998857
998857
شرفات

بعبارة أخرى: ما الافتراضي وما الواقعي؟

01 مايو 2017
01 مايو 2017

د. حسن مدن -

دهشتنا اليوم أمام الانترنت وثورة المعلومات تذكر بدهشة أسلافنا أمام الثورة الصناعية والتقدم الذي فاجأهم في الغرب، لكن الفارق الجوهري هو أن الصدمة الحضارية أصابت أفراداً أتيح لهم السفر إلى أوروبا كما هي حال الشيخ رفاعة الطهطاوي الذي سافر ضمن أول بعثة مصرية للتعلم في فرنسا فهاله ما رأى وعقد العزم أن يكرس ما بقي من حياته في سبيل أن يتحقق لمصر وللعرب ما تحقق لسواهم.

لكن ثورة المعلومات والاتصالات لا تنتظر أن نذهب إليها وإنما تجيء هي نفسها إلينا، وهي تطالنا كجماعات لا كأفراد فقط، وتدخل في تفاصيل حياتنا، وتستحوذ على أبنائنا قبل أن تستحوذ علينا، وهي، شئنا أم أبينا، تُكيّف حياتنا وأوقاتنا وسلوكنا وفق مقتضياتها.

إن ثورة التكنولوجيا والاتصال توفر مجالاً أوسع لنشر المعرفة والمعلومات، وتتيح للفرد كما للمجتمع عامة فرصاً واسعة للاختيار، مما يطرح على أجهزة الإعلام الوطنية مهمات مزدوجة الطابع، فهي إذ تبدو مطالبة بالتجويد المستمر لما تقدمه لمشاهدها المحلي في أطباقٍ جذابة، فإنها معنية كذلك بتأكيد مصداقيتها أمام هذا المشاهد.

لكن دراسة قديمة بعض الشيء لمركز الإمارات للدراسات الاستراتيجية تقدم رقماً مخيباً للآمال، حين تؤكد أن 75% من أفراد مجموعة أجريت عليها الدراسة، قالوا إنهم إذا أرادوا معرفة الأخبار فإنهم يذهبون إلى الشبكات العالمية، حتى لو كان الحدث وقع في بلدهم.

دلالة ذلك سلبية، خاصة حين نعلم أن ثقافة المجتمع ما بعد الصناعي، أو مجتمع ما بعد الحداثة الغربي تتقدم إلى العالم عبر الصورة الخاطفة، وهي حين تبث عبر الفضاء، الذي أصبح مفتوحاً ومن دون رجعة، إلى بلداننا النامية حيث ما زالت الحداثة نفسها تتعثر، فإنها تتجنب تقديم الواقع نفسه، وتقدم رديفه المفبرك، أي الصورة.

ولا غرابة أن يصدر في الغرب بعد حرب الخليج عام 1991 مباشرة كتاب يحمل العنوان المثير حرب الخليج لم تقع في إشارة إلى زيف ما قدمه الإعلام، الذي كان يعلن ولادة نظام جديد يتقدم بالصورة، لا بالمدفع وحده.

قبل عقدين من الزمن فقط، لا أكثر، كان السجال على أشده حول «المخاطر» التي ستحملها إلينا شبكة الإنترنت، وما ستمثله من تهديد للقيم والمعتقدات، وكانت الأصوات حينها عالية في المطالبة بوضع تدابير و إجراءات وتشريعات تحمينا من «الكوارث» الآتية إلينا وعلينا، ومن أجل ذلك كانت تنظم الندوات والمؤتمرات وحلقات البحث، وتدبج المقالات المحذرة من «الخطر» القادم.

سيشعر بالسخرية من يعود لهذه السجالات اليوم، ليس فقط لأنها لم تفلح، قيد أنملة، في منع تقدم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، التي ليس عبثاَ، يطلق عليها إسم «ثورة»، لأنها من حيث الفعل والتأثير أحدثت ما أحدثته، عبر التاريخ، الثورات في المجتمعات، وإنما أيضاً لأن ضرراً من أي نوع لم يطل التقاليد والمعتقدات، ومثلما بات من الصعب جداً تخيل كيف ستكون حيواتنا لو لم تكتشف الكهرباء، أو نتخيلها بدون امدادات المياه إلى البيوت والمكاتب والشركات والمصانع والجامعات، سيكون صعباً جداً تخيل الطريقة التي ستدار بها الكثير من الأمور والأعمال لو لم تتوفر خدمات الانترنت.

بل يبدو باعثاً على السخرية أن الجماعات التكفيرية التي تدعي الذود عن الدين، هي من أكثر، وأكفاً، الجماعات في استخدام شبكة الانترنت وكافة أوجه الاتصال الحديثة لا في الترويج لأفكارها، واستقطاب مناصرين ومريدين فحسب، وإنما أيضاً في تنفيذ عملياتها الاجرامية في مختلف بقاع الأرض.

لكن بعض التقنية الحديثة، على الايجابيات الكثيرة التي حملتها، فإنها حملت أوجهاً سلبية، تبدو، في الظاهر على الأقل، مناقضة للغاية المعروفة لها وهي تسهيل وتسريع الاتصال، حين خلقت أوجها جديدة من العزلة، وحملت الفرد على عادات جديدة «تعزله» عن محيطه القريب.

