أفكار وآراء

روسيا إلى أين تمضي حول العالم ؟

18 يونيو 2017
18 يونيو 2017

إميل أمين /كاتب مصري -

[email protected] -

أضحت روسيا رقما صعبا في المعادلة الدولية العقدين الأخيرين، أي مع نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، ولعل هذا التحول الذي جرت به المقادير على أراضيها يستدعي أيضا تساؤلا جوهريا إلى أين تمضي على المدى الطويل؟ يلزمنا قبل الجواب الإشارة إلى أن روسيا تتميز بنوع خاص عن الولايات المتحدة الأمريكية بتاريخ وحضارة إنسانية عريقة، عطفا على ذلك بخبرات إنسانية حول الكرة الأرضية، وهذا جميعه ولد شعورا قوميا، كان هو في واقع الأمر حائط الصد الذي منعها من الانهيار في نهاية ثمانينات القرن العشرين.

في هذا الإطار يمكننا القول إن روسيا لا يمكن أن تكون بحال من الأحوال الاتحاد السوفييتي، أو الشيوعية التي هيمنت على البلاد نحو سبعة عقود، ذلك أن روسيا هي امتداد لحقب عريقة جدا كانت القيصرية آخر صفحاتها، وأسرة القيصر رومانوف آخر شواهدها، وعليه فإن كافة المؤامرات التي حاكتها القوى الغربية لروسيا بوصفها قلب الاتحاد السوفييتي السابق، لم يقدر لها أن تفت في عضد الشعور الوطني الروسي، وقد كانت المؤسسة الدينية الروسية حاضنة وحامية للشعور الوطني، وكفلت للبلاد عدم ضياع الهوية.

والثابت أنه خيل للقائمين على الأمر في الولايات المتحدة الأمريكية بنوع خاص، وفي زمن جورج بوش الأب أن روسيا قد انتهت وأن العالم أضحى أحادي القطب، وبلغ الأمر حد إطلاق تعبير النظم العالمي الجديد، وفيه أمريكا قطبا منفردا بمقدرات العالم، ومهيمن على شؤونه، أنه زمن «السلام الأمريكي» على غرار ما عرف أيام الإمبراطورية الرومانية بالـ السلام الروماني «

لكن أحلام الأمريكيين وبعضا من الأوروبيين تحطمت على صخرة القومية الروسية، التي بدت وكأنها من القوة والمنعة إلى الحد الذي تكسرت عليها النصال الإمبريالية، دون أن تلحق الأذى بالتماسك القومي، أو بالنسيج الاجتماعي الروسي، وكأن القدر بدوره كان يعد لروسيا وللروس بطلا من نوعية الأبطال التاريخيين في وجهة نظر الروس الذين يمدون اليد طويلة لإنقاذ البلاد من وهدة الضياع، ولانتشالها من تيه صحراء العولمة التي أراد البعض لها أن تسير على دروبها الوعرة.

ظهر فلاديمير بوتين منقذا ومجددا لشباب الأمة الروسية كالنسر، وعبر نحو عقدين تقلب ما بين منصب الرئيس ومنصب رئيس الوزراء، ليصل بروسيا إلى مرحلة من الصحوة لم يكن لأحد أن يتوقعها.

نجح بوتين خلال السنوات الست الماضية في استغلال الفراغ السياسي الذي خلقه الرئيس الأمريكي باراك أوباما عبر إحجامه عن الحلول، وتفضيله مبدأ القيادة العسكرية من خلف الكواليس، وأعاد بوتين لروسيا هيبتها التاريخية من خلال إقدامه وفهمه لأبعاد الصراعات التي تجري من حول العالم جغرافيا وتاريخيا، لوجستيا وذهنيا، ولذلك باتت روسيا وعن حق رقم صعب جديد في المنطقة العربية بخاصة، وحول العالم بشكلا أعم وأشمل.

