب الرئيس دونالد ترامب، النظامَ الليبرالي المفتوح وتبذر بذور الشك في مستقبل التعاون الدولي. للنظر في أفضل طريقة لمعالجة هذه الأزمة في مجال التعاون الدولي، احتشد 42 موفودا من 23 بلدا للمشاركة في المؤتمر السنوي السادس لمجلس المجالس بواشنطن في شهر مايو الماضي. يتشكل مجلس المجالس من 29 معهد سياسات رئيسيا وهدفه تسهيل إجراء نقاش صريح، وبِنَاءِ إجماعٍ وسط قادة الرأي ذوي التأثير من البلدان المتقدمة والصاعدة على السواء. خصص المؤتمر جلسات فردية لمناقشة تحديات إعادة بناء الدعم المحلي للتجارة الدولية ووضع قواعد متعددة الأطراف في الفضاء السيبراني (عالم شبكات الحواسيب والإنترنت) والرد على الطموحات النووية لكوريا الشمالية ومواءمة مؤسسات الاتحاد الأوروبي مع الحقائق السياسية الجديدة والتلطيف من حدة الاضطرابات في الشرق الأوسط. خرج المؤتمر بفكرتين رئيسيتين. فأولا، قلل المشاركون من أثر صعود القومية والشعبوية مؤخرا وعبروا عن يقينهم بأن الشعور المعادي للعولمة والمهددات الحمائية ليست أكثر من انحراف مؤقت عن التكامل العالمي المتنامي. ثانيا، بصرف النظر عن هذا التفاؤل، اتفق المشاركون على أن تبرُؤَ إدارة ترامب من المؤسسات الدولية وارتيابها من الحوكمة العالمية سيجعلان التعاون الدولي أكثر تعقيدا في هذا العام والأعوام التي تليه. فسياسة ترامب «أمريكا أولا» تتنازل عن القيادة الدولية للولايات المتحدة وتكرس الأحادية الأمريكية في حين يستلزم العالم المعولم عملا منسَّقا ومستداما للتلطيف من التحديات التي تواجهه من شاكلة التغير المناخي والإرهاب والصراع على ساحة الإنترنت. وهي تحديات يمكنها أن تتسلق أي جدار حدودي مهما كان ارتفاعه. لقد أشار عدة مشاركين إلى انتخاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المناصر للاتحاد الأوروبي مؤخرا وكذلك الانتكاسات الانتخابية الأخرى للأحزاب اليمينية المتطرفة المعادية للاتحاد كدليل على بلوغ المد الشعبوي الذروة (التي يعقبها انحساره). ولكن الساسة المعادين لمبادئ مؤسسة السياسة التقليدية حققوا مكاسب في العديد من البرلمانات الوطنية وتأثيرهم اليوم أقوى منه قبل عقد مضى في بلدان عديدة. وإقرارا منهم بالحاجة إلى معالجة الإحباطات الاجتماعية والسياسية التي تغذي الحركات الشعبوية، حث المشاركون في المؤتمر قادة البلدان على أن يكونوا أكثر صدقا ووضوحا تجاه مخاطر تحرير التجارة وليس فقط تجاه منافعها وتبني سياسات داخلية خاصة بكل بلد على حدة لإيجاد اقتصادات أكثر مرونة وازدهارا ومساواة. وفيما يتعلق بمستقبل الاتحاد الأوروبي، أوصى المشاركون بإيلاء الأولوية للإصلاحات التي تحسِّن أمن ومعيشة مواطني بلدانه وفي ذات الوقت أقروا بأن الخلاف حول وجهة ووتيرة التكامل سيستمر. وبخلاف تقلب السياسة الداخلية، تؤدي التوترات الجيوسياسية المتصاعدة وانعدام وضوح أهداف ونوايا الولايات المتحدة إلى تعقيد التنسيق الجماعي (متعدد الأطراف) للسياسات. وتشغل الصين وإيران وروسيا، من بين بلدان أخرى، الفراغ الإستراتيجي الذي (فتحت قفلَه) أولا إدارة أوباما ثم جعلت إدارة ترامب الآن (بابه مشرعا على مصراعيه). لقد أبانت روسيا عن سلوكها العدواني -من وجهة النظر الأمريكية- في أوكرانيا وسوريا. كما أحدقت النزاعات بالشرق الأوسط في العراق وسوريا وسواها واستعرت حروب الوكالة الطائفية حول المنطقة. وفي آسيا، لا يزال نزع التسلح النووي في شبه الجزيرة الكورية في أعلى قائمة أجندة العالم المتعلقة بحظر الانتشار النووي. ولكن سوء ترتيب الأولويات والارتياب الجيواستراتيجي وسط القوى الرئيسية، خصوصا الصين والولايات المتحدة، يجعلان الحل المستدام مراوغا. وفي الأثناء يشتد اقتحام التنافس الجيوسياسي للفضاء السيبراني. وعلى الرغم من أن شبكة الإنترنت صارت شيئا لا غنى عنه للبلايين إلا أن المواقف المتصادمة حول أمنها وحوكمتها منعت من إرساء معايير عالمية لسلوك الدول.

