Untitled-1
Untitled-1
إشراقات

السخرية .. خصلة مذمومة نهى عنها الإسلام

13 أبريل 2017
13 أبريل 2017

المستهزئ خسارته على نفسه -

في جواب لسماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة عن السؤال «هناك من يتجرأ على الاستهزاء بالعلماء عن طريق مقطع معين في هاتف أو في شبكة المعلومات العالمية أو غيرها من الأمور المعاصرة التي يجد فيها بعض هؤلاء متنفسا في أن يعبروا عن كروب أنفسهم المليئة بالعفن ليستهزئوا بالعلماء، ما حكم من يصنع هذا، ومن يصادف مثل هذا النوع كيف يتصرف معهم؟»

يقول سماحته: هؤلاء الذين يستخفون بأهل العلم ويجترأون عليهم إنما يريدون أن ينفسوا عن كربهم وما هم بمنفسين لها، إنما يزدادون كربا بعد كرب ويزدادون هما بعد هم لأن قلوبهم مريضة وهم ولا ريب يزدادون بهذا العلاج الذي يرونه مرضا ويزدادون بهذا حسرة، وكما قال الشاعر:

ومنزلة الفقيه من السفيه

كمنزلة السفيه من الفقيه

فهذا زاهد في قرب هذا

وهذا منه أزهد منه فيه

إذا غلب الشقاء على سفيه

تنطّع في مخالفة الفقيه

وقبل كل شيء القرآن الكريم يقول: «إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ ، وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ، وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ ، وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ» هذه سنة الله تعالى في الخلق، وقد أجاد من قال:

وإذا أتتك مذمتي من ناقص

فهي الشهادة لي بأني كامل

فأهل النقص يريدون أن يجبروا نقصهم ويكملوا أنفسهم بنسبة المعائب إلى غيرهم وإلصاق قول السوء بمن سواهم ولكن مع ذلك هم كالورقة التي تحترق بهذا ويعود كيدهم عليهم وينقلب قول السوء الذي يقولونه على أنفسهم وتلك هي سنة الله تعالى في عباده فالصراع بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال مستمر وقد قص الله سبحانه وتعالى في كتابه أنباء رسله وكيف قال قومهم فيهم: قالوا هم سحرة وقالوا هم مجانين ونسبوهم إلى الكذب ونسبوهم إلى الزور.

والنبي صلى الله عليه وسلم نفسه أصيب بما أصيب به من هذه الاتهامات ولكن كل ذلك انقلب على أولئك الذين يكيدون لهؤلاء المرسلين، الله تبارك وتعالى يقول: «إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ، وَأَكِيدُ كَيْدًا» فكيد الله تعالى هو الغالب وهو الذي يظهر أثره بعونه سبحانه وتعالى وبتوفيقه ومهما كان فإن هؤلاء إنما خسارتهم على أنفسهم ولا يخسر العلماء بل ذلك يزيدهم رفعة وقدرا.

 

احترام المقدسات -

هلال بن حسن اللواتي -

«يتطلب من الجميع احترام مقدسات الآخرين وعدم تعريضها للسخرية، فإن الله رسم أدباً لاتباع الدين الإسلامي».

من الصفات المذمومة هي «السخرية»، ومنه التسخير: أي التذليل، وفي السخرية نحو من أنحاء التذليل والمذلة بالمسخور منه، وهي طلب الخديعة والاستنقاص والإذلال بمن يسخر منه، وفيه حالة من الضحكة، فكأن الساخر يضحك منه أو يجعل الناس يضحكون منه، وهذا المعنى يحمل نحواً من الاستنقاص والتوهين والاستصغار، وقد فرق أعلام اللغة بينها وبين الاستهزاء فقال أبو هلال العسكري في الفروق اللغوية الصفحة 50:«الفرق بين الاستهزاء والسخرية: أن الإنسان يستهزأ به من غير أن يسبق منه فعل يستهزأ به من أجله، والسخر يدل على فعل يسبق من المسخور منه ...»، فلاحظ أن السخرية تقع في قبال شيء يصدر من المسخور منه، وأما الاستهزاء والتهكم فهو عمل ابتدائي غير مسبوق بمشاهدة شيء أو تسجيل ملحوظة ما من قبل المستهزئ منه.

