المنوعات

ضفاف :«الأستاذ»... و«الثقافة»

13 أبريل 2017
13 أبريل 2017

ماجدة الجندي -

«هناك ما يشبه الإجماع علي أن كاتبنا الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل قد غير من صورة «الصحفي» أو «الجورنالجي»، كما كان رحمه الله يحب أن يطلق عليه، وان هذا لم يكن فقط، للذكاء والتكوين اللذين أهلاه، للمكانة، والدور، الذي لعبه طوال عقود، ولكن أيضا، لأنه بوعي وقصد، كون لنفسه، ما يمكن القول انه «تركيبة» ثقافية أصيلة لم تقتصر علي فرع معرفي دون آخر، أو بمعني أدق لن يقتصر اطلاعه على الجوانب المباشرة لنوع المعرفة الذي قد يتصور انه لصيق باهتماماته، كالسياسة و التاريخ والعلوم الاستراتيجية .

حين تواصلت معه وقتها، صارحته بأننا لن نتكلم لا في السياسة ولا التاريخ .. استدعي الآن صوته ضاحكا مستغربا، لما قلت أنني أتمني استكشاف جانبا لا يبرز من التل، واعني افرع الثقافة الأخري التي  لا يغفل أي قارئ لأدبيات هيكل السياسية، حضورها القوي في الديباجات و الصياغة الرفيعة . و من حسن حظي أنني في اكثر من لقاء سجلت، معه، لقاء انصب علي علاقته بالمعرفة أو الثقافة بشكل عام . لا اعرف ما الذي دفعني مؤخرا لإعادة الاستماع لواحد من التسجيلات، التي تبدو نوعا من السباحة أو السياحة الحرة في الهواية التي كانت مستبدة به علي مدي العمر .. هواية هيكل كانت «ملامسة» الكتب فوق الأرفف بيده .. وهذا ما قللت منه ظهور خدمة «الأمازون» و«الإنترنت» ..التي توفر الكتاب .. بل إن مساحات من السفر بالذات إلى لندن، من نصيب أرفف المكتبات.

رؤية «الجورنالجي» هيكل تجعل من المعرفة وحدة واحدة، لا يفصل بين قراءات خاصة أو قراءات للعمل .. لكن هناك قراءات يمكن وصفها بالاستراتيجية ، يدخرها لشهور الصيف، ما بين «برقاش» حيث المزرعة الخاصة وبين سواحل المتوسط سواء في إيطاليا أو ساحل مصر الشمالي . في كل الأحوال هناك احترام خاص من الأستاذ لفعل القراءة .. أو لنقل طقس يليق بالقراءة .. لم يكن هيكل يقرأ إلا وهو في كامل ثيابه، جالسا منتبها، حتي لوكان يطالع «مجلة» أو «جريدة» .. عليك أن تستنتج « القيمة » أو «المكانة»، التي  كان الأستاذ يضفيها علي المعرفة وأيضا الجدية في تعامله مع القراءة، أيا ما كان يقرأه . الثقافة من وجهة نظره رحمه الله كانت « ضفيرة» واحدة، متكاملة وهو المفكر السياسي والمؤرخ وكاتب الاستراتيجيات، كان الإبداع الروائي والشعر و الفنون و الاقتصاد، من مكوناته .. المهم انه لا يتعامل في أي من هذه الأفرع إلا مع «الأصيل»، لا يستنزف طاقته ولا يضيع وقته مع «المقلدين» أو «الناقلين»، ولا أذيع سرا أن قلت أن تسجيلي حوى نوعا من التقييم للخارطة الروائية العربية كان في منتهي الدقة، وان كنت احتفظ بتفاصيله، ولا يمكن أن أغفل ما فاجأني به الأستاذ من مواقف، لما كان خجله يمنعه  من مصاحبة