998627
998627
شرفات

الأشياء ليست في أماكنها «قراءة في البنية والشخصيات»

01 مايو 2017
01 مايو 2017

سامي يوسف القاسمي -

«حكايات لم تكتمل»

إن العلاقة بين العنوان والنص هي علاقة تفاعلية وجدلية فالعنوان بؤرة النص التي يتمحور حولها والنص امتداد وانتشار له، لذلك ارتأينا في مداخلتنا أن نبدأ بالعنوان فهو أول ما يطالعنا، وهو العتبة والإشارة الأولى هو ذاك النص الأصغر الذي منه نلج إلى عالم القص ونستشعر لذة النص.

إنّ العنوان هو المفتاح لاستكناه عالم القص بإغرائه وإيحائه على حد رأي جيرار جينات، يغريك يستفزك ، يثير فضولك ويشاكسك لتقبل عليه وتنهل منه.

وعنوان روايتنا «الأشياء ليست في أماكنها « له الوظائف ذاتها، مجمل ملغز مثير للتساؤلات «فاتح لشهية القراءة» فلقد تطلب في تقديرنا من الكاتبة وقتًا واسعًا من التأمل والتدبّر لتوليده وتحويله ليصبح بنية دلالية وإشهارية كما أننا نعتقد أنها قد أفرغت فيه جهدا ووضعته بعد بحث وتمحيص ونظر .

عنواننا «الأشياء ليست في أماكنها» ورد في شكل جملة اسمية مركبة كان المبتدأ فيها رغم التعريف مغرقًا في التعميم والإطلاقية مما يدفع القارئ إلى الدهشة والحيرة والتساؤل، والبحث يثير ذاك فضوله فتتهافت إلى ذهنه موضوعات وتساؤلات و أشياء كثيرة أما الخبر فقد ورد هو بدوره في شكل جملة اسمية مبدوءة بناسخ يعبر عن النفي ليزيل بعضا من الغموض عن المبتدأ ولكنه لم يفصح عن هذه الأشياء بل أشار إليها ولوح تلويحا إلى أنها «ليست في أماكنها» وهنا يجد القارئ نفسه متشوقًا إلى مكاشفة النص راغبًا فيه مقبلا عليه يسعى إلى فك طلاسمه بالولوج إلى عالم الرواية التي ستفصل ما أجمله العنوان، وتبسط ما اختصره وتطلق ما احتجزه فما هي هذه الأشياء التي ليست في أماكنها ؟

سؤال يضعنا أمام ثنائية الموجود والمنشود أو السائد وما يجب أن يسود في الحقيقة ثنائيات كثيرة تحكم الرواية منها: المتوقع والواقع، الانفتاح والانغلاق، الفراغ والامتلاء، النقص وسد النقص، الانعتاق والخضوع، الروح والجسد، الوفاء والخيانة، الواقع والخيال.. لعل دراسة بنية الرواية والبحث في سمات الشخصيات فيها، وفي شبكة العلاقات بينها توضح هذه الثنائيات بجلاء جدير بالذكر أنّ هذه الرواية فازت بالمركز الأول في جائزة الشارقة للإبداع العربي بالإضافة لجائزة أفضل إصدار روائي في جائزة الجمعية العمانية للكتاب.

الرواية هي الأولى لهدى حمد كتبتها بكل حرفية وإحساس في أسلوب سلس وجميل وغير معقد.

هي رواية تتعدد فيها المعاني وتتنوع فيها المقاصد، مشحونة بالانكسارات بالوجع وبالثنائيات والمتضادات يتورط القارئ في معاشرتها والولوج إلى عالمها وارتياد مغامرة البحث في مبانيها ومعانيها ومقاصدها جريئة كاتبتها تشدك بأسلوب لا يخلو من تشويق وجمالية تعبير فيها من الرمزية ألوان تقول(«ما أقسى هذه الدائرة المغلقة ما أقسى الطواف فوق جمرة الشك هذه») أو كقولها («اكتشف الآن في خطوتي الأولى أنّني أنثى بامتيازات ناقصة») ومن الفكرية الفلسفية أصناف (تقول أمل: «ما يطلبه جسدي يختلف تمامًا عما تتوق إليه روحي... الروح والجسد لا يتشابهان) ومن الوجدانية العاطفية أشكال. تقول: «أنت امرأة من فل وياسمين وحكايات تكبر وتكبر ص12..) أو قولها («لن تجد امرأة أدفأ مني لن تجد حكايات تشبهني تطرز بها أوجاعك ونهاراتك... وأوقدت بين أضلعك قمرا صغيرا يخص فرحنا وأوقاتنا المقدودة من روح الليل ص 13)