فمع التأمل في العبارات التالية ومؤدى السخرية وما يلازمها من ملازمات غير جيدة من الأخلاق الفاسدة نجد أن الشريعة المقدسة قد نهت عن ذلك كله، وعدته من الكبائر.

ولو أردنا أن نستكشف مصادر هذه السخرية من النفس البشرية فسنجدها تنشأ من «القوة الشهوية» ومن «القوة الغضبية» وبالاستعانة بــ«القوة الوهمية»، فقد يكون صدور السخرية بسبب طلب المرء لشهرة ومكانة اجتماعية فيعمد إلى السخرية من الآخرين لأجل توهين الخصم وإذلاله واستنقاصه ظنا منه أن هذا سيبعد الناس عنه وعن فكره ومنهجه، وهذا يدخل في أعمال «القوة الشهوية».

وقد يكون لطلب الانتقام والاستشفاء لحقد وضغينة فيعمد هذا الرجل إلى السخرية من المقابل لتلك الأغراض، ظنا منه أنه لو استنقصه وأذله فقد حقق انتقامه وشفى غيظه!!.

وهنا لأجل أن تتكامل حالة السخرية لدى من أسرته القوة الشهوية أو الغضبية تتم الاستعانة بالقوة الوهمية لأجل إيجاد الطرق والوسائل والسبل والخطط لأجل إتمام الغرض والهدف، وأما القوة العقلية فتكون أسيرة بيد هذه النفس الأمارة بالسوء، وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه الشريف «وكم من عقل أسير عند هوى أمير».

والعلة من حالة السخرية عند البعض هي «الجهل» بقسميه: الجهل البسيط والجهل المركب، وهذا الأخير أخطر، لأنه صاحبه يظن أنه يفهم ويعلم إلا أنه في الواقع لا يعلم أنه جاهل، ويتسلط الجهل على الإنسان بسبب ضعف القوة العقلية، وهذا الضعف لا يصاب به الإنسان إلا لأمرين:

الأمر الأول: لضعف المعارف الصحيحة عنده.

الأمر الثاني: لعدم إدخال العقل والنفس في معترك الحياة، ليخرج بتجارب اجتماعية جميلة، فيها الموعظة والعبرة.

ونقف عند المعارف التي تحتاجها القوة العقلية إليها، فهي من تزود العقل بالبيانات والمعرفة لأجل إدارة النفس وقواها إدارة ناجحة، إلى أن تصل إلى قيادتها بقيادة القوة العقلية، وما لم تزود هذه القوة العقلية بالمعلومات الصحيحة والمعارف التي يحتاجها العقل كغذاء يلبي الاحتياج الذاتي لها فإنها لن تستطيع أن تعالج المشكلات التي تحدث على مستوى النفس وقواها الأربع، ولهذا فإن العقل والعقلاء يجزمون أن الذي يسخر شخص قد سيطر عليه الجهل.

والآن وبعد ما تبين حقيقة صفة السخرية نأتي إلى مظاهرها الفردية والاجتماعية، فإن مظاهر السخرية تختلف وتتنوع، فما دامت القوة الوهمية توجد للإنسان الطرق للنيل من المقابل بشتى الطرق فإن الطرق الوسائل ستتنوع وتختلف، وبما أننا عرفنا أن السخرية وصف يظهر كردة فعل سلبية على ما يبرز من المقابل من كلام أو فعل.

إنه من الطبيعي أن يصدر من كل إنسان بما يتلاءم وطبيعته الثقافية وبيئته العرفية وشخصيته الفردية والاجتماعية، خلفيته الدينية أو المذهبية فإن ما يصدر منه ليس إلا عن قناعة أو عادة حسنة في وجهة نظره، فليس من المنطق ولا من العقل أن تكون ردة الفعل في مقام الاختلاف مع المقابل السخرية، بل إن المنطق يفرض على الإنسان حسن المعاشرة وهذه لها لوازم منها السؤال الحسن، والخطاب المنطقي، والحوار العقلي، والنقاش العلمي، فهذا هو الطريق الذي يدعونا إليه القرآن الكريم دائما وابداً، وإما أن يصدر من الإنسان في مقام ردة الفعل تجاه المقابل سواء على كلامه أو فعله بشكل سخرية فهذا أول ما يكشفه هو أن الساخر لا يتمتع بذرة من اللياقة الأدبية فضلاً عن اللباقة الفكرية والمتانة العقلية.

