أفكار وآراء

شعبوية الأثرياء - ترامب يحكم كجمهوري تقليدي !!

12 مايو 2017
12 مايو 2017

مارتن وولف - الفاينانشال تايمز -

ترجمة قاسم مكي -

جاءت أول مائة يوم لرئاسة دونالد ترامب بأخبار بعضها جيد وبعضها سيئ. الجيد منها أن ترامب يحكم، ولو بطريقة غير منظمة ، كجمهوري أرثوذكسي «ما بعد ريجاني» بأكثر مما كان متوقعا في الغالب. والسيئ منها أنه يحكم كجمهوري أرثوذكسي بأكثر مما كان متوقعا في الغالب. يبدو هذا صحيحا الآن في كل المجالات الرئيسية للسياسات، المحلية منها والدولية. وهو صحيح على نحو أوضح في السياسة الاقتصادية. فقد تلاشت فكرة إعادة تشييد البنيات الأساسية للولايات المتحدة. ويبدو أن الحمائية التجارية يعوزها الحماس. ولكن التحرير الاقتصادي (إزالة قيود الإجراءات التنظيمية) لايزال هدفا. وكذلك الإصلاح الضريبي مع المزيج المعهود من العطايا المجانية غير المُمَوّلة والتفكير السحري (غير العقلاني) في الموازنات العامة. فسياسات ترامب تبدو باطراد أشبه بسياسات الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان. ولكنها تنطلق من نقطة بداية أقل ملاءمة (من تلك التي انطلقت منها سياسات ريجان.) ففي إعلانه عن الخطة الضريبية، عزز البيت الأبيض جوهريا فكرة افتقار هذه الإدارة للخبرة. إذ من الصعب تخيل حكومة أخرى (غير حكومة ترامب) وهي تعلن عن إصلاحات جذرية للنظام الضريبي في وثيقة من صفحة واحدة تنعدم فيها التفاصيل. فهي ستكون مثيرة للدهشة هذا إذا لم تؤذ سمعة الولايات المتحدة فيما يخص الكفاءة في رسم السياسات. حين تُطرح هذه الخطة أمام الكونجرس ستكون ميتة والسبب يعود في جزء كبير منه إلى أنها أصلا لم تكن حية. ولكن هذه الوثيقة ذات الصفحة الوحيدة التي أصدرها البيت الأبيض تحوي فعلا أفكارا شبيهة جدا بتلك التي أعلنها ترامب حين كان مرشحا للرئاسة. وهذا يتيح لنا العودة إلى التحليل الذي نشره مركز السياسة الضريبية في أكتوبر الماضي . ففي حين أننا لم نجد سببا يذكر لتوقع أن تتحول خطة مثل هذه إلى تشريع ، إلا أن ذلك التحليل يساعدنا حقا على فهم إلى أي حد تظل نقطة انطلاق إدارة ترامب بعيدة عن الحصافة فيما يخص السياسة المالية. لنبدأ بآثار هذه الخطة على العجز المالي. حسب مركز السياسة الضريبية ، ستزيد الخطة من عجز الحكومة الفيدرالية (حتى بعد أن نضع اعتبارا لآثارها المفيدة في الاقتصاد الكلي) بأقل قليلا من 3% من الناتج المحلي الإجمالي طالما ظلت مطبقة. ولكن وفقا لصندوق النقد الدولي، تحقق الولايات المتحدة عجزا هيكليا حكوميا عاما بنسبة 4% من الناتج المحلي الإجمالي يتوقع أن يرتفع إلى ما يقل قليلا عن 6% في الأعوام الأولى من العقد القادم. وإذا أضفنا التخفيضات الضريبية المقترحة، قد يظهر عجز حكومي هيكلي عام يعادل 8% من الناتج المحلي الإجمالي في العقد القادم. وسيؤدي ذلك إلى ارتفاع انفجاري للدَّين. وهذا ما لا يمكن السماح بحصوله خصوصا وأن صافي الدين الحكومي العام للولايات المتحدة يزيد الآن عن 80% من الناتج المحلي الإجمالي، مرتفعا من نسبة 45% قبل الأزمة المالية وأقل كثيرا حين تولى ريجان الحكم. فالعجز الهيكلي بحاجة إلى خفضه وليس إلى زيادته. رغما عن ذلك لا يُقصَد من هذا التعزيز المالي أن يكون مؤقتا. وسيحدث أيضا حين يكون معدل البطالة عند 4.5% من قوة العمل. يقول المدافعون عن الخطة ردا على ذلك بأنها قد تسدد تكلفتها بنفسها عبر زيادة النشاط (الاقتصادي.) ولكن يبدو هذا الافتراض مستبعدا تماما بالنظر إلى معدل البطالة المنخفض. رغما عن ذلك أشار وزير الخزانة الأمريكي ستيفن منوتشن إلى أن التخفيضات الضريبية