لقد عمدت هدى حمد إلى التنويع في المعجم والتفنن في انتقاء اللفظ وصياغة العبارة، مستفيدة من دراستها الجامعية، ومن قراءاتها ومطالعاتها لقصص وروايات سابقة فضلا على عملها في الميدان الصحفي الذي خول لها الاطلاع على الأحداث اليومية التي تعرضها أن تكشف المستور عن واقع مجتمع رفضت تحديده تصريحا بل أشارت إليه تلميحا.

إن ما يشد القارئ وهو يرتاد عالم الرواية محاولة الكاتبة الجادة في ملامسة مشاعر المرأة وأحاسيسها أماّ أختا، ابنة، زوجة، صديقة، حبيبة فـ«الأشياء ليست في أماكنها» كتبتها صاحبتها كما تقول «من أجل محاولة جادة لإعادة ترتيب الأشياء في داخلي أنا كإنسان وكامرأة» هي محاولة منها لإثبات الأنا ونحت الذات ووضع الأشياء في أماكنها مدفوعة برغبة جادة في الانعتاق والتحرر من شرنقة الأفكار البالية والوصاية المدمرة.

بنية الرواية :

الرواية ذات بناء دائري مغلق هي عود على بدء تنفتح برسالة تشير إلى شخصيتي منى وحازم وتنغلق بهما لنكتشف أن حازما لم يكن سوى فكرة وهم وخيال لا علاقة له بالواقع وما بين البداية والنهاية أقسام ثلاثة بأصوات ثلاثة لثلاث شخصيات هي أمل ومحسن ومنى ومع كل شخصية نكتشف وجوها مختلفة للشخصيات الأخرى تعبر كل ذات منها عن طموحاتها، أحلامها مخاوفها وإخفاقاتها.

• أولاً: الحياة في مرايا أخرى (صوت أمل) فصل يمتد على أربعين صفحة هذا الفصل بصوت «أمل» تلك الفتاة التي تعيش بمركب نقص وتدور في دائرة مغلقة وتطوف فوق جمرة الشك حسب تعبيرها تبدأ الأزمة معها حينما اكتشفت أنها أنثى بامتيازات ناقصة فطفقت تبحث عن سبل الخروج مما هي عليه لوضع الأشياء في أماكنها، وجدت في القراءة سنارة تخرجها من مستنقع عفن إلى سماء مدهشة فبدأت بالإقبال على قراءة الكتب التي كانت تمنحها إياها خالتها «زيون» حتى غدت تفهم بعض الأشياء أكثر من غيرها وأصبحت «تستطيع أن تلتهم قوة الآخرين عندما تبدو صاحبة الموقف الأقوى والكلمات الأقوى»

تكتشف أن القراءة لوحدها غير قادرة على التأثير في محسن وجلب اهتمامه فقررت أن تغامر بالسفر إلى المدينة لا من أجله فحسب بل من أجل إثبات ذاتها ونحت كيانها وتأصيل وجودها كانت تلاحق وهما فعادت من حيث ابتدأت منكسرة خائبة بعد أن تنازلت على عديد الأشياء، بدأت وكان يحدوها الأمل فانتهت بخيبة أمل ولم تستطع أن تحقق السعادة التي تصبو إليها ولا أن تصل إلى الرضى الذي ترنو إليه وترغب فيه.

• ثانيا: حكاية بلا عكاز (صوت محسن) ويمتد من الصفحة التاسعة والخمسين إلى الصفحة السادسة والسبعين، وهو أقل الفصول حجمًا من حيث المساحة النصية وعدد الصفحات، هذا الفصل يتعلق بشخصية محسن ذاك الشاب الذي يعيش تناقضه الخاص به هو صموت، منطو، عانى من قمع والده إذ لم يتمكن من تحقيق تحرّره الداخلي وانعتاقه من الوصاية، يحب «أمل» ولكنه يختار الزواج من الفتاة التي اختارتها العائلة لتناسب طموحاتها الاجتماعية تقول منى متحدثة عن طفولته: «والده يحبسه في غرفة لا تسمح له إلا بمراقبتنا من النافذة وهو يقرأ في كتبه المدرسية» وتقول أمل في حوارها معه: «مشكلتك يا محسن أنّك في صغرك كنت أسيرًا لوالدك الذي أرادك أن تكون كما يريد هو، وعندما كبرت انتقلت كالتابع إلى الانصياع إلى أوامر أمك، والدتك التي تختار ملابسك، وهي التي اختارت لك تخصصك في الجامعة وهي أيضًا التي اختارت لك زوجة المستقبل».