لهذا يتطلب من الجميع احترام مقدسات الآخرين وعدم تعريضها للسخرية، فإن الله رسم أدباً لاتباع الدين الإسلامي فقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ» (الحجرات/‏‏11).

ومع قليل من التأمل في القرآن الكريم حديث تعرض بذكر من اتصفوا بالسخرية على الآخرين فإننا سنجده لم يذكر في صفة المتقين أو المؤمنين هذه الخصلة بل نجده قد جعل صفة السخرية من أوصاف الكفار والحاقدين على الدين والإنسانية، ومن أوصاف المنافقين، أي إن صفة السخرية صفة سلبية، ولا يتصف بها إلا من كانت شخصيته مبنية على السلبية.

قال تعالى: «زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ» (البقرة/‏‏212).

وقال تعالى: «وَلَقَدِ اسْتُهْزِئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئونَ». (الأنعام/‏‏10).

وقال تعالى: «الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»(التوبة/‏‏79).

فتتنوع مظاهر السخرية عند الساخر، فتأخذ أحياناً منحى السخرية على الصدقات، وأخرى على الصلاة، وأخرى على الطواف، وأخرى على العقيدة بالتوحيد، وأخرى على المقدسات الأخرى من الشعائر الدينية، وأخرى على الآداب والأخلاق.

وفي الختام من الجيد أن نذكر هذه الرواية الشريفة عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين إذ يتبين فيها بعض ملامح سيكلوجية الساخر، فقد ورد عنه صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين: «لا يكذب الكاذب إلا من مهانة نفسه».

 

عــاقـبة السخـــرية -

حمود بن عامر الصوافي -

«فالاستهزاء قرين الجهل لأن صاحب المعصية لا يدري ما يقع له من هذا الاستهزاء ولا ما يصيبه من بلاء في الدنيا والآخرة، فبلاء السخرية لا يقتصر على الشخص بل يعم المجتمع وكفى عارا بالمستهزئ أنه وصف دقيق للكفار والمجرمين، فقد كان كفار مكة يُمعنون بالسخرية من المؤمنين بنعتهم بأقذع الألفاظ وأشدها إيلاما».. فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم لأنها نفثت جرحا قديما وأعادته إلى الواجهة مرة أخرى، يا ترى ماذا تصنع السخرية بأصحابها؟ وماذا يجني الإنسان من اتهام غيره أو تحقيره أو تعييره أو الهزء به في أمر لا صلة له به أو لا يمت إلى خلقه بشيء أو قد مضى عليه سنون كثيرة تخلى عنه وأعاد النظر فيه؟  

فيا ترى أي داء يصبّه الحقودون والعبثيون في أعراض الناس وأحوالهم حينما يطعنون أو يسخرون من الآخرين بسبب شكلهم أو لونهم أو حديثهم أو بعض عيوبهم وملامحهم، فيقولون: وجهه كوجه قرد، وعينه كالضفدع وعقله كالصخرة الصلدة، يا ترى من خلق هؤلاء وخلقك؟ أتسخر من خلق الله وإرادته؟ أتعترض على خلقة آدمي وإنسان مثلك؟ ألا تعلم أنك تخرم التوحيد والعقيدة بفعالك وتخدش إيمانك بأقوالك وأفعالك، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»[البقرة/‏‏21].

وهل خلا الإنسان من العيوب حتى يتجاسر على أذية غيره، ومحاولة التفتيش والبحث عن عيوب الآخرين؟ أما وسعك أيها الإنسان أن تصلح عيوبك وتسترها بدلا من البحث عن عيوب الناس أو محاولة تطويع عيوب ساذجة ما أنزل الله بها من سلطان أما علمت أنك قد تصل بك السخرية إلى الافتراء واختلاق الكذب؟!

