أفكار وآراء

الإصلاح الهيكلي

14 يونيو 2017
14 يونيو 2017

مصباح قطب -

[email protected] -

نسمع كثيرا تعبير الإصلاح الهيكلي أو ما يشبهه خاصة عند الحديث عن الأوضاع الاقتصادية، وإن كان استخدامه شائعا في مناقشة كافة جوانب الحياة السياسية والاجتماعية وغيرها، وكثيرًا ما كان المرء يتساءل: هل يلجأ المتحدث الذي يستخدم هذا التعبير إلى تحقيق إصلاحات فعلا وانه مهموم بذلك أم ليؤكد للحاضرين أنه يفهم أعماق الأزمة أو المشكلة أو الوضع الراهن أكثر من غيره من أولئك الذين لم يتحدثوا عن المشاكل الهيكلية أو الإصلاحات الهيكلية؟. وقد لفت التعبير انتباه كثيرين حين كان الاهتمام على أشده بالبطالة في فترات نهاية الثمانينات وأسبابها وآثارها ووقتها بدأنا نقرأ في كتب ودراسات الأساتذة الكبار المهتمين بأسواق العمل وبعض أساتذة الاقتصاد تحليلات مهمة عما يسمونه “البطالة الهيكلية”. وللحق فقد فتح المفهوم لي على المستوى الشخصي آفاقا أبعد في تناول الظاهرة ذلك أنه يقودك إلى البحث في العيوب الكامنة في الاقتصاد أو في بنية الاقتصاد كما يقال والتي تجعله غير قادر على توليد فرص عمل كافية بشكل مستمر بغض النظر عن الأزمات العارضة مثل أزمات السياحة أو الأمراض الوبائية التي تصيب الماشية أو الطيور وتسبب نقصًا في محاصيل أساسية، أو فترات الركود العالمي وانعكاساتها إلخ. ولا يخلو برنامج مع البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي من هذا التعبير بل أن إجراء إصلاحات هيكلية هو أهم ما تطالب به المؤسستان، وفي برنامج مصر الأخير مع صندوق النقد الدولي على سبيل المثال انقسم البرنامج إلى 3 محاور هي الإصلاح المالي والنقدي والإصلاح الهيكلي والإصلاحات الخاصة بدعم الحماية الاجتماعية  والمقصود بالهيكلي هنا هو الإصلاحات الخاصة بتطوير الجهاز الإداري للدولة، وتطوير التشريعات الحاكمة للنشاط الاقتصادي كله، وليس الاستثمار فقط ومنها تغيير قوانين الاستثمار والمناقصات والمزايدات والإفلاس والصلح الواقي منه والجمارك والضرائب جنبًا إلى جنب مع إصلاح سبل إدارة هاتين المؤسستين مع غيرهما من الأجهزة الحكومية وتقوية أدوات الحوكمة وزيادة الشفافية ومكافحة الفساد وهكذا، ومن ذلك يتضح للقراء ما هو المقصود بالهيكلي هنا، وخلال مناقشات بين مسؤول كبير بالمالية المصرية وبين عدد كبير من المحررين الاقتصاديين تمت منذ أيام في سهرة رمضانية كنا على موعد مع وجه آخر من وجوه ما هو هيكلي، وقد لفت المسؤول إلى أن وزارة المالية سلطت الأضواء مؤخرًا على العجز الأولى في الموازنة العامة وهو العجز الكلي مطروحًا منه فوائد الدين ليستطيع المجتمع مساءلة الحكومة الحاليّة على سياساتها؛ لأن العجز الكلي والذي يشمل عبء الدين المتراكم هو نتاج سنوات طويلة سابقة لكن العجز الأولى يعكس عمل الحكومة الحاليّة دون التقليل من أهمية مؤشر العجز الكلي والعجز النقدي والذي هو العجز الكلي مطروحًا منه صافي الأصول المالية للحكومة، وأضاف: إن أرقام العجز بأنواعه معروضة على البرلمان والمجتمع جميعها بشفافية، وقد قال ذلك لأن البعض تصور أن الحديث الحكومي عن العجز الأولي هدفه إخفاء حقيقة العجز الكلي وهو قول نابع أما عن جهل أو حسن نية أو رغبة في التشويش على الرأي العام بأي كلام والسلام كما نقول في مصر، وواقع الأمر أن التخطيط لتحقيق فائض معقول في العجز الأولي أو الرصيد الأولي في العالم المالي الموشك لهو أمر بالغ الأهمية بالفعل لأنه يدل على جدية البلد وأقصد هنا أي بلد في أن تحقق إيرادات أعلى مما تنفق وبدون ذلك لا يمكن لأحد أن يثق أنها ستستطيع سداد ما عليها من ديون، إذ كيف تسدد، وهي تخرج كل عام بعجز يضاف إلى قيمة الديون السابقة لتزيد بدلًا عن أن تبدأ في التناقص بفعل ما يتم سداده، وبمعنى آخر إن بيتا يأكل ويشرب كل سنة بأكبر من إيراداته لن يتمكن في النهاية من سداد ما عليه وقد لا يجد بعد فترة من يقرضه ليكمل احتياجاته، إن استمرار أي بلد في إدارة ماليته العامة مع وجود عجز أولي مستمر لهو عمل مقلق ولذلك رأينا كيف فرضت الترويكا الأوروبية، وصندوق النقد على اليونان عمل فائض أولي كشرط لاستمرار برنامج المساندة، لا أقوم في تلك اللحظة بتقييم برامج الصندوق ولا مطالب الدائنين لكن أنبه إلى أن العجز الأولى المستمر لهو خلل هيكلي يجب الانتباه إليه عند تحليل وضع أي اقتصاد، وفي الجلسة ذاتها برز مفهوم آخر غاية في الأهمية في تحليل وضع الاقتصاد وبصفة خاصة في الدول المتلقية للمعونات الخارجية أو التي تقوم في مراحل معينة ببيع أصول غير متكررة ألا وهو مفهوم العجز الهيكلي أي عجز الموازنة العامة آخذًا في الاعتبار استبعاد أي موارد غير مستمرة أو غير متكررة أو طارئ، والطريف أن اقتصادي وزارة المالية البارز الذي تحدث إلى المحررين، وهو دارس في جامعتي هارفارد بالولايات المتحدة ويوركشاير في إنجلترا، طلب منا أن نساعد الوزارة ونخدم قراءنا بتقديم تحليلات معمقة حول العجز الهيكلي هذا، وهو طلب محرج لنا في الحقيقة لأن المبادرة كان يتعين أن تأتي من الصحافة، وإن كنت أدرك أن تحليلات الموازنات المالية في الصحافة المصرية والعربية تميل إلى أن تكون إخبارية سريعا دون فحص هيكلي للموازنة وإجراء المقارنات بين سنوات سابقة وأخرى متوقعة والتنسيب المستمر إلى الناتج المحلي أو إجمالي الإيرادات أو إجمالي المصروفات، وهكذا خلافا الذي يحدث في الصحف الغربية الكبيرة وبصفة خاصة البريطانية.