محسن كان يرى في «أمل» المرأة الممتلئة بالحياة... المرأة المخلوقة من وهج اسمها... المعجونة بإسمنت الوقت الذي يمرق فارها أنيقا؛ لأنه يخصها وحدها»...

يقول: «كم كانت قوية هذه الأمل التي لا تعنى بأحد وكم كنت أنا ضعيفًا للغاية» لكنه يتركها ليتزوج صديقتها منى، كانت أيامه الأولى في الزواج رائعة كحلم يقول متحدثا عن منى: «منى امرأة أخرى لها صوت منخفض وحكايات دافئة تمشي بحياء، تبتسم بحياء، تنظر إلى العالم بمنظار وردي ..» لكنه سرعان ما عاوده البرود الممزوج بالشك ليعتبرها امرأة مسكونة بالجن والأسرار، ويرى أنها لم تكن مخلصة له تقول منى بعد الزواج به ذاك الزواج الذي اعتبرته انتصارًا على أمل وحلمًا جميلًا قد تحقق لتكتشف أن: «هذا الرجل عقيم، لا يملك أيّ ردّة فعل، لا يملك أي وجه لأراه به».. يصرّح في آخر الفصل أن حكايته لم تكتمل مع أمل كما لم تكتمل مع منى

شخصية ثانية، صوت ثان في الرواية لم تكتمل سعادته، ولم يحقق ما يرغب فيه بدأ بأمل ورغبة لينتهي بألم وخيبة

• ثالثًا: وهو الأكبر حجمًا: من يكمل الوقت دون أن يقترف (صوت منى) هو فصل البوح، منى تبوح بكل ما يعتمل في ذاتها وتصرح بتفاصيل حياتها في علاقتها بوالديها وبحازم وأمل ومحسن هذه الشخصية محافظة من عائلة مرموقة لكنها كانت ضحية لتشدد والدتها فطفقت تهرب من الواقع الذي تعيشه إلى تخيل نفسها تتحاور مع شخصيات وهمية وذلك في صغرها مثل الأقزام الذين تتخيل أنهم حقيقيون ويحدثونها وتحدثهم أو شخصية حازم الذي اختلقتها وجعلت منه حبيبا تحبه وتتعلق به، وتسعى للهروب معه من حياتها الزوجية ومن برودة محسن وسلبيته

هي فتاة تصورها الكاتبة ضحية تربية خاطئة وتشدد مبالغ فيه كانت تتعجب وتعجب في الآن ذاته بجرأة «أمل» وقوة شخصيتها كانت تعتبرها أكثر حرية وسعادة منها كانت تعيش نقصًا كبيرًا في حياتها، وكان محسن هو الأمل لانتشالها من عالم الوحدة والتقوقع والأوهام، لكنها وبعد الزواج به تكتشف عيوبه وسلبيته فتعاودها الخيبة من جديد، وتستحضر خيالاتها من جديد، سعت لتجعل الأشياء في أماكنها ولكنها واهمة لما اعتقدت أن الأشياء ستظل في أماكنها ما نلاحظه إذن أن كل شخص عندما يروي قصته، ويسترجع تفاصيلها ينحاز بقوة إلى نفسه، وإلى موقفه فيظهر أكثر مثالية من خلال تلك المبررات لما يفعل أو لما يقول لذا تغير الأشياء أماكنها بسرعة، ونعي أن الخدعة الكبية أن الأشياء تظل في أماكنها كل هذا نكتشفه من خلال دراسة الشخصيات: سماتها وعلاقاتها المتراوحة بين الأمل وخيبة الأمل معتمدين في ذلك بالأساس على السرد والوصف وعلى الحوار الذي يحضر في شكل مخاطبات قصيرة أو في شكل حوار داخلي أو مونولوج درامي يكشف عن بواطن الشخصيات وما يعتمل داخلها من مشاعر وأحاسيس .