فالسخرية خطرها عميق، وداؤه وبيل، ولو رجعنا أول ما رجعنا لعلمنا أن أول من تمثل بها هو إبليس اللعين؛ فقد سخر من خلق آدم عليه السلام وأبى السجود له تكبرا، وحاول تنقصه بسبب اختلاف الخلقة معه، فقال: ذاك خلق من طين، وأنا خلقت من نار، فشتان بينهما، قال تعالى: «قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ ، قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ»[ص/‏‏75، 76].

وما دخلك أنت يا إبليس بما خلق الله، وبأي مادة خلق فلو شاء لعكس المادة فكنت من طين وكان من نار لكن الله تعالى يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فكيف لك أن تعترض على إرادة الله تعالى بالهزء والتعالي والسخرية؟ حسبك أن تمتثل لأمر السجود دون اعتراض أو تكبر أو سخرية أو استهزاء. ولخطر هذه الآفة وتأثيرها على المجتمع وتفتيت بنية الجماعة نزلت آيات كثيرة في القرآن تحذر منها قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»[الحجرات/‏‏11].

قال الزمخشري: «القوم: الرجال خاصة؛ لأنهم القوّام بأمور النساء..

وتنكير القوم والنساء يحتمل معنيين: أن يراد: لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض. وأن تقصد إفادة الشياع وتصير كل جماعة منهم منهية عن السخرية.. «عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ» معناه وجوب أن يعتقد كل أحد أن المسخور منه ربما كان عند الله خيراً من الساخر؛ لأنّ الناس لا يطلعون إلا على ظواهر الأحوال ولا علم لهم بالخفيات».اهـ.

وقد توعد الله تعالى الساخرين والمستهزئين بالوعيد الشديد والويل العظيم: قال تعالى: «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ»[الحطمة/‏‏1]، جاء في تفسير ابن عبد السلام: «المغتاب واللُّمزة: العيَّاب، أو الهمزة: الذي همز الناس بيده. واللمزة: الذي يلمزهم بلسانه. أو الهمزة: الذي يهمز الذي يلمز في وجهه إذا أقبل. واللمزة: الذي يلمز في خلفه إذا أدبر. أو الهمزة: الذي يعيب الناس جهراً بيد أو لسان. واللمزة: الذي يعيبهم سراً بعين أو حاجب».

ولو لم تكن صيغة السخرية قبيحة وشائنة لما اتصف بها الكفار في استهزائهم بنبي الله نوح عليه السلام، قال تعالى: «وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ»[هود/‏‏38، 39]، ولو لم تكن قبيحة لما كانت وبالا على المستهزئين يوم القيامة وسببا لولوجهم النار، قال تعالى: «قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ، رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ، قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ، إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ، فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ، إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ»[المؤمنون/‏‏106-111].

وقد حذر الله تعالى من الاستهزاء بالأنبياء والمرسلين وعد الهازئ جاهلا قال تعالى في قصة البقرة: «وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ»[البقرة/‏‏67].

فالاستهزاء قرين الجهل لأن صاحب المعصية لا يدري ما يقع له من هذا الاستهزاء ولا ما يصيبه من بلاء في الدنيا والآخرة، فبلاء السخرية لا يقتصر على الشخص بل يعم المجتمع وكفى عارا بالمستهزئ أنه وصف دقيق للكفار والمجرمين، فقد كان كفار مكة يُمعنون بالسخرية من المؤمنين بنعتهم بأقذع الألفاظ وأشدها إيلاما، قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ، وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ، وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ ، وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ ، وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ»[المطففين/‏‏29-33].

وكان شيوخ قريش يطلبون من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعد عنه الضعفاء والموالي، وألا يتساووا معهم لكن القرآن جاء صريا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يلتزم مع المؤمنين ويصبّر نفسه معهم لأن الكفار لا يريدون من هذه التنازلات إلا مزيدا من المهاترات التي لن تفضي إلا إلى عنادهم وإصرارهم على الكفر، قال تعالى: «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا»[الكهف/‏‏28].

