أفكار وآراء

لا يمكن أن نقود العالم مجانا

10 يونيو 2017
10 يونيو 2017

كولن باول/ ترجمة قاسم مكي -

نيويورك تايمز -

كوننا بلدا عظيما كان يعني دائما، في أفضل أحوالنا، التزاما ببناء عالم أفضل وأكثر أمانا ليس فقط لأنفسنا ولكن لأطفالنا وأحفادنا كذلك. وكان هذا بدوره، يعني قيادة العالم في الدفع بقضية السلام والرد حين يضرب الوباء أو تحل الكارثة وانتشال الملايين من وهدة الفقر وشد عزيمة أولئك الذين يتوقون إلى الحرية. لكن هذه الرسالة مهددة. فاقتراح الحكومة الذي أعلن الثلاثاء (23 مايو) بسحب ما يصل إلى 30% تقريبا من موازنة وزارة الخارجية والمساعدات الخارجية يشير إلى تراجع أمريكي. وهذا ما سيخلف فراغا يجعلنا أقل أمنا وازدهارا بقدر كبير. وفي حين يبدو هذا الاقتراح حريصا على «الدرهم» إلا أنه يهدر «القنطار.» فهو يقلص الموارد المخصصة لقواتنا المدنية إلى ثلث ما كنا قد أنفقناه في ذروة سنوات سياسة رونالد ريجان «تحقيق السلام باستخدام القوة»، وذلك كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. وهو اقتراح غير مسؤول عالميا ومزعجا لأصدقائنا ومشجعا لأعدائنا ومقوضا لمصالح اقتصادنا وأمننا القومي. فالفكرة التي ترى أن وضع الأمريكيين « في المقام الأول» يستلزم انسحابا من العالم غير حكيمة ببساطة لأن ذلك سيحقق العكس تماما لمواطنينا. لقد تعلمت هذا الدرس في محك التجربة القاسية حين صرت وزيرا للخارجية بعد عقد من تخفيضات كانت قد شهدتها الموازنة وأدت إلى إفراغ الأدوات المدنية لسياستنا الخارجية من قدراتها. لقد افترض العديدون أن نهاية الحرب الباردة ستمكننا من الانسحاب من العالم. ولكن التخفيضات التي ربما بدت منطقية حينها ارتدت علينا وبالا مع تصاعد التوترات في الشرق الأوسط وإفريقيا وشبه الجزيرة الكورية.

إن مواجهة مثل هذه التحديات تستلزم ليس فقط جيشا لايفوقه أي جيش آخر ولكن أيضا دبلوماسيين وعمال إغاثة مزودين بموارد جيدة وعلى قدر كبير من الفعالية والتمكين. حقا نحن أقوى ما نكون حين يكون وجه أمريكا ليس فقط جنديا يحمل بندقية ولكن أيضا دبلوماسيا يفاوض من أجل السلم ومتطوعا في كتائب السلام يجلب ماء نظيفا لقرية أو عامل إغاثة يهبط من سلم طائرة شحن حين ترتفع مياه الفيضان. وفي حين أنني أقف تماما مع مراجعة وإصلاح وتقوية وزارة الخارجية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية إلا أن مقترحات «تصفير» المساعدات الاقتصادية والتنموية (إلغائها بالتدريج) في أكثر من 35 بلدا ستؤدي عمليا إلى إنزال علم بلدنا في مخافرنا حول العالم وتجعلنا أقل أمانا إلى حد بعيد. واليوم يشهد العالم بعض أهم الأزمات الإنسانية في زماننا. فقد اقتلع أكثر من 65 مليون شخص من ديارهم. ولم يحدث أبدا أن فر مثل هذا العدد الكبير من أوضاع الحرب وعدم الاستقرار منذ الحرب العالمية الثانية. إن المجاعات التي تجتاح العائلات في جنوب السودان واليمن ونيجيريا والصومال تعرض أكثر من 20 مليون شخص لخطر الموت جوعا مما يزيد من عدم الاستقرار في مناطق مهددة أصلا من داعش والقاعدة وبوكو حرام والشباب.

