أفكار وآراء

المواجهة الأمريكية - الألمانية.... إلى أين؟

11 يونيو 2017
11 يونيو 2017

إميل أمين/ كاتب مصري -

[email protected] -

ما الذي يحدث على صعيد العلاقات الدولية بشكل عام والأمريكية الأوروبية بشكل خاص؟ أشياء كثيرة تتعدل وتتبدل وكأن هناك مخاضًا عسيرًا لولادة عالم جديد غير معروف الملامح أو المعالم، وغير محدد الاتجاهات، وفيه يصعب التنبؤ باتجاه رياح التحالفات أو عواصف الاختلافات.

منذ سنوات الحرب العالمية الثانية كانت العلاقة بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية تمضي على أفضل ما يمكن، وقد مدت واشنطن يدها طويلة وكريمة جدا للأوروبيين عبر مشروع مارشال، وعاشا سويا عبر حلف الناتو، عقودًا من التصدي والتحدي في مواجهة الدب الروسي، طوال سنوات الحرب الباردة، وجابها معا معارك عديدة حاسمة حول العالم طوال العقدين الماضيين.

غير أن ما يجري في الأيام الأخيرة على الساحة بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين ألمانيا، يدفعنا للتساؤل: «هل كان الشاعر العربي الكبير «الأخطل» على حق حين قال: «وقد ينبت الكلأ على دمن الثري وتبقى حزازات الصدور كما هي»؟

لعل منطلق السؤال حالة الهجمات المتبادلة التي أعقبت زيارة الرئيس الأمريكي دونالد لأوروبا والتي عوضا عن أن تكون زيارة وفاقية، إذ بها تنحو لأن تكون زيارة شقاقية خلافية، ولا يجزم أحد بملامح العلاقة مستقبلًا.

هل المشكلة قائمة في رؤية ترامب لحلف الأطلسي بشكل عام أم لألمانيا على نحو خاص؟

وإذا كان الخلاف ظل ساكنًا لعقدين على الأقل، لماذا تصاعدت الصيحات على الجانبين في الأيام الأخيرة؟

المؤكد أن ترامب لم يدارِ أو يوارِ أهدافه خلال حملته الانتخابية، فقد تحدث رجل الصفقات»، عن «أمريكا وكيف تعود عظيمة من جديد»، وهاجم حلف الناتو معتبرًا أن الزمن تجاوزه، وإن كان لاحقًا تراجع عن مواقفه مؤكدًا على ضرورة الحلف، لكن بمشروطية تتصل بحتمية قيام الأوروبيين بدفع أنصابهم المالية بشكل كامل ، شاف وواف، وعنده أن واشنطن تحملت كثيرًا أعباء الأوروبيين وأنه قد حان الوقت ليتحمل هؤلاء ما يتوجب عليهم أن يتحملوا.

في خطابه أمام مقر حلف شمال الأطلسي الأيام الماضية بدا وكأن ترامب يعود إلى سيرته الأولى زمن الانتخابات الرئاسية، وذلك حين أظهر دفاعه المستميت عن دافعي الضرائب الأمريكية، واستخدام عبارات تذكر بلهجة حملته الانتخابية متهما الحلفاء بأنهم جمعوا «مبالغ ضخمة من المال».

ماذا عن ألمانيا بنوع خاص في عقل ترامب؟ الشاهد أن هناك العديد من الأصوات داخل التجمعات ومراكز الفكر الأمريكية تنظر لألمانيا نظرة محملة بالشكوك لا سيما من بعد إعادة توحيد شطريها، فقد مثلت الصحوة الألمانية قلاقل عند الأمريكيين من أن تعود يوما ما لتتبوأ الزعامة الأوروبية.

عطفا على ذلك فإننا نرى مخاوف عند الجناح الأمريكي اليميني المحافظ بنوع خاص من الميول التي أظهرتها المستشارة الألمانية «أنجيلا ميركل»، تجاه روسيا وبوتين، سيما وأن هناك من يروج لفكرة «الأوراسية» في الداخل الأوروبي، أي وحدة الأوروبيين والروس من المحيط إلى جبال الأورال.

في هذا الصدد تحديدًا ولأن ألمانيا حققت منذ نهاية ثمانينات القرن المنصرم طفرة اقتصادية كبرى، بدأت شكوك الألمان تحوم حول أرصدتهم الذهبية الموجودة لدى الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، ولماذا تصر واشنطن على أن تبقى هناك، وإن كانت ألمانيا قد استردت منها جزءًا من الأشهر الماضية.