وقد كان المشركون والمنافقون يستغلون أي حادثة أو واقعة للنيل من المسلمين كالتنقيص من أعطياتهم أو صدقاتهم أو مساعداتهم بمختلف وسائل الاستهزاء والسخرية التي يبقى أثرها في الصدور طويلا وجرحها في القلوب شديدا لا يكاد يندمل أو يذبل لولا لطف الله تعالى وتنبيه للمؤمنين ألا يركنوا لهؤلاء الحاقدين وألا ينظروا إلى سخريتهم وحسدهم إلا تصبّرا واقتناعا أنهم ما أوذوا إلا لأنهم يحملون مشعل النور الذي سيظهر قريبا بسبب البقاء على المبدأ، قال تعالى: «الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»[التوبة/‏‏79].

ويوم القيامة يصور الله تعالى مشهد الساخرين وحسرتهم وخسارتهم، قال تعالى: «أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ»[الزمر/‏‏56].

وأعظم السخرية أن يسخر الإنسان من الدين ويعتقد أنه محض افتراء وأن القرآن سحر أو ادعاء أو أساطير الأولين، قال تعالى: «يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ» التوبة/‏‏65].

وقد بلغ من وقاحة المشركين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهزئهم بأصحابه وبالنبي صلى الله عليه وسلم أن قالوا: «أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ»[الأنعام/‏‏6]، يستنقصون الضعفاء لمكانتهم وحسبهم الذي دأبوا أن يعتدوا به وينافسوا به غيرهم فلما تقدمهم هؤلاء إلى الإيمان ووعدوا بالجنة وبفتوحات الإسلام استبعدوا ذلك وأخذوا يستهزئون بذلك لأنهم كفروا بالله تعالى ولم يعوا أن الله تعالى قادر على تغيير الأحوال ورفع أناس وخفض آخرين، قال تعالى: «وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»[يونس/‏‏10].

وقال في آية أخرى بعد ما ضاق نفس النبي صلى الله عليه وسلم من تكذيب قريش له وسخريتهم من دين الله تعالى ومحاولة إيجاد وسائل أو حكايا تزيد من استهزائهم، قال تعالى: «فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ، إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ، الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ، وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ»[الحجر/‏‏94-99].

ففي هذه الآيات وعد بإزاحة رؤوس المستهزئين بالدين، وأمر بتبليغ الدعوة مهما كانت العقبات أو المشكلات، وإرشاد الرسول وقومه أن التسبيح والسجود لله تعالى يعينان على مواجهة الصعاب والصبر على لأواء الأعداء.

وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أشد النهي عن الاستهزاء أو التقليل من الآخرين أو من بعضهم البعض فعن أبى ذر قال: كان بيني وبين رجل كلام، وكانت أمه أعجمية، فنلت منها فذكرني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: «أساببت فلانا». قلت نعم. قال: «أفنلت من أمه». قلت نعم. قال «إنك امرؤ فيك جاهلية». قلت على حين ساعتي هذه من كبر السن قال «نعم، هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه».

لقد كان الرد من النبي صلى الله عليه وسلم قويا وقاصما لكل من تسول نفسه أن يستهزئ بأخيه أو يقلل من شأنه لنسب أو حسب أو مال أو جاه.

وقد وعى الصحابة والصالحون هذا المسلك وابتعدوا عن الاستهزاء وجعلوا بينهم وبين الهزؤ بالآخرين حواجز وصدودا، فروي عن عمر بن شرحبيل أنه قال: « لو رأيت رجلاً يرضع عنزاً فضحكت منه خشيت أن أصنع مثل الذي صنعه »، وعن عبد الله بن مسعود قال:« البلاء موكل بالقول، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحوّل كلباً»..

ويوم القيامة تنعكس الأحوال ويكون المؤمنون فوق الكافرين، يضحكون عليهم بسبب استهزاء الكفار بهم في الدنيا ونيلهم منهم، قال تعالى: «فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ، عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ، هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ»(المطففين/‏‏34-36).