1027582
1027582
روضة الصائم

روائع المساجـد الأثريـة العـمانية - جامع بهلا .. شيد على أسس حضارتين قديمتين وجدرانه تعود إلى ما قبل 900 عام

03 يونيو 2017
03 يونيو 2017

العثور على مردم موتى وصرة دراهم ومنارة متهدمة وكتابات خطية في الجدران والأعمدة -

لا يمكن أن نفي حق الكتابة لجامع أثري مهم كجامع بهلا الأثري في هذه المساحة الصغيرة ، إذ أن كل قطعة فيه تصلح أن يدور حولها الحديث، ويسيل لها حبر القلم، وتكون فصلا من كتاب، فنحن اليوم في زيارة لجامع شيد على تلة مرتفعة جنوب قلعة بهلا، ورفعت أسسه على مسطبة بنيت جدرانها بالحجارة، وفي موقعين أثريين قديمين، الأول داخل صحن الجامع، يعود إلى فترة مبكرة من الإسلام، والثانية موقع ينتمي إلى فترة الألف الثالث قبل الميلاد.

وأثناء ترميمه تكشفت الكثير من الأسرار التي كانت غامضة عن الناس منذ قرون، من بينها العثور على مردم موتى في الجهة الشرقية من صحن الجامع، وصرة دراهم تعود إلى فترة القرن الثاني الهجري، إضافة إلى وجود منارة متهدمة، وكتابات خطية في الجدران، أقدمها نص كتب عام (528هـ)، ما يعني أن هذا الجامع بأركانه وأعمدته وصحنه الداخلي كان قائما منذ حوالي 900 عام. أما محرابه الكبير فبحد ذاته لوحة فنية أبدعها النقاش عبدلله بن قاسم الهميمي، انتهي من سبكه عام (917هـ - 1511م )، وهو ضمن خمسة محاريب في المساجد الأثرية بقيت إلى هذا الزمن.

كان وصولي إلى الجامع في وقت الظهيرة الملتهب، لوحت ببصري إلى اتجاهات مختلفة، بدا لي حصن بهلا شامخا ومهيبا كما يظهر بعد الترميم، وحوله تتناثر حارات أثرية قديمة، وفي أطرافها تلوح خمائل النخيل، تلون الأفق باخضرار داكن، هذه واحة بهلا الأثرية التي أدرجت ضمن التراث العالمي عام 1987م، وأصبحت شهيرة لدى الباحثين الآثاريين، كل بقعة في هذه المساحة المترامية توحي بتاريخ عريق وعميق، واضح بعضه للعيان، وأكثره ما يزال دفينا وسرا من أسْرار الزَّمان. دخلت الجامع المغلق، وكان في استقبالي أحد الموظفين العاملين في وزارة التراث والثقافة، ولجنا صحنه الداخلي، فبدا لي الجامع أفخم بكثير عما يظهر من الخارج، أعمدة عالية يبلغ عددها 24 عمودا دائريا، تخبئ تشققاتها الكثير من الأسرار والحكايات والتدوينات والتواقيع، ونصوص شعرية، ومراثٍ وتوثيق لوفيات، وأحداث شهدتها المدينة، وغيره الكثير مما يمكن استقراؤه من هذه اللفتات الأدبية.

المكان يضج برائحة الأسلاف، وصحن المسجد الداخلي شهد الكثير من الأحداث والوقائع، فهو مكان مأهول بالناس منذ ما قبل بناء الجامع، وقبل البناء الذي ظهرت له أسس أثناء الترميم، مكان مسكون بتزاحم الأحياء عليه، وكان المحراب وجهتي الأولى داخل الصحن، رحت أتأمل منحوتته الجصية التي أبدعها عبدالله بن قاسم بن محمد الهميمي عام (917 هـ/‏‏ 1511م)، وساعده في البناء عبدالله بن وهب بن أحمد، فوجدت فيها اختلافا عما رسمه في محاريب مساجد منح ونزوى، كل محراب له شكله الخاص، بأختامه وتكويناته من الآيات القرآنية المنحوتة في صدره، مع ذكر من ساعده، وتأريخه للشهر: (صفر) والعام الجهري: 917هـ.

التجويف الداخلي للمحراب أشبه بقبة، حولها صفوف من فتحات الضوء، وأعلاها تاج ورقي وشكل هندسي لم أجد له تفسيرا، ولكن بنظرة لكامل الصورة بدت لي أشبه برأس حوله ضفائر ورقية، أو كائن غامض أعلى القبة، ترى ماذا أراد الهميمي من هذا الشكل؟، ما هو اللغز الذي خبأه في صدر المحراب؟، ولماذا اختار هذا الشكل المحير القابل لأكثر من تفسير؟، وكيف تسنى له أن يجمع أجزاء المحراب في رسمة واحدة، لم تسقط رغم ارتفاعها العالي؟. أسئلة تثير نقاشا آخر حول رسومات المحاريب، وما تنطوي عليه من دلالات فنية وإيحاءات وتفاسير.

بجانب المحراب من جهة الشمال منبر صغير بخمس درجات، في أسفلها نقوش جصية، وتحت أعتاب المحراب مباشرة عثر على أسس لبناء قديم، تم تغطيتها بزجاج مضاء بالأنوار، وتغطية بقية الأجزاء بالزجاج التي تم التنقيب فيها، كموقع العثور على صرة المسكوكات والمدفن القديم، ليظهر أن صحن المسجد مليء بعناصر من حضارات إسلامية وغير إسلامية قديمة، الأعمدة هي الأخرى عالم رحب من الخيال الأدبي، حيث الكتابة على الجص بأقلام الروغ، وقراءة الكتابات مباشرة من الأعمدة له معنى شاعري في النفس. في الجهة الشرقية من صحن الجامع الداخلي لاح لي جدار زجاجي، يخبئ خلفه قطعة كبيرة من منارة متهدمة، لم تقاوم ارتفاعاتها اعتلال الرياح والأمطار، فسقطت أجزاؤها العلوية، وبقيت قاعدتها شاهدة على منارة جصية، يوما ما كانت سامقة بطول أشجار النخيل في هذه المدينة.