أوضح خبير الاقتصاد أيضا أن مساهمة الخدمات مثل الصحة والتعليم والنقل والتأمين والصيرفة والترفية في الناتج المحلي تصل إلى ٥٠ % حاليًا لكن المحصل من ضرائب على الخدمات نسبته إلى إجمالي الإيرادات الضريبة أو إجمالي الضرائب على السلع أقل بكثير جدًا وأقل بكثير جدًا أيضا مقارنة مع ما هو موجود في دول في نفس مستوى النمو، وهنا لدينا لقطة تعكس خللا هيكليا أو خللا في هيكل الضرائب في مصر، وبالتالي على الصحافة أن تبذل جهدًا في توضيح وتحليل ذلك واكتشاف أسبابه وسبل تصويب الوضع وأشير هنا إلى أن أحد الأسباب الرئيسية يعود إلى أن ضريبة المبيعات التي تحولت الآن إلى الضريبة على القيمة المضافة كانت بالأساس ضريبة على السلع، ولم تطبق إلا بشكل محدود على الخدمات، وهذا سر ضعف حصيلة ضرائب الخدمات والمتوقع بالطبع أن يتغير المسار مع التقدم في تطبيق القيمة المضافة بيد أن الأمر يتطلب وقتًا وجهدًا كما أنه سيشهد ممانعة ولا أقول مقاومه لوقت قد يطول، ومن المشاهد ذات الطابع الهيكلي أيضا في الإيرادات العامة هو أن حصيلة الجمارك كنسبة من إجمالي إيرادات الضرائب لن ترتفع في المستقبل رغم أي جهود تبذل لمكافحه التهرب الجمركي وأشكال التلاعب في فواتير السلع المستوردة ذلك أن العالم كله تقريبًا يسير في هذا الاتجاه والسبب التوسع في الإعفاءات المتبادلة والاتفاقيات الدولية الثنائية أو الإقليمية أو الدولي.