نجح بوتين بنوع متميز في إعادة العلاقات مع العالم العربي، ففي استطلاع رأي أخير أجرته وكالة رويتر تبين أن الشباب العربي يثق في بوتين بأكثر كثيرا جدا من ثقته بالرؤساء الأمريكيين الذين عاصروه، بدءا من كلينتون وبوش الابن مرورا بأوباما وصولا إلى دونالد ترامب، ولعل السبب الرئيسي في ذلك يعود إلى كون روسيا- بوتين، قد أظهرت نوعا من أنواع الولاء والوفاء للدول التي ترتبط معها بعلاقات استراتيجية بغض النظر عن رؤية البعض لسياسات هذه الدولة او تلك، وهو ما تجلى في توجهاتها ناحية سوريا، ورفضها التخلي عنها، على العكس تماما مما فعلته الولايات المتحدة مع حلفاء موثقين لها في المنطقة عبر عقود طوال، والحالة المصرية الأمريكية خير دليل علي ذلك.

ولعل روسيا أضحت رقما صعبا في المعادلة الدولية كذلك من جراء سياسات المبادأة والمبادرة التي تتخذها ضمن سياقات لعبة الشطرنج الإدراكية التي يعيشها العالم في حاضرات أيامنا، فقد عرفت وفعلت، عرفت كيف يفكر الآخرون لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية في استغلال تيارات الإسلام السياسي لاختراقها هي والصين لاحقا، وفعلت ما لم يفعله أحد، أي أنها نقلت المعركة إلى خارج أراضيها عوضا عن أي تنتظر الشر كي يلحق بها ويسبب الأذى الكبير والكثير لأبنائها.

إلى أين تمضي روسيا في المدى الطويل؟

جواب هذا السؤال يقع بين دفتي أحدث الكتب الصادرة الأيام القليلة الماضية للمفكر الفرنسي الجنسية، المصري الأصل البروفيسور، سمير أمين، مدير معهد التخطيط التابع للأمم المتحدة في داكار بالسنغال، والمفكر اليساري الكبير، والمعروف عنه أنه من أفضل العقول العربية والشرق أوسطية التي عرفت كيف تسير الآلة في الداخل الروسي عبر عقود عديدة خلت، وإلي أين تتوجه في المستقبل.

الكتاب الذي يقع في نحو مائتي صفحة، وصادر عن دار العين في القاهرة، يلفت الانتباه إلى أن تكوين ثم توسع الدولة القيصرية الروسية حتى شملت المحيط القارئ الأورو - آسيوي لا يشارك تكوين الإمبراطوريات الاستعمارية الغربية في جوهر طابعه، فقد تم بناء الامبراطوريات الغربية ـ،وتقدم الإمبراطورية البريطانية ثم الفرنسية نماذج لها في إطار تكوين النظام الرأسمالي العالمي، بحيث إن هذه الإمبراطوريات أقيمت من الأصل على أساس التباين بين مراكزها السائدة وتخومها المسود عليها.

تكشف لنا صفحات الكتاب عن وجه الصدام الحادث بين روسيا من جهة والمعسكر الغربي من ناحية ثانية، وعنده أن التباس روسيا في مواجهة المنظومة العالمية والتي هي غالبا غربية مرده أن المشروع الإمبريالي المعاصر يسير على قدمين:

قدم اقتصادية تتجلى في قبول قواعد العولمة الليبرالية وقدم سياسي تتجلى في ضرورة تخلي دول العالم عن استقلالها الوطني في مواجهة سيادة الغرب.

لكن روسيا شأنها في هذا المجال شأن العديد من الدول الأخرى، تسير في أفضل الفرضيات، على قدم واحدة، فمن جانب تسعى إلى تكريس استقلالها في مجال العلاقات الدولية، وفي الجانب الآخر لم تنعتق عن الليبرالية في إدارة اقتصادها، الأمر الذي يضع نضالها السياسي في موضع مكشوف.

هل يرسل المفكر سمير أمين تحذيرا لروسيا، سيما وأن واقع حال السياسة الدولية يقودنا إلى حتمية حدوث مواجهات بين موسكو وواشنطن تبدأ من عند الجانبين الاقتصادي والسياسي، وصولا ربما للتصادم العسكري المسلح في كثير من البقاع والأصقاع الملتهبة حول العالم. يرى البروفيسور «أمين» أن السلطة الروسية ربما قد تصورت أن الغرب مستعد أن يقبلها في ناديه، بما أنها تبنت قواعد الرأسمالية الليبرالية في إدارة اقتصادها، ولكن هذا لم يحدث، فرأت الكتلة الإمبريالية الغربية فرصتها في استغلال موارد روسيا الطبيعية، الأمر الذي يقتضي منع ترقية روسيا إلى موقع مركزي جديد، فخابت آمال موسكو.

