أفكار وآراء

المهاجرون العرب وعطاؤهم الاقتصادي

10 مايو 2017
10 مايو 2017

مصباح قطب -

تتباين الطرق التي يتفاعل بها المهاجرون العرب، بشكل دائم أو مؤقت الى الخارج، والمهاجرون بصفة عامة مع بلادهم وشعوبهم وأهلهم وذويهم، فهناك من يجعل همه الأول بعد أن يستقر في عمل بالمهجر أن يجلب إخوته أو أقرباءه للعمل معه أو بجواره، وتشيع هذه الممارسة في كافة الثقافات، لكنها تتكثف اكثر في دول الحضارات النهرية القديمة وبصفة خاصة كثيفة السكان منها ويعد مهاجرو مصر والهند والصين نماذج لذلك، وهناك من يكون همه هو نفسه وأسرته الصغيرة التي كان قد تركها إذ يجعل هدف كل جهوده أن يوفر سكنا ودخلا يستطيع معه أن يستقدم الأسرة، ونوع ثالث قد يضيع في زمان الحياة الجديدة ولا يستطيع والحال كذلك إلا أن يعنى بشخصه مخافة الغرق أو العودة الى البلد الأصلي موصوما بالفشل. ومن المهاجرين من يعاوده الحنين الى بلد المولد سريعا، ومنهم من يقضى فترات طويلة، قبل أن يدرك هذا الشعور أو يدركه شعور الحنين هذا، وبعض أبناء الأسر المعروفة في بلادها الأصلية يبدأون مبكرا محاولات خدمة أبناء المنطقة التي للعائلة نفوذ فيها لتعزيز شرعية تميزهم العائلي فيسعون الى تدبير منح دراسية أو فرص عمل لأبناء الفرع الفقير من العائلة إن وجد أو أبناء من يخدمون العائلة بأشكال مختلفة في بيوتاتها ومزارعها أو مصانعها أو متاجرها، ونادرا ما يحدث أن ينخرط المهاجر العربي في أي عمل عام على الأقل خلال عقدين من تواجده باستثناء الأعمال التي ترتبط بخدمة مواطنيه في المجال الديني والمناسبات، ويغلب على نسبة كبيرة من المجموع تحويل مدخراتهم أولا بأول الى بلادهم فهم يعلمون مدى احتياج الأهل الى المال أو يعرفون في جانب آخر أن أفضل وسيلة لاستثمار مدخراتهم وهم في الغربة هي الدفع بها الى الأهل ليستثمروها كما اعتادوا أن يفعلوا منذ سنين طويلة، ولا يخرج الأمر هنا عن بناء بيت جديد أو تعلية بيت قائم، أو شراء قطعة أرض للزراعة أو البناء أو اقتناء ما تيسر من الحلي، ويرصد صندوق النقد الدولي تحويلات المهاجرين سنويا الى بلادهم الأم ويرتب الدول طبقا لذلك صعودا وهبوطا من حيث القيمة، لكن الصندوق يقف عند هذا الحد إذ ليس لديه ما يمكنه من أن يمضي الى ما هو أبعد أي يتقصى طرق إدارة تلك الأموال والأنماط الاستثمارية التي تشيع في معظم الدول لها. وكذا مواطن الاختلاف في هذا المحور بين مواطني ريف بلد - مثلا - ومواطني ريف بلد آخر أو أبناء الحضر هنا أو هناك وهكذا، وكما تقدم فإنه يصعب أن نجد إطار نموذجي لتتبع الأثر الاقتصادي الانعكاسي للمهاجرين على بلادهم أبعد من مجرد رقم التحويلات، كما أن من النادر أن نرى ولو مؤشرات على أنماط الاستثمار التي يختارها المهاجرون بأطيافها واختلاف مستوياتهم بعد أن يتوفر لهم قدره تمويلية في بلد المهجر ذاته وأي نوع من الأعمال يبدأون به ولماذا وكيف يؤثر ذلك على تفكيرهم حيال بلدهم، ولذلك فقد رأيت أن انقل الى من يعنيه الأمر من قراء “ عمان” ، بعض الدروس المستفادة من خبرات الجالية المصرية المتواجدة في مدينتي نيويورك و نيوجيرسي ولا أقول الولايتين. كما أعرج على ما عاينته أيضا من تجارب في التواصل مع البلد الأم قام بها مصريون - مهنيون في أغلبهم، يعيشون في واشنطن دي سي أو سان فرانسيسكو في أقصى الغرب الأمريكي.

أبدا بنيوجيرسي ونيويورك حيث أكبر تركز للجالية المصرية وحيث التنوع فسيح في القدرات والخبرات والدخول ومستوى التعليم وطبيعة العمل الخ. لقد أقيم منذ أيام مؤتمر نظمته منظمة المجموعة المصرية الأمريكية تحت عنوان (دعم الاقتصاد المصري .. نعم نستطيع)، وتحدث فيه قنصل مصر العام السفير احمد فاروق والمهندس ناصر صابر مؤسس المجموعة وصاحب توكيل إحدى الشركات الأمريكية العالمية الكبيرة في مجال بيع المخبوزات والقهوة بولاية نيوجيرسي، وامرأة درست العلاقات الدولية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة ثم عاشت في نيويورك الى أن فكرت في إجازة الى القاهرة لأيام لكن الإجارة طالت الى ست سنوات شدها فيها العمل العام وسط القرى والنجوع الفقيرة والمتنامية في مصر الى أن تم تعيينها بقرار جمهوري عضوا بالمجلس القومي للمرأة وهي دولت سويلم وتحدث أيضا سمير البسيوني وهو قاضي ضرائب معتمد وكان قد فاز بمنصب عمدة إحدى المدن في ولاية نيوجيرسي منذ سنوات قليلة، كما تحدثت أستاذة طب هي منى شوقي وطالبة جامعة تمثل الجيل التالي وهي نورهال