الجهد الذي تقوم به الوزارة لبناء الافتراضات الأساسية للموازنة وأهدافها الكمية بأكبر قدر من الواقعية والدقة ما هو إلا عمل هيكلي كما أصبحنا نرى  إذ يمتد الهيكلي إلى الإجراءات أو العمليات أو السياسات والمقصود به في كل الحالات الدخول في العظم طبقا للمثل الشعبي أي الدخول إلى أو التعمق في الجوهري أو الأعمق عند معالجة الظواهر، عملياتيًا أيضا مثلا فان بناء افتراضات سليمة لتتأسس عليها الموازنة لهو من صميم عمليات إعداد الموازنة العامة فلابد من اعتمادها بحرص شديد وموضوعية في التقدير مع الاستعانة بالمؤشرات التي تصدر عن أهم المكاتب العالمية المتخصصة، نتحدث عن افتراضات مثل سعر الصرف خلال عام الموازنة وسعر الفائدة وأسعار السلع الأساسية عالميًا وكذا أسعار النفط وعدل التضخم ومعدل نمو التجارة الدولية، وهكذا كل ذلك مع عمل الاحتياطات اللازمة لمقابلة الأثر السلبي لأي تغير يطرأ على تلك الافتراضات خلال تنفيذ الموازنة، وفي النهاية فان التقارب بين النتائج الفعلية للموازنة والتقديرات والافتراضات الأساسية هو أحد المعايير المهمة للحكم على جدية وجدارة فرق العمل بأي وزارة مالية ممن يعملون في إعداد الموازنة.

من المتوقع أن تبلغ الفوائد على الديون الداخلية والخارجية في ميزانية العام المالي الموشك على الانصرام في مصر حجمًا أكبر من أي بند آخر من بنود الإنفاق العام، وذلك أيضا خلل هيكلي لابد من معالجته  كما أن ملف التأمينات الاجتماعية من الملفات المقلقة للغاية؛ لأن ما تقوم الخزانة العامة بدفعه حتى يستمر نظام التأمينات الحالي هو من العامة، ويزيد كل عام بما يهدد بعجز الموازنة تمامًا عن تحمله في غضون سنوات قليلة، ولذلك لابد من أن تقوم وزارة المالية، وبالتعاون مع وزارة التضامن وكافة الأطراف الحكومية ومثل أصحاب المعاشات وذوي الخبرة في الحسابات الاكتوارية وفي إدارة أموال صناديق المعاشات بالبحث عن حل جوهري ومستديم لأن ذلك أيضا خلل هيكلي لا يجوز أن يستمر وهكذا.

يمكن إذا لأي دولة أو كيان خاص أن يعمل بطريقة إدارة الأزمة أو الإدارة بالأزمات أو تخفيف الأزمة أو التغطية على الأزمة لكن وحدها الإصلاحات الهيكلية المدروسة هي التي تحقق نقلة في حياه الشعب والدولة معا وتكمن المهارة في التشخيص السليم والحلول السليمة والقدرة على إقناع الشعب وكسب تعاطفه أو على الأقل تحييد أي مقاومة والأهم توزيع أعباء الإصلاح بشكل أمين وعادل، ذلكم هو السبيل الوحيد للتقدم؛ لأن الهدف من كل الإصلاحات في النهاية هو بناء هيكل اقتصادي مختلف بما يقود إلى ضمان نمو حقيقي قوي ومستدام.