خلال حملته الانتخابية اتخذ ترامب مواقف تتسم بالجفاء والجفاف معا تجاه الألمان، تحدث عن شراء الأمريكيين للمنتجات الألمانية، لاسيما السيارات، في حين يضرب الألمان عن شراء مثل تلك المنتجات من السوق الأمريكية، معتبرًا أن ذلك نوع من أنواع الغبن الاقتصادي إن جاز التعبير.

لقد وصل الأمر بالرئيس الأمريكي لأن يصرح في لقائه برئيس المفوضية الأوروبية «جان كلود يونكر» ورئيس المجلس الأوروبي «دونالد توسك» وعدد من كبار مسؤولي الاتحاد الأوروبي في بروكسل بأن «الألمان سيئون جدًا»، إنهم سيئون للغاية، هكذا تحدث ترامب، مضيفًا: «أنظروا إلى ملايين السيارات التي يبيعونها في الولايات المتحدة... هذا مريع سوف نوفق هذا الأمر».

يعن لنا أن نتساءل عن الذي يهم الرئيس الأمريكي أولا وما هو سلم تفضيلاته.. هل السياسة في عالم هائج مائج مضطرب سيما وأن قضية مواجهة الإرهاب الدولي باتت اليوم هي الأكثر إزعاجا للجميع أوروبيين وأمريكيين، وبخاصة أن هناك مصلحة واحدة لتجميع الرايات المختلفة تحت راية واحدة، عطفا على المواجهات المشتركة مع روسيا والصين، ناهيك عن أحوال الشرق الأوسط الملتهب والمحتقن، أم أن الرئيس الأمريكي لا يبالي إلا بمعايير الربح والخسارة بوصفه رجل أعمال أولا وآخر، وأن ما عدا ذلك يأتي في أدنى سلم الأولويات؟

الثابت من متابعة وتحليلات تغريدات الرئيس ترامب أن هناك رفضًا من جانبه لتوجهات ألمانيا التجارية والعسكرية فقد كتبت على تويتر يقول: «إن لدينا عجزًا تجاريًا هائلًا مع ألمانيا، إضافة إلى أنهم يدفعون أقل كثيرًا مما يتعين عليهم بالنسبة للناتو والجيش».

هل فتح ترامب أبواب العداء التاريخي القديم لدى الألمان تجاه السياسات الأمريكية؟

يبدو أن ذلك كذلك بالفعل بصورة أو بأخرى، سيما وأن المستشارة ميركل اعتبرت أن على الأوروبيين أن يتولوا مصيرهم بأنفسهم، في مواجهة تحالف عربي يسوده انقسام ناجم عن البريكست من جهة والرئاسة الأمريكية الحالية من جهة ثانية.

ميركل خلال تجمع انتخابي في مدينة ميونيخ الألمانية نهار الأحد 28 مايو أعلنت أنه: «علينا نحن الأوروبيين أن نتولى مصيرنا بأنفسنا، وتابعت: «علينا أن نقاتل من أجل مصيرنا».

ميركل ذهبت في خطابها إلى واحدة من أعلى لحظات الانفصال الواقعي مع الولايات المتحدة، حيث أشارت دون مواربة أو مناورة ولا مداورة إلى أن «الزمن الذي كانت الثقة فيه سائدة، وكان بمكاننا الاعتماد كليًا على بعضنا البعض قد ولى، هذا ما اختبرته في الأيام الأخيرة».

ميركل كانت تتحدث عن قصتين الأولى هي اللطمة الكبرى التي تلقاها الاتحاد الأوروبي من جراء خروج بريطانيا منه، ما عرف بالبريكست، والثانية التوجهات الحمائية وكذا الانعزالية للرئيس الأمريكي الذي يريد أمريكا ومن جديد فوق العالم وربما قبل العالم برمته.

لم يتوقف المشهد عند حدود ميركل، إذ تحدث وزير الخارجية الألماني «زيغمار جابرييل»، بدوره عن الولايات المتحدة التي فقدت دورها في قيادة العالم، ومطالبا الأوروبيين بالوقوف في وجه سياسات ترامب قائلًا: «من لا يقف في وجهة هذه السياسة الأمريكية سيكون مشاركا في المسؤولية.. من يسرع وتيرة تحول المناخ عبر تقويض حماية البيئة وبيع المزيد من الأسلحة في مناطق الأزمات، ومن لأن يؤيد حل نزاعات دينية سياسيا فإنه يعرض السلام في أوروبا للخطر.

