روضة الصائم

علم المنطق: منابع منطق الإسلام

21 يونيو 2017
21 يونيو 2017

علي بن سالم الرواحي -

إن الدين الإسلامي دين فكر وعلم وعمل، متفتح على جميع العلوم البشرية المفيدة - ومن ذلك علم المنطق - جاء لعمارة الأرض وفق منهج سماوي مستقيم، يضمن السعادة للصالحين في الدارين.

تكلمنا فيما سبق عن المنطق القياسي، وعرفنا أن القياس لبّ المنطق وجوهره، وما بقي منه فهو كالقشر، وتكلمنا كذلك عن منطق الإسلام الذي تضمنته نصوصه الشرعية، وسار عليه المسلمون من منطلقات ومسلمات إيمانية راسخة، ثم راحوا يطبقونه في علوم الدين، من عقيدة وأصول فقه، وتفسير وعرفنا أن المنطق يستعمل في الكشف عن مجهول بالاستدلال العقلي، وذلك تحت ضوابط حكمية متينة، ومع الأدلة العقلية يعتمد الاسلام من باب أولى على الأدلة النقلية المأخوذة من الكتاب والسنة النبوية، وعنصر التحسين والتقبيح فيه النقل لا العقل، لأن النقل معصوم ومكانته فوق العقل الذي يخطأ، إذاً المسلمون وفي تشكيلهم للمنطق - والذي يجوز لنا أن نسميه المنطق الإسلامي -، وظّفوا المنطق القياسي لخدمة أغراضهم الدينية وبما يتماشى مع عقيدتهم الناصعة، لكن نجد منهم من يشطح برأيه بعيداً عن الحق جراء اعتقادات منحرفة، ومنطلقات متقلقلة وتعصبات مذهبية.

إن ما استعمل فيه المسلمون للدفاع عن عقيدتهم بالفكر والمنطق هو علم الكلام، والذي يعني بمناقشة آراء مختلف الديانات كاليهودية والنصرانية، ومختلف المذاهب الإسلامية، في موضوع العقيدة، لتقرير العقيدة الإسلامية الصحيحة، برد المتشابهات التي عليها مدار الخلافات المذهبية إلى المحكمات وذلك دون تعطيل للعقل أو إقحامه في شيء تخبطاً فوق قدراته، بل على كل مصدر معرفي دوره المناسب، قال الله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، (يعفو...) أي يترك كثيرا مما غيروه ولا فائدة في ذكره، وهذه الآية ذكرت مهمة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو ليس مقلداً للشرائع السابقة بل أتى بشرع جديد، وبنور ينقذ الأنام من ظلام الضلال، وشرعه الناسخ للشرائع السابقة وحاكم عليها. والمعول عليه في العقيدة الإسلامية هو النصوص النقلية المتواترة ثبوتاً القطعية دلالةً، لذا لا يصلح في تفسير الشهادتين الأدلة العقلية و الطبعية، بالرغم من ثبات حجة العقل على وجود الله تعالى، وعلى بعض صفاته، لكن أمر الله تعالى الراسخين في العلم برد المتشابهات إلى المحكمات، وهذا فيه استخدام للعقل والعلم، وطلباً للأجر، بينما القياس غير جائز في العقيدة لأنها من الثوابت اليقينية التي يجب أن يتفق عليها الجميع، أما القياس فيولد الاختلاف.

ومن منابع المنطق الإسلامي الكتاب والسنة، والإجماع، والقياس الفقهي (أو الأصولي) والاستدلال، وقد سار إلى ذلك العلماء المسلمون في اجتهاداتهم في استنباط الأحكام الشرعية، للحوادث الطارئة، وهذا ما سمح به الإسلام مع الاعتماد والارتكاز على النصوص الشرعية أولاً، وبالمرونة التي اتسم بها الدين الإسلامي في تعاملاته مع الوقائع، مما جعله صالحاً لكل زمان ومكان. أما الإجماع فهو متفق عليه بين المسلمين، وحكمه القطع إن كان قولياً يقول به كل العلماء، أو الظن إن كان سكوتياً يقوله به بعض وبعض يسكت، قال الرسول صلى الله عله وسلم: «إِنَّ أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمُ اخْتِلَافًا فَعَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ».

أما القياس فقد اتفق عليه جمهور المسلمين على أنه حجة لأن الشارع الكريم قاس، واختلفوا في الاستدلال الذي يحتوي على استصحاب حال الأصل والاستقراء، والاستحسان، والمصالح المرسلة، ومذهب الصحابي، وشرع من قبلنا، والإلهام، والعرف. ويعني الاستصحاب إبقاء الشيء على حكمه السابق ما لم يغيره مغير شرعي، والدليل عليه حديث ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ فَلاَ يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَشُمَّ رِيحًا» والأصل في الأشياء قبل ورود الشرع فيها، الإباحة عند المحققين ودليله قوله سبحانه: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) ويعني الاستقراء، تتبع أفراد الجنس - وهي الجزيئات - في حكم شرعي - وهو الكلي- ودليل الشرعي حديث مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الْغِيلَةِ، حَتَّى ذَكَرْتُ أَنَّ الرُّومَ وَفَارِسَ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ، فَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ»، فإنه صلى الله عليه وسلم استقرأ وتتبع الغيلة لدى الروم وفارس في عدم ضره عليهم، فعمم حكمها على الناس، والغيلة هي وطء المرضعة. ويعني الاستحسان، الدليل الواضح الذي ينقدح في ذهن المجتهد تقصر عن ذكره عبارتُه كقول الشافعي في المؤذن: (وحسن أن يضع أصبعيه في أذنيه) وتعني المصالح المرسلة الوصف المناسب المطلق عن الاعتبار والإلغاء الشرعيين، ترتبت عليه مصلحة العباد بجلب منفعة أو درء مفسدة عنهم، كجمع الصحابة للمصحف العثماني لئلا يختلف الناس في قرآنهم، وهذا مأخوذ من أن الأحكام الشرعية بنيت على مصالح العباد.

واستدلوا بمذهب الصحابي بأن قوله إما يكون سمعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما أن يكون عن اجتهاده فالأول ظاهر والثاني فاجتهاده قوي جداً لمعاصرته النبي صلى الله عليه وسلم ولمعاصرته تنزلات الوحي أما شرع ما قبلنا من الأديان كاليهود والنصارى والصابئة، فقد استدلوا عليه فيما لم يرد الشرع فيه، بقوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) ويعني الإلهام الإلهي ما يلقيه الله من معارف في قلب وليه أو صفيّه فينشرح لها، والدليل عليه: (وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا)، والإلهام الإلهي مشهور بين المتصوفين.

ويعني العرف العادة المتعارف عليها بين الناس، قال تعالى:(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)(الأعراف: 199)، كمن يأخذ ماء قليلاً من الفلج فلا بأس عليه في عرف الناس، لكن الضخ منه بمضخة غير جائز في عرفهم.