أفكار وآراء

ماكرون .. وسياسة فرنسا الخارجية

28 يونيو 2017
28 يونيو 2017

عبد العزيز محمود -

بعد فوزه بالأغلبية في الانتخابات الرئاسية والتشريعية، يركز الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في هذه المرحلة على إعادة صياغة السياسة الخارجية لبلاده في إطار يوازن بين لغة القيم ولغة المصالح، ويقلص التدخل العسكري في النزاعات الخارجية، ويضع الأمن القومي في قلب الدبلوماسية.

حين تولى منصبه في 14 مايو الماضي كانت كل المؤشرات تقول إن ماكرون المصرفي ووزير الاقتصاد السابق والذي لا يتمتع بخبرة في مجال السياسة الدولية سوف يواصل نهج الرئيسين السابقين نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند مع إجراء تعديلات.

لكن الرئيس الشاب أحاط نفسه بفريق من الدبلوماسيين السابقين والحاليين برئاسة السفير فيليب إتيان كبير مستشاريه الدبلوماسيين، بالإضافة إلى جان ايف لودريان وزير الدفاع في عهد هولاند لخمس سنوات متتالية، ووزير الخارجية في حكومة إدوارد فيليب الأولى.

وطبقا لدستور الجمهورية الخامسة التي أرساها الجنرال ديجول في عام ١٩٥٨ يتمتع الرئيس الفرنسي بصلاحيات واسعة في صنع السياسات الخارجية والدفاعية، بالإضافة إلى كونه القائد الأعلى للقوات المسلحة وحامل مفتاح السلاح النووي.

وينقسم الفريق الدبلوماسي لماكرون بين تيارين، الأول يحبذ التعامل مع الأنظمة القوية القادرة على ضمان الاستقرار واحتواء كل ما يشكل تهديدا لأوروبا، والثاني يرى أن رسالة فرنسا هي دعم القيم الليبرالية بمعناها الغربي.

والمتوقع أن يشكل هذان التياران سياسة فرنسا الخارجية لخمس سنوات قادمة، بعد أن كانت تركز في عهد ساركوزي على المصالح الايديولوجية، وتتبنى في عهد هولاند التدخل العسكري في صراعات ليبيا وإفريقيا الوسطى ومالي وسوريا والعراق، فإنها الآن تدخل مرحلة جديدة.

هذه المرحلة سوف تتأرجح فيها السياسة الخارجية لفرنسا بين الواقعية السياسية وقيم الثورة الفرنسية، مما يعني أن ساكن الإليزيه الجديد قد يقوم بالشيء وعكسه، أو يمارس التوازن بين نقيضين، وهي نفس اللعبة التي يمارسها داخليا، حيث يميل لليسار اجتماعيا، ولليمين اقتصاديا.

وبهذا النهج يحاول ماكرون تحقيق الموائمة بين الواقعية والمثالية، فهو يدعم أنظمة قوية رغم التحفظ على ممارساتها، بينما يهاجم أنظمة أخرى مشابهة ويدعم معارضيها، ورغم ما قد يشكله ذلك من تناقض، لكنها سياسة الدهاء والطموح التي تجمع بين القيم والمصالح.

والهدف أن يكون لفرنسا دور أكبر على صعيد الساحة الدولية، وأن تستعيد مناطق نفوذا السابقة، من خلال الانسجام مع أولويات السياسة الخارجية الأمريكية في مكافحة الإرهاب، وتطوير العلاقات مع روسيا، عبر التلويح بدمجها أوروبيا والتعامل معها كشريك وليس كمصدر للتهديد.

وحتى يتحقق ذلك أصبحت مكافحة الإرهاب أولوية مطلقة، خاصة بعد أن تسببت سياسات هولاند ومن قبله ساركوزي في وضع فرنسا على خط المواجهة مع التنظيمات الإرهابية، نتيجة شن هجمات على معسكرات داعش في ليبيا ومالي وسوريا والعراق، وأخيرا في الموصل والرقة.