يطرح صاحب الكتاب تساؤلا جوهريا عن المدى الذي يمكن أن تذهب إليه روسيا في قادمات الأيام، ويرى أمامه احتمالين بالنسبة لروسيا، أفضلهما هو أن تدرك السلطة السياسية وعلى رأسها بوتين، ضرورة السير على قدمين، تتخلى عن سياستها الاقتصادية الليبرالية، وتسعى إلي إعادة بناء هيكلها الاقتصادي وتنشئ نوعا من رأسمالية الدولة ذات الجد الاجتماعي التقدمي، علما بأن تحقيق مثل هذا التحول يفترض تصفية سلطة تحكم البرجوازية التابعة أو جماعات الكومبرادورية، ومع غياب اتخاذ مثل هذه القرارات الجرئية، أي في الاحتمال الثاني، فإن محاولاتها للتصرف بصورة مستقلة ستظل هشة.

ماذا تعني رؤية البروفيسور أمين المتقدمة تلك؟

بلا شك يفكر الرجل من منظور اقتصادي، فالحضور الاقتصادي الناجح في عالمنا الرأسمالي المعاصر يكفل للدول والأمم نجاح برامجها السياسية وتقدمها الاجتماعي وقوتها ومنعتها العسكرية، وعلى هذا الأساس يمكننا أن نفهم الإصرار الغربي على فرض عقوبات اقتصادية على روسيا، ومحاولة ربط هذه العقوبات بإشكاليات سياسية داخلية من نوعية شبه جزيرة القرم.

ومن ناحية مغايرة نرى روسيا ربما تتفهم الأمر بدرجة أو بأخرى، وعليه فهي تحاول تعويض التضييق عليها سياسيا وربما اقتصاديا في الداخل، عبر القفز إلى الفرص الاقتصادية، المتاحة في الخارج وفي المدى منها منطقتان، الأولى المنطقة الشرق أوسطية وحوض البحر الأبيض المتوسط، والثانية منطقة الخليج العربي. ولعله من متناقضات القدر أن المخططات الغربية أو أن شئت الدقة قل الاستراتيجيات الغربية، التي عملت على الهيمنة والسيطرة بشكل مطلق على المنطقة، انقلب الأمر عليها من خلال سنوات ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي، لينفتح المجال واسعا لعودة روسيا إلى المنطقة وبقوة، وبرباطات لا تقل عما كان قائما فى ستينات القرن العشرين.

يمكن القطع بأن المشهد العالمي في حالة سيولة غير مسبوقة، وأن ما عرفه الأمريكيون بأنه النظام العالمي الموحد قد انتهى ولم يطل به المقام لأكثر من عقدين على أحسن تقدير، وفي العالم الجديد الذي يولد بين أيادينا الآن تحتل روسيا دورا صاعدا كبيرا، وهو دور لا يرضي مثلث الرأسمالية العالمي أمريكا وأوروبا واليابان هنا أيضا يتوجب طرح السؤال التالي.

إذا كان الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب يسعى سعيا حثيثا لتغيير الأوضاع وتبديل الطباع للأحسن مع روسيا وبوتين فلماذا نجد قوى رجعية أخرى في الداخل الأمريكي تعمل على وقف سير المياه في الجداول ما بين موسكو وواشنطن؟ المؤكد أن هناك من القوى العولمية المدافعة عن فكرة السيادة الأمريكية والمعتقدين في فكرة» القرن الأمريكي» لأبعد حد ومد، ذلك الطرح الذي رسخه المحافظون الجدد في أواخر التسعينات، من لا يريدون أن تتوقف عجلة الحروب، وبالتالي يبقى المجمع الصناعي العسكري الأمريكي متقدما الصفوف في توجيه الأمريكيين والعالم من خلفهم.

السؤال قبل الانصراف...

كيف ستتعاطى روسيا مع تلك الإشكاليات في المديين القريب والمتوسط؟.