يمكنها، في ترافق مع السياسات الحكومية الأخرى، رفع معدل متوسط النمو في الأجل الطويل في الولايات المتحدة إلى 3% من المستوى الحالي الذي يقل بقدر طفيف عن 2%. مثل هذا الارتفاع في النمو سيفيد. ولكن حدوثه مستبعد جدا لأسباب شرحها جيسون فيرمان، الرئيس السابق لمجلس المستشارين الاقتصاديين. فهو يستبعد جدا أن يكون ارتفاع تدهور مشاركة القوى العاملة كافيا كي يتحقق هذا النمو. إذ ستكون هنالك حاجة أيضا إلى ارتفاع في معدل نمو الناتج في الساعة الواحدة من نسبة 1.2% التي تحققت في العقد الماضي إلى 2.8%. لقد كان ذلك الارتفاع في معدل نمو الإنتاجية شيئا نادرا جدا في الماضي خلال أية فترة زمنية ممتدة. وسيكون جنونا من جانب واضعي السياسات افتراض أن يحدث ذلك هكذا، بكل بساطة. السؤال هو إذن: هل يمكن التعويض عن هذه التخفيضات الضريبية الضخمة في مجال آخر. يبدو الآن التعديلُ الحدودي لضريبة الشركات فكرة ميتة. لذلك سيكون الحل الوحيد إجراء تخفيضات ضخمة في الإنفاق. وسيعني خفض الإنفاق بنسبة 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي، مثلا، خفضا في الإنفاق الفيدرالي بنسبة 12%. ولكن ما يقرب من 90% من ذلك الإنفاق يذهب إلى (مخصصات) الدفاع والصحة وأمن الداخل وفوائد قدامى المحاربين والأمن الاجتماعي وسداد سعر الفائدة. وبافتراض أنه لن يكون هنالك مساس بهذه البنود سيلزم حينها حذف كل بند آخر من بنود الصرف الفيدرالي. وبالتالي ستختفي الحكومة الفيدرالية في مجالات عديدة. كما تبدو المقترحات الضريبية تراجعية إلى حد مذهل (الضريبة التراجعية أو التنازلية تأخذ مقدارا أكبر نسبيا من ذوي الدخول الأقل. أي يتراجع فيها معدل الضريبة كلما ازداد المبلغ الخاضع للجباية مثلا من 10% إلى 1% - المترجم.) وبحسب تحليل مركز السياسة الضريبية فإن أفراد الشريحة التي تشكل نسبة 0.1% الأعلى في سلم توزيع الدخل قد يحصلون على متوسط خفض ضريبي يقارب 14.2% من دخل ما بعد الضريبة. هذا في حين أن عائلات الدخل المتوسط ستحصل على متوسط خفض ضريبي بنسبة 1.8%. من بين التغييرات التراجعية المباغتة سيكون إلغاء ضريبة الحد الأدنى البديلة وضرائب التركات وإجراء تخفيضات ضخمة في معدلات ضريبة الشركات بما في ذلك الضريبة على كيانات الأعمال التي تستخدم للتقليل من آثار الازدواج الضريبي. «فإن مَن لَهُ سيُعطى» هذا هو مبدأ ترامب. (أي منح المزيد من الثروة لمن يملك الثروة.) وهو أيضا مبدأ «أثر انتشار أو تساقط الفوائد» الجمهوري القديم في أنقى أشكاله. لقد فاز ترامب بالترشيح لأنه وعد بأن يكون جمهوريا مختلفا. لكنه ليس كذلك. ما حققه هو أنه جعل التحايل على الناخبين (إغراؤهم ببضاعة غير حقيقية ثم النكوص عنهم) أوضح مما في السابق. لقد تودّدَ جمهوريو «ما بعد ريجان» للقاعدة  الانتخابية ببرنامج انتخابي يرتكز على قضايا ثقافية فيما هم يصيغون تشريعات تخدم مصلحة ال1% الأعلى دخلا من الأمريكيين. تلك هي شعبوية الأثرياء (شعبوية الأثرياء أو الشعبوية البلوتوقراطية، بحسب قاموس أكسفورد، حركة سياسية يطرح فيها ثَرِيٌّ أفكارا وسياسات جذابة للشخص العادي- المترجم.) لقد أضاف ترامب لهذه الشعبوية أجندة الصرف على البنيات الأساسية والحمائية التجارية ودعم الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي. ولكنه هو أيضا يخطط لخدمة  شريحة ال1%. إن شعبوية الأثرياء فعالة سياسيا إلى حد بعيد. ولكن طريقة عملها تجعل القاعدة الانتخابية أشد غضبا وأكثر إيغالا في اليأس. وهذا لعب بالنار السياسية. ربما سيحافظ الجمهوريون على وجودهم السياسي بعد ترامب. ولكن ما الذي سيحدث بعد ذلك؟