هل نريد حقا تقليص وزارة الخارجية والوكالة الأمريكية للمساعدات الدولية في مثل هذه اللحظة الخطرة. لقد ظلت الإجابة الأمريكية دائما «لا.» ولكن اقتراح الميزانية هذا أجبرنا على طرح السؤال التالي: ماهو دور أمريكا في العالم وماهو نوع البلد الذي نسعى في أن تكونه؟ لقد قال مك مولفاني مدير موازنة الرئيس: إن هذه التخفيضات ليست انعكاسا لسياسات للرئيس بصدد موقف ما تجاه الدولة. ولكن كيف يمكن أن يكون خفض بنسبة 32% لمخصصات برامجنا المدنية في الخارج أي شيء آخر سوى تعبير واضح عن سياسات ؟ حقا، أعلن العديدون في الكونجرس عمليا أن مقترح الموازنة هذا سيكون «ميتا لدى وصوله إلى الكونجرس.» ولكنهم أيضا يقرون بأنه سيحدد شكل المناقشة القادمة للموازنة. مثل هذه المناقشة غير سليمة. فموازنتنا الدبلوماسية والتنموية لاتتعلق فقط بالإنفاق والكفاءة المالية. نحن بحاجة إلى نقاش صريح حول ما نمثله بصفتنا تلك المدينة التي تلمع في التل.(تضمين من الكاتب لما ورد في موعظة الجبل بحسب إنجيل متى الإصحاح العاشر والتي جاء فيها « أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ. لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَل»- المترجم.)

ويبدأ ذلك النقاش بالإقرار بأننا لايمكننا أن نفعل ذلك بكلفة زهيدة. إن التخفيضات في مخصصات الدبلوماسية والمساعدات ليست هي الوحيدة التي نؤذي بها أنفسنا في الموازنة الحكومية المقترحة. فالدعوة لما يوشك أن يكون قضاء على وكالتين رئيسيتين لترويج الصادرات (مؤسسة الاستثمارات الخاصة في الخارج ووكالة التجارة والتنمية ) من شأنها الإضرار بآلاف العمال الأمريكيين. بل هي ستزيد في الواقع من العجز. كما أن أي خفض لاستثماراتنا في التنمية الاقتصادية بإفريقيا وسواها سيقضي على قدرتنا على بناء قواعد زبائن في أسرع الأسواق نموا في العالم. ومع وجود 95% من مستهلكي العالم خارج حدودنا، لا مجال (لشعار) أمريكا أولا وتسليم الساحة للصين الطموحة التي تنشر نفوذها بسرعة وتبني الطرق السريعة والسكك الحديدية عبر إفريقيا وآسيا. إن الصين لا تقلص موازنتها التنموية بل تزيدها بأكثر من 780% في إفريقيا لوحدها منذ عام 2003. ومنذ إصدار الحكومة طلبها الأولي (نسختها التمهيدية) للموازنة في مارس الماضي، بدأت في الكشف عن مقاربة أكثر إستراتيجية في السياسة الخارجية. هذا شيء مرحب به. ولكن تسيير دفة السياسة الخارجية الأمريكية يتطلب ما هو أكثر من توجيه ضربة ضد سوريا واتخاذ موقف أكثر تشددا تجاه روسيا وزيادة الضغوط على كوريا الشمالية وتعميق التعامل مع الصين. هذا التسيير أيضا بحاجة إلى موارد لتأمينه. إن أمريكا عظيمة حين تكون ذلك البلد الذي يعجب به العالم ومنارة الأمل وشعب المبادئ الذي يتصف بالكرم والنزاهة والاعتناء بالآخرين.

تلك هي الطريقة الأمريكية. وإذا كنا لا نزال ذلك البلد فعلينا مواصلة تخصيص نسبة 1% (من موازنتنا الفدرالية) لأداء هذه المهمة. هي نسبة صغيرة في مقدارها ولكنها ذات قيمة إستراتيجية. لقد تعلمت طوال مسيرة حياتي العملية الكثير عن الحرب في ميدان القتال. غير أني تعلمت أكثر عن أهمية إيجاد السلام. وذلك ما تفعله وزارة الخارجية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. إنه منع الحروب التي يمكننا تجنبها وعدم القتال إلا حين يلزمنا ذلك. وبالنسبة لجنودنا ومواطنينا فإن هذا يشكل استثمارا يجب أن نقوم به .

• الكاتب وزير الخارجية الأمريكية من 2001 إلى 2006