وسيرتكز التعاون الدولي حول هذا الموضوع والقضايا الأخرى على رغبة القوى الكبرى في التوفيق بين أهدافها الجيوسياسية التي كثيرا ما تكون متباعدة. لكن ما يُعقِّد هذه المهمة افتقاد عدد متزايد من قادة العالم للثقة في قيادة الولايات المتحدة والشراكة معها. وكأمثلة على ذلك يمكن لهؤلاء القادة الآن الإشارة إلى انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقيات الدولية كاتفاق باريس (وهو ترتيب طوعي ومرِن توقع العديد أن يكون نموذجا للتعاون متعدد الأطراف) وكذلك إعادة تأكيد الرئيس ترامب (على مضض) التزام الولايات المتحدة بالتحالفات القائمة. فكلا هذين المثلين سيلحقان الضرر بمكانة الولايات المتحدة في العالم ويزيدان من صعوبة التعاون مع الحلفاء والشركاء. وعلى الرغم من أن المشاركين في المؤتمر رصدوا ابتعادا منذ فترة عن النظام الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة إلا أنهم لم يكونوا واثقين من النظام البديل الذي قد يحل محله. يشعر البعض بالقلق من أن تنازل الولايات المتحدة عن دورها قد يعزز الاتجاه الدولي الحالي ويقود الآخرين إلى التخلي عن التزاماتهم الدولية. لقد شهدنا قبل الآن قرار المملكة المتحدة بالخروج من الاتحاد الأوروبي وانسحاب فنزويلا من منظمة الدول الأمريكية وحث الاتحاد الإفريقي أعضاءه على الانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية.

وإذا نظرنا إلى الجانب المشرق في المؤتمر نجد أن بعض المشاركين أشاروا إلى أن التحول الدرامي في اتجاه السياسة الخارجية للولايات المتحدة قد يكون بشيرا بإصلاح عالمي كانت تطالب به بعض البلدان. وذلك ما سيمهد الطريق لتصحيح معيار الحوكمة الدولية الذي يعكس أخيرا الوزن المتنامي لبلدان الاقتصادات الصاعدة مثل الصين والهند والبرازيل. هل ستتيح سياسة (أمريكا أولا) التي يتبعها ترامب الفرصة للبلدان الصاعدة والنامية كي تسارع إلى شغل دور القيادة الذي تخلت عنه الولايات المتحدة؟ لقد شكك بعض المشاركين في أن تكون لهؤلاء اللاعبين الصاعدين القدرة أو الرغبة في الحلول محل الولايات المتحدة. وفي نهاية المطاف يظل من الصعب تصوُّر اتفاق دولي حول قضايا هامة بدءا من قواعد التجارة وإلى معايير فضاء الإنترنت بدون دور قيادي للولايات المتحدة. كما لم يكن المشاركون في المؤتمر متفائلين حول مستقبل السلام والاستقرار في شمال شرق آسيا والشرق الأوسط فيما تقف الولايات المتحدة موقف المتفرج.