هل بات الأوروبيون اليوم يرون أن سياسات ترامب تشكل خطرًا ما على مصالح الاتحاد الأوروبي»؟

أفضل إجابات شافية وافية نجدها في واقع الحال لدى الصحف الألمانية، فقد أشارت صحيفة «فرانكفورتر تسايتونغ›» إلى أن الأوروبيين يجب عليهم بالفعل التحكم في مصائرهم بأيديهم، وتضيف تقول: «إذا كان مقصد هذه الحملة جديًا، فوجب اتخاذ تدابير أخرى في ألمانيا وأوروبا عامة، لاسيما في السياسة الأمنية، لأنه إذا أردنا مستقبلا تحمل مسؤولية أمننا، سواء تعلق الأمر بدور روسيا أو ميلشيات إرهابية في الشرق الأوسط المترنح، فإننا سنصل بالكاد لتحقيق هدف الحلف الأطلسي المتمثل في تخصيص اثنين في المائة لنفقات التسليح.

هل المشهد الألماني موجه ناحية الأمريكية والأطلسي أم أن المسألة تتمحور حول سياسات ترامب بنوع خاص؟

من خلال استقراء المشهد الألماني بعمق يمكن للمرء القطع بأن المسؤولين الألمان وفي المقدمة منهم المستشارة ميركل، إنما تسعى لاتخاذ موقف ضد الولايات المتحدة الأمريكية الحليف التاريخي والتقليدي لأوروبا والأوروبيين، وليس أيضا ضد روابط وثيقة مع حلف الناتو طول سبعة عقود خلت، وإنما تعارض أكثر الموقف الانعزالي للرئيس الأمريكي الجديد - بحسب صحيفة لاندستسايتونغ» - والفظاظة غير المحسوبة لترامب.

ما الإشكالية لدى الرئيس ترامب؟ هناك ما يسمى «الغموض الاستراتيجي» بمعنى أن أحدا ما لا يعرف ما هي رؤية أو سياسة الرئيس ترامب، لقد بدأ بثورة إيديولوجية في البيت الأبيض تمضي ناحية اليمين بقوة غير مسبوقة، لكنه عاد وغير ذلك المسار، ولا أحد يعلم لماذا وهل الدولة الأمريكية العميقة، أو ما يطلق عليه «الاستبلشمنت» الأمريكية كانت سببًا في هذا التغير أم لا؟

وفي كل الأحوال تبقى أوروبا والعالم أمام رئيس غير متوقع، وهذا يسبب للمتابعين وكذا المراقبين للمشهد الأمريكي حيرة كبرى، لاسيما عند الحلفاء قبل الأعداء، وفي هذا يتذكر المرء ما ذكره ثعلب السياسة الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر ذات مرة من أنه ينبغي على أعداء أمريكا أن يخافونها مرة، وينبغي على حلفاءها أن يخشونها ألف مرة.

هل لهذا تحدثت ميركل بالقول: «إن العلاقات مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يجب أن تكون وطيدة؟»

المتابع للمشهد الأوروبي يعلم أنه اليوم الثاني لفوزه بالرئاسة الفرنسية ودخوله «الإليزية»، رئيسا توجه ماكرون إلى ألمانيا لمقابلة ميركل، وهذه واحدة من متناقضات القدر، فألمانيا العدو التاريخي لفرنسا، باتت اليوم الأنفع والأرفع، لها بل إنهما يعملان معا من أجل بقاء خيمة الاتحاد الأوروبي منتصبة في وجه عواصف تريد اقتلاعها. وفي مواجهة موجات وتغيرات ترامب غير المتوقعة يذهب خبراء السياسة الأوروبيون إلى أنه لابد من التحالف الفرنسي الألماني، وهو تحالف مرشح للنجاح، ففرنسا تاريخيا هي صاحبة الحضور السياسي الأوروبي الواعد وعقل أوروبا الناطق، في حين تبقى ألمانيا هي محركاتها وعضلاتها ونبكها المركزي الذي لا ينضب والتكامل بين البلدين كفيل بمستقبل أفضل للأوروبيين لحين معرفة أين سترسو سفينة الكابتن ترامب.

هل المشهد الأوروبي «الأمريكي» مرشح لمزيد من الشقاق والافتراق؟

ربما يكون ذلك واردًا وبقوة وبخاصة بعد توجهات ترامب من اتفاقية باريس للمناخ وللقصة كلام آخر.