جرّب وأنت تجلس في مقهى بأحد المراكز التجارية أو أحد الفنادق تحتسي قهوتك أن تلقي نظرة على من هم حواليك من الناس الجالسين في المقهى.

ستلاحظ أن جلهم إما أنه يتصفح هاتفه النقال أو يتحدث به، مع أنهم لم يأتوا إلى المقهى فرادى، فمع من يتصفح الهاتف أو يتحدث به يجلس على الطاولة ذاتها شخص آخر أو أكثر، ولكن عوضاً عن أن يتجاذب الجالسان أو الجالسون على هذه الطاولة الحديث فيما بينهم، فإنهم لا يكونون حاضرين معاً في حقيقة الأمر، لأن تواصلهم يتم مع من هو غير حاضر. إنهم معاً في الشكل فقط، أما في الجوهر فإن التواصل لا يتم بينهم، وإنما بين كل فرد منهم على حدة، مع طرف آخر غير موجود معهم.

في السابق عندما يسهر الناس مع بعضهم بعضاً للتسامر، يكون التركيز كله منصباً على من هم معك في السهرة، بينما وسائل الاتصال الراهنة، خاصة الهاتف النقال، توزع اهتمامنا على أكثر من مكان وأكثر من جه. إنك حاضر بجسدك مع من يجلسون معك، ولكنك في الآن ذاته معزول عنهم، وموصول بمن تحدثهم أو يحادثونك عبر الهاتف. إنك غائب وحاضر في آن.

قبل سنوات اتصلت بي سيدة تطلب رقم هاتف شاعر كانت تتابع منشوراته عبر شبكة «فيسبوك»، ولكن الشاعر غادر الشبكة، وهي تريد الاطمئنان عليه وأخباره، بعد أن فقدت وسيلة التواصل الوحيدة معه. فقلت لها بين المزح والجد: رويدك. إنه عائد إليها بعد وقت لن يطول، وهذا ما حدث على كل حال وربما بأسرع مما كان متوقعاً.

ليس هذا الشاعر هو الوحيد من يقرر في لحظة من لحظات تأنيب الذات، مغادرة الشبكة، حين يشعر بالوقت الطويل الذي يهدره معها، ويستخسر ضياعه في أمور ليست على تلك الأهمية، فيما يمكن توظيف هذا الوقت في مهام وأمور أكثر جدوى، وأن يعود إلى الحياة الفعلية، لا الافتراضية. وليس هو الوحيد ممن لا يقوون على استمرار هذه المغادرة، فيعودون أدراجهم مسرعين إلى متاهات تلك الشبكة، يسبحون في عوالمها، لأن الأمر عندهم تحول إلى درجة من درجات الإدمان، الذي لا يمكن التخلص منه، حتى لو رغبوا.

يطرح هذا سؤال، وربما أسئلة، هل ما زال العالم «الافتراضي» افتراضياً، أم أن صفته هذه تتآكل مع الوقت، فلا تعود الحدود بين الواقعي والافتراضي بتلك الصرامة والقطيعة اللتين نحسبهما؟

لتبسيط السؤال: هل عاد بوسع انسان اليوم، ناهيك عن انسان المستقبل أن يعيش خارج الواقع «الافتراضي»؟ ألم يتغلغل هذا الافتراضي في ثنايا حياتنا فلم يعد بوسعنا أن نفرق بين ما هو واقعي فعلاً وما هو إفتراضي، وهل يمكن إدارة الظهر لهذا الافتراضي وقت نشاء، زاعمين أننا نستطيع العيش خارجه، كما كنا قبل ذلك متآلفين وسعداء بعالمنا الواقعي ونحن نتدبر أموره.

في أحد مقالاته يذكر أستاذ الفلسفة المغربي عبدالسلام بنعبد العالي أن عطلاً ما في حاسوبه، طال نحو أسبوع حمله، اضطراراً لا برغبة، على أن يجد نفسه مرة أخرى في العالم الواقعي وحده، حراً من الافتراضي الذي اعتاده، ويقول ما مفاده أنه شعر في البدء بنوع من السعادة لأنه استعاد حريته من عبودية التقنية، فعاد إلى كتبه يقلب صفحاتها، ويدون عليها الملاحظات، بل أنه أمسك بالقلم ليكتب مقالاته بعد أن اعتاد الكتابة على أزرار الحاسوب.

لكنه مثل الشاعر الذي لم يقو على مغادرة «فيسبوك» طويلاً فهرع عائداً إليه، سرعان ما أدرك أنه من الصعب عليه التآلف مع العالم الواقعي الذي كان يعيشه، قبلاً، بسلام مع النفس، وأن عاداته تغيرت بعد ولوجه الشبكة، ولا سبيل لاستعادة تلك العادات كما كانت قبل الولوج.

السبب يكمن في ما دعوناه تآكل الحدود بين العالمين، فاذا كان ولوج الشبكة في البدء قراراً محض فردي، فإن مغادرتها ليست كذلك، لأنها تغدو شبكة من العلائق لا يفكها المرء بإرادته وحده.