1022949
1022949
روضة الصائم

روائع المساجد الأثرية العمانية - أقدم وأدق منحوتة زخرفية في محراب جامع سعال بنزوى

27 مايو 2017
27 مايو 2017

سعيت ذاهبا إلى زيارة جامع سعال الأثري بنزوى، وفي ذهني تاريخ ضارب في القدم يعود إلى ما قبل القرن الثالث الهجري، حين وضعت لبناته الأولى في هذه البقعة المباركة كما تقول كتب التاريخ.

أحث خطاي لتصل بي إلى الجامع الذي قارع الزمان، ولم يأبه بظلام لياليه الباردة في الشتاء، ولا بقسوة نهاراته الحارقة في الصيف، أرى نجمة حمراء تشع من بعيد، قيل لي: ذلك جامع سعال الأثري، فكأني أمام قطعة من الماضي كانت معفرة بالتراب، حتى كساها الترميم ثوبا جصيا أنيقا، وأرى تاريخا عميقا، تتقارب سنواته وتتباعد، وتنتظم فيه القرون وتتشابك، فتبدو فصوصا لامعة في سلك الزمن، أرى خيالات فجرية تؤم الجامع، لرجال يزحفون بشيخوختهم إليه، يتكئون على عصيهم وقلوبهم معلقة به. وأدخل الجامع مأخوذا برهبة الماضي، فإذا بي وسط أعمدة دائرية مثبتة بانتظام داخل صحنه الداخلي، يبلغ عددها اثني عشر عمودا، فأتذكر المصلين وهم يسندون ظهورهم عليها، وأسمعهم يقرأون القرآن ويتلون آياته عن ظهر قلب كدوي النحل.

أتجه نحو المحراب، فإذا أنا أمام تحفة لم أر لها مثيلا في الجوامع الأثرية العمانية، ولو قلت إنه أدق وأعرق محراب لما بالغت في الوصف، مهيب ومتماسك وكأنه منحوتة حجرية، منمنماته دقيقة جدا، حد أن القطعة الصغيرة تحتوي على أشكال من الزخارف النباتية والكتابات القرآنية بالخط الكوفي، وأتعجب من دقة التنقيش وتناسجه، حيث إن كل نقش قائم على ما حوله، فلا تجد نشازا بينها، وكأنها صممت ليكون المحراب قطعة فنية واحدة.

ويشكل الرسم القرآني بين جانبي المحراب جمالا آخر لجدار الجامع الغربي، حيث نحتت الآية القرآنية: (لمن الملك اليوم .. لله الواحد القهار)، بتشكيل كوفي بديع تؤكد موهبة النقاش الخطية.

وأعيش لحظات طويلة أمام المحراب، متأملا إبداعات النقاش الكبير أحمد بن إبراهيم بن محمد السعالي، الذي فرغ منه في ربيع الثاني من عام 650هـ/‏‏ يونيو 1252م، وأمرر كلتا يديَّ تتحسس تكويناته وتفاصيله، فيزداد إعجابي بهذا النقاش المبدع، الذي ما ترك مكانا خاليا إلا وملأه بالنقش، واستطاع بعبقريته الفذة أن ينحت الآيات بخط دقيق داخل المحراب، في خطوط طولية وعمودية ومستديرة، ترى هل كان هذا النقاش السعالي يعلم أن تحفته ستعيش ما تقادم من الزمان، وتقاوم تقلب الليل والنهار؟، أنا لا أشك في ذلك، فالجهد المبذول في تنقيش المحراب يؤكد حرص الفنان على بقاء تحفته مدى الأيام، لذلك هي اليوم واحدة من أضاميم الدهر الخالدة، وقطعة فنية لا تتكرر.

يبدو جامع سعال من الخارج أشبه بتكوين هرمي، تحفه أضلاع مثلثة الشكل تقيم حيطانه من الانهيار والتداعي، سقفه العالي تحمله اثنا عشر ركنا دائريا متباعدة، تسمح بإقامة صفوف الصلاة بينها، فلا يشعر المصلي بتزاحم الأعمدة عليه، وتحيط بالجامع مساحات خارجية من جهاته الأربع، وبديلا عن البومة والمئذنة أوجد مهندسه برجا دائريا صممه في الزاوية الشرقية الشمالية. أما عن أبوابه ونوافذه، فقد سمح اتساع صحنه الداخلي طولا وعرضا، إلى تعدد الأبواب من جهتي الشمال والجنوب، وكغيره من الجوامع والمساجد الأثرية فإن أرضيتها عادة ما تكون مرتفعة لبضعة أمتار، اتقاء جراف السيول، أو لتعطي لبناء الجامع فخامة معمارية، وتحيط بجامع سعال منازل طينية مهجورة، وبعضها مسكونة، محفوفة بحدائق النخيل، ليبدو الجامع من بعيد أشبه بجوهرة وردية حولها غلالة زاهية من حرير أخضر.

ومنذ تاريخها القديم عرفت نزوى ثلاثة جوامع، وهي: جامع عقر نزوى، أعيد بناؤه من جديد مع بداية سنوات النهضة، ويحمل اليوم تسمية «جامع القلعة» لمجاورته لقلعة نزوى، ويأتي جامع سمد في المرتبة كما تقول كتب التاريخ، إلا أنه تهدم ولم يبق منه سوى أركان متهاوية، تتلوى حولها عروق الأشجار، ثم جامع سعال المحتفظ بشكله ونقشه ورقشه، وزخرفته الجصية المنحوتة في محراب الصلاة، هذا الجامع أكثر حظا من بين الجوامع الثلاثة، وبإعادة ترميمه وترميم محرابه يكتب للجامع حياة جديدة، سوف يبقى أنموذجا للهندسة المعمارية العمانية القديمة. خرجت من الجامع وتركت فيه مجموعة من الصبية الصغار، يقضون ساعات فيه للمذاكرة، فهم أحفاد من بنى هذا الصرح، حاملين في قلوبهم أمانة الأجداد.