صابر ونساء ورجال من تخصصات مختلفة ولكل منهم تعليم مختلف وإعلاميون منهم كاتب هذه السطور، فماذا كان أهم ما تمخض عنه ذلك كله ؟. الجواب انه بعد طول تيه وخلافات ومنافسات بلا معنى ومعارك صغيرة وتشتت، بدأت بواكير وعي الجالية بذاتها مدفوعة بالتطورات التي جرت في مصر في الأعوام الأخيرة من جانب وتلك التي جرت على أبناء الجالية أنفسهم فقد أصبح عندهم من قصص النجاح بعد طول كفاح ومن الثقة بالنفس ومن التواصل العقلاني مع حكومة بلدهم ما يكفي لكي يقولوا لمصر وللأمريكيين: نحن هنا. فقد أطلق نحو ١٢٠ منهم منذ أيام فقط جمعية لريادة الأعمال هدفها نقل الخبرة الى أي وافد جديد حتى لا تضيع منه سنوات في معرفة ما يمكن أن يعرفه في أسابيع أو اشهر من خلال معاونه السابقين له، والهدف الأهم الجمعية هو تشجيع المصري المهاجر على أن يبدأ في مرحلة مبكرة مشروعا تجاريا أو خدميا أو صناعيا وبسرعة في أمريكا وان يدخل حلبة المنافسة بفكرة جديدة أو تنفيذ أذكى وأفضل لعمل موجود حيث يدرك عدد كبير يوما بعد آخر أن قوة المصريين هنا من قوتهم الاقتصادية وان المصري القوى يمكنه حقا أن يساهم اكثر في جعل بلدة قوية وكما قيل على لسان الحاضرين فإن المصري لن ينجح في أمريكا إلا اذا اعتز بوطنه وعرف جيدا أن أمريكا فرصة بينما الوطن كينونة، وقد اعتبر القنصل المصري أن إقامة مثل هذه الجمعية سيكون نقطة بداية ونموذج لكل الجاليات المصرية في العالم وبما يجعل نهرا من الخبرات والمعارف التقنية والعملية يتدفق الى مصر والى شرايين المصريين المهاجرين بما يضاعف النفع للجميع، واعتقد أن مثل هذه التجربة تقبل التبني من كل الجاليات العربية المهاجرة كل مع بلده ومع بني جلدته. وثاني الدروس هو العمل الاجتماعي المنسق في اتجاه محدد وبما أن الكل تقريبا على وعي بأن التعليم والصحة هما من أهم ركائز العدالة الاجتماعية وتقدم الدول فقد اتجهت الجالية وبصفة خاصة الجيل الجديد ومن ممثليه نورهال التي أشرت إليها في تبني مبادرات لإصلاح مستشفيات حكومية أو مدارس عامة في أفقر المناطق أو حتى اجزاء منها حسب الطاقة والمقدرة، والى جانب التحويلات النقدية بدأ يبرز ميل قوى ومن أجيال مهاجرة صاعدة الى الاستثمار بالمعنى العصري في بلدهم ثم الدفع في طريق تحسين مناخ الاستثمار باعتباره يخص المصري في الخارج مثل من في الداخل وقبل أي مستثمر أجنبي، كما بدأت مقترحات تطوير مناخ الأعمال في الوطن الأم تظهر، وذلك أيضا طريق طويل ومهم للكافة، وحين يصل الوعي الى هذا المستوى يصبح من الطبيعي أن تطالب الجالية بعقد مؤتمر سنوي للمصريين في الخارج برعاية رئيس الدولة وإشراك شبابهم في الحوارات الشهرية التي يجريها الرئيس مع الشباب، ومع الادخار والاستثمار ونقل المعروفة . بدأت ولو على استحياء أفكار تدعو الى أن يحرص المهاجر على التفوق الرياضي والفني في بلد المهجر مثلما يتفوق في الطب والهندسة فمن شأن ذلك أن يعزز مكانه بلاده في البلد المضيف من ناحية ويزيد من مستوى الترابط والتواصل بين الأجيال وبين البلد الأم بل ويقوى القوة الناعمة لوطنه وحتى لا يقتصر الأمر على حضور هذه الحفلة أو تلك مما يقام على فترات متباعدة بمشاركة فنانين مصريين أو عرب، وقد أصبح لدى عدد كبير وكما رأيت هنا من المصريين والعرب ولع بان يكون لهم براندات خاصة مثل أولئك الذين أقاموا مطاعم للطعمية (الفلافل) أو الأطعمة الشامية ثم توسعت أعمالهم وذلك في الإضافات التي يمكن أن يقدمها المهاجر لنفسه وبلده، وحتى لا أطيل فان المهنيين المخضرمين هنا مثل أهل واشنطن أو غيرها يميلون الى مشاركات من نوع مختلف وأضرب لذلك مثلا بالمؤتمر الذي نظمته جماعة منهم منذ اشهر في مصر عن تجربة طلعت حرب وكيفية تحقيق الاستقلال الاقتصادي الفعّال لمصر في الزمن الراهن بكل تحدياته كما أن منهم من يقوم بشكل دوري بإلقاء محاضرات متطوعا في الجامعات المصرية أو يقوم بتدريب أطباء ومهندسين وعلماء على التقنيات الحديثة، وأختم بالقول إن عصرا جديدا من العطاء سيبرز فدعونا نفسح له المجال بتفاعل إيجابي وشفاف.