1031734
1031734
روضة الصائم

روائع المساجـد الأثريـة العـمانية - جامع منح الأثري .. تحفة هندسية في اتساع صحنه وارتفاع جدرانه ودقة تنقيش محرابه

10 يونيو 2017
10 يونيو 2017

محمد بن سليمان الحضرمي -

محرابه قطعة فنية من الماضي، من القرن العاشر الهجري/‏‏ السادس عشر الميلادي، صاغته أنامل فنان حاذق عام 941هـ/‏‏ 1534م اسمه: عيسى بن عبدالله بن مسعود بن سيف البهلوي، إنه جامع منح الأثري، أفخم جامع أثري في محافظة الداخلية الآن، حيث لا يوجد له مثيل في اتساع صحنه، يضم الجامع في صحنه الداخلي 25 سارية مستديرة، يزيد بسارية واحدة عن جامع بهلا، ولكن يختلف عنه في الاتساع ما بين الأعمدة، مما أعطى لجامع منح رحابة في طوله وعرضه.

بني جامع منح الأثري على مصطبة مرتفعة، تعزيزا لمكانه في الأرض، حتى لا تؤثر عليه السيول، ولمكانته الروحية يمثلها الارتفاع في المعمار، ومن حوله فناء يحيط بالجامع من جميع اتجاهاته، يتسع من جهة الشرق الموازي للمدخل، وبلا شك فإن في هذا الجامع تقام فيه صلاة الجمعة منذ تأسيس بنائه، ووجود المنبر بمحاذاة المحراب لا يدع مجالا للشك أن صلاة الجمعة تقام فيه، كما تقام في نزوى وبهلا وغيرها من المدن العريقة.

يقع جامع منح الأثري بين قريتي المعرى وحارة البلاد الأثرية، وبين يرعان اليوم ولمعان الأمس حياة متجددة تمثلها خمائل النخيل الخضراء، وأخرى بائدة تتكلس في تشققات الجدران داخل مباني الحارة القديمة.

وبين القرية والحارة ملامح لمدينة كانت مزدهرة، وبني الجامع وسط مدينة ضاجة بالحياة، بسوقها وقلاعها وأسوارها وأبراجها، ما تزال شاخصة بأطلالها في بعض الجوانب، رغم أن الكثير من معالمها أصبح في طي النسيان، وما بقي منها من أطلال تؤكد العظمة المعمارية والأبهة العمرانية لها، ثم يأتي الجامع الأثري أشبه بتحفة جاد بها الزمان، وأبقاه الدهر ليصل بنا كلما صلينا فيه إلى ذلك العالم البعيد، العالم الغائر في متاهة الزمن المجهول.

تقول الرواية إنه شيد في عهد الإمام عمر بن الخطاب الخروصي (ت/‏‏894هـ)، بينما تنقيش المحراب جاء في عام 941هـ، واليوم حين نتأمل هذا المعلم الفخم، نستعيد معه ذكرى خمسة قرون، صمدت فيها أركان الجامع بسواريه ومحرابه، وبقي تحفة من تحف الزمان المعمارية، مثلما بقي الجامع كما كان نقطة مضيئة في العالم المعتم.

وفي هذا العهد تم ترميمه وعادت لجدرانه الحياة وسواريه بعد أن كانت متخشنة ومتصدعة، وعادت الإشراقة في محيا محرابه، بعد عبوسه زمنا طويلا، بسبب ما ران عليه من غبار كثيف، ولطالما أصاخت أروقته السمع إلى صوت المؤذن، وصوت الإمام ومقرئ القرآن، وصوت المعلم وهو يحث طلابه على حفظ المتون، ويقرأ عليهم المخطوطات.

وبمرور القرون تشربت أركانه الأحبار، وتشبعت صحائف الجص فيه بالتوثيقات التذكارية، والأبيات الشعرية، والحكم الأدبية، كما كانت جدرانه هي الأخرى سبُّورات عريضة لتدوين المحبرات، وبهذه الطريقة صارت الجوامع جامعات خرجت المتعلمين.

أقف عند عتبات الجامع، فتسبقني أشواقي إلى صرحه، وقريبا من هذه الأبهة الحضارية أهرقت سنوات عمري وسفحت ماء طفولتي وشبابي، كنت أمر على الجامع بدراجتي الهوائية وأنا صغير، وكأني أدخل في قلب التاريخ، حيث لا يفصل الجامع عن الحارة القديمة إلا الشارع، تلوح أطلال الحارة بأبراجها العالية وأسوارها المنيفة، وأتذكر الناس التي قضت حياتها هنا، وترجلت إلى الجامع، وأتذكر الفقهاء والأدباء الذين عاشوا في هذا المكان واكتحلت عيونهم بكل ما أراه هنا الآن، وبلا شك أن المدينة في عهدهم كانت حديثة الطراز، ولذلك كانت أجمل وأكبر وأوسع، ولكن ما تبقى منها يعطي صورة لما كانت عليه في تلك القرون الغابرة.

وأقف عند محراب جامع منح، فأتذكر العيون التي قرأت تفاصيله، منذ اكتماله رسمه وتنفيذه عام 941هـ، وأغوص في أنفاق الزمن البعيد، وأرى شريطا من السنين يمتد عشرات العقود إلى نهاية النصف الأول من القرن العاشر، وأرى عيسى بن عبدالله البهلوي قد فرغ لتوه من تحفته الفنية، وتركها واقفة تفتح ذراعيها للزمن القادم، وما تزال التحفة الخزفية ماثلة في مكانها، بصحونها ونقوشها الزهرية.