شبكة العلاقات بين الشخصيات

(المتوقع والواقع | الأمل والخيبة)

إنّ كل ّ شخصية من شخصيات الرواية تعاني من نقص ما، وتبحث عن سد لهذا النقص في ذاتها، في داخلها وعند الآخر. هي تعيش تمزقا وانشطارا بين واقع موجود أسود حالك كله خيبات وعذابات، واقع بدت الأشياء فيه ليست في أماكنها، وبين متوقع منشود فيه نور وأمل أن يكون موجودًا حقيقة حتى تعود الأشياء إلى أماكنها إن المتأمل في شخصيات الرواية يلحظ قدرة الكاتبة وتمكنها من صياغة شخوص الرواية من حيث مشاعرهم المتضاربة وأساليب عيشهم وحياتهم التي تعتمد على الظروف التي عصفت بهم منذ الطفولة وهذا النقص أو عدم التوازن الذي رافق الشخصيات وكان له الأثر البالغ في المراحل اللاحقة من أعمارهم فالجميع يبحث عن الشيء المختلف عن سد لذاك النقص الذي يعيشه ولكن أليس غريبا أن تكون جميع شخصيات الرواية تعاني نقصا ؟ أليس غريبا أن تكون جميع الشخصيات بهذا الانكسار والانشطار؟ ألهذه الدرجة يبدو الواقع مأساويا قاتما؟

بعض التقنيات المعتمدة

• استخدام تقنية الومضة الورائيّة أو الاسترجاع (الفلاش باك): لقد تخطى السرد كلاسيكية التتابع الكرونولوجي أو التتابع الزمني والتسلسل الخطي مما منح الرواية مزيدا من الريش كي تحلق في عالم المتعة والتخيل والتشويق فكسر خطية الزمن يحدث في القارئ تلك الوقفة التأملية التي تشده أكثر إلى عالم الرواية بشخوصها وأمكنتها وأزمنتها فتنكشف له خبايا جديدة ويفتضح بعض من سر الشخوص.

• الخيال وكسر أفق الانتظار والتوقع لدى القارئ فالممتع أنك وأنت توشك على إنهاء عملية القراءة تتفاجأ بما لم تتوقعه تباغتك الكاتبة بأن ما كانت تعيشه منى كان من صنع خيالها، وفي اعتقادي عنصر المفاجأة وكسر أفق الانتظار والتوقع منح الرواية مزيدا من المتعة وأثبت حرفية الكاتبة لا سيما وهي تكتب روايتها الأولى.

• استقلالية الشخوص: منحت الكاتبة مساحة من الحرية للشخصيات حتى تبوح بما لديها وتفصح عما يعتمل داخلها عبر حوارات كانت في الغالب ثنائية قامت على مخاطبات قصيرة أو عبر الحوار الباطني (المونولوج الدرامي)

• التنويع في اللغة والمعاجم والحقول الدلالية: الوجداني الرومنسي، الشعري الأدبي

الرمزيّ، الفكريّ الفلسفيّ، الوجوديّ وهو أمر منح الرواية مزيدا من الثراء الذي يشد القارئ، فالرواية تحمل في طياتها بذور حياتها ونجاحها فلا غرابة إذن أن تتحصل هذه الرواية على جوائز ولكن الكاتبة وهي تشق طريقها بشكل مميز لا اختلاف فيه ولا جدال لم يخل عملها من

بعض الثغرات والتعثرات التي في تقديرنا لم تنقص من شأن الرواية ولا غرابة في ذلك ونحن

نعلم أن الكاتبة تكتب روايتها الأولى أليس غريبا أن تكون جميع شخصيات الرواية تعاني نقصا ؟ أليس غريبا أن تكون جميع الشخصيات بهذا الانكسار والانشطار؟ ألهذه الدرجة يبدو الواقع مأساويًا سوداويًا قاتمًا ؟

- إنّ ما يربك القارئ هو ذاك التأرجح بين الواقع والخيال فالمشهد الأخير الذي تظهر فيه منى عند طبيب نفساني هو مشهد زائد مسقط ولم يكن سوى مجرد تقية من الكاتبة لتدافع عن خيال الواقع

- التكثيف من اللغة الانفعالية والتركيز على صورة المرأة النمطية.

- الارتباط بشكل مغلق بالمشاكل المجتمعية التي تجعل من الصوت النسائي عادة ما يأخذ دور الضحية فالكاتبة لم تستطع رغم ما أضفته على روايتها من حبكة وخيال أن تفصل بين الواقع المهني والخيال السردي.