ولا شك أن التدخل فرنسا عسكريا في نزاعات الشرق الأوسط هو ما عرضها لهجمات دموية، تسببت في مقتل ألف شخص داخل الأراضي الفرنسية خلال العامين والنصف الماضيين، من بينهم 130 شخصا قتلوا في باريس ما حولها في نوفمبر ٢٠١٥.

هذه الهجمات أنتجت سياسات أمنية أكثر صرامة، ووسعت مناخ الاشتباه ضد اللاجئين القادمين من الشرق الأوسط، وتحديدا من سوريا والعراق، وأعطت أجهزة الأمن والاستخبارات صلاحيات أوسع لملاحقة الحركات الجهادية والمتطرفة والشبكات الإرهابية.

وفي مواجهة هذا الوضع قرر ماكرون تقليص التدخل العسكري الفرنسي خارجيا، بتطوير قوي بالوكالة تعمل بمفردها في مناطق النزاع، أو بالتعاون مع القوات الفرنسية، وهذا ما حدث في غرب إفريقيا حيث شكلت فرنسا قوة إقليمية لمكافحة الإرهاب، تعمل الى جانب القوات الفرنسية (٤ آلاف جندي) المتواجدة هناك.

من جهة أخرى تسبب وضع الأمن في قلب الدبلوماسية، في تصاعد الانتقادات داخل فرنسا، بسبب ما اعتبره البعض تبعية لتوجهات السياسة الخارجية الأمريكية، بالتركيز على محور الأمن، والذي لا ينبغي أن يمثل رغم أهميته المحور الوحيد للسياسة الخارجية.

لكن هذه الانتقادات تجاهلت حقيقة واضحة، وهي أن ماكرون يختلف كثيرا عن ترامب، بل ويختلف معه حول كثير من القضايا من بينها التجارة وتغير المناخ، وربما يتحدى النفوذ الأمريكي، إذا تعارض مع المصالح الفرنسية، لكن ذلك لا يمنعه من التنسيق معه لهزيمة داعش في العراق وسوريا، وإدارة الخلافات بالوسائل الدبلوماسية.

من جهة أخرى يحاول الرئيس الفرنسي إقامة علاقات أكثر دفئا مع روسيا، من خلال حل القضايا العالقة بالحوار، والاتفاق على أرضية مشتركة لمكافحة الإرهاب، وهذا ما جسدته القمة الفرنسية الروسية التي عقدت في باريس في مايو الماضي، لتقريب وجهات النظر بشأن سوريا و أوكرانيا.

ويحاول ماكرون دمج روسيا أوروبيا، بشرط إبدائها مواقف أكثر مرونة، تجاه القضايا محل الخلاف، وتسهيل الحوار بينها وبين كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وهو يحاول بتحقيق التوازن في العلاقة مع موسكو، أن يعوض التعقيدات في العلاقة مع واشنطن.

على صعيد آخر تتحرك فرنسا بالتعاون مع ألمانيا لدعم التكامل الأوروبي، بما يحقق المزيد من الرفاه الاقتصادي والاجتماعي، وتقديم الحماية الاجتماعية للطبقات المتوسطة والأدنى، وإقامة علاقة براجماتية مع بريطانيا فور خروجها من الاتحاد الأوروبي.

وخلال قمة المجلس الأوروبي التي عقدت في بروكسل يوم 23 يونيو الجاري شدد الرئيس الفرنسي على أهمية التوافق الأوروبي حول قضايا الهجرة ومكافحة الإرهاب والسياسة الصناعية والتجارية، مؤكدا حاجة الأوروبيين للشعور بمزيد من الأمان تجاه الإرهاب وتغير المناخ والمنافسة التجارية غير العادلة.

ورغم تركيزه على مكافحة المنظمات الإرهابية والشبكات الإجرامية في إطار جهد أوروبي جماعي، إلا أن ماكرون يدعو لفتح أبواب الهجرة واللجوء، في إطار معايير أمنية، مع تحقيق التوازن في قوانين الهجرة، ومراقبة الحدود بشكل صارم.

وفي هذا الاتجاه يعطي أولوية قصوى لتقويض الشبكات الإرهابية، قبل معالجة أزمات الشرق الأوسط، خاصة في سوريا وليبيا والعراق، بإجراء مفاوضات متعددة الأطراف في المستقبل، تفضي إلى إقامة نظم تستوعب الجميع، بهدف القضاء على ظاهرة الدول الفاشلة، التي ظهرت في العراق وليبيا نتيجة التدخل العسكري الغربي، وتسببت في تفاقم مشكلة التنظيمات الإرهابية. ويعتقد الرئيس الفرنسي أن التدخل العسكري ربما يصبح ضرورة، بشرط أن يندرج في إطار البحث عن حل سياسي، حتى لا يتسبب في ظهور مزيد من الدول الفاشلة، لذا فإنه يدعو إلى حل سياسي للازمة السورية ومتابعة دعم لبنان والتقارب مع إيران بشرط التزامها بالاتفاق النووي ومساهمتها في دعم الاستقرار الإقليمي ومكافحة الإرهاب.

وتخلى ماكرون عن مطلب فرنسي سابق بتغيير النظام في دمشق، كشرط أساسي لأي تسوية سياسية، تحت إشراف الأمم المتحدة، محاولا التركيز على تحسين الوضع الإنساني وإقناع موسكو بتقديم تنازلات تستهدف تشجيع مختلف الأطراف على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، مع التلويح بالتدخل عسكريا في حال استخدام الأسلحة الكيميائية مجددا.

وفيما يتعلق بالنزاع الإسرائيلي الفلسطيني يؤيد الرئيس الفرنسي حل الدولتين دون الاعتراف من جانب واحد بدولة فلسطين حتى لا يهدد ذلك الوساطة الفرنسية، أو يلحق ضررا بالعلاقة مع إسرائيل، التي تلتزم فرنسا بحماية أمنها، مع التحفظ على سياستها الاستيطانية في الأراضي المحتلة.

وفي ليبيا يطرح خطة للسلام بين الفصائل المتصارعة، بهدف دمجها في جيش وطني، يتفرغ لمحاربة التنظيمات الإرهابية في الأراضي الليبية، تمهيدا لحوار سياسي في وقت لاحق، مع التركيز على أزمة اللاجئين وشبكات الاتجار في البشر والمخدرات والسلاح.

وفيما يتعلق بتركيا يرى ماكرون أن الشروط المطلوبة لانضمامها للاتحاد الأوروبي لم يتم الوفاء بها بشكل ملحوظ، خاصة في ظل الإجراءات التي اتخذت ضد المعارضة وأنصار فتح الله جولنز والتي تعتبرها فرنسا متعارضة مع القيم الأوروبية،

وبالنسبة للوضع في شمال إفريقيا يسعى ماكرون لاستعادة الدور الفرنسي، عبر دعم العلاقات مع المغرب،مشددا على حل النزاع في الصحراء المغربية في إطار قرارات الأمم المتحدة. وفي الجزائر وجه انتقادات لتاريخ فرنسا الاستعماري، واصفا إياه بأنه جريمة تستوجب الاعتذار، وهو ما عرضه لانتقادات اليمين الفرنسي.

وعلى صعيد العلاقة مع دول الخليج يسعى ماكرون لتطوير التعاون التجاري والتقني وحل الأزمة الراهنة بالحوار وتنشيط مبيعات السلاح الفرنسي، والوقوف على مسافة واحدة من كل الأطراف حفاظا على المصالح الفرنسية في إيران ودول الخليج.

وهكذا يتضح أن سياسة فرنسا الخارجية في المرحلة المقبلة، سوف تشهد درجة ما من الاستمرارية مع تعديلات، كما ستشهد تأرجحا بين لغة المصالح ولغة القيم، فيما يشبه ممارسة للشيء ونقيضه، وهي اللعبة التي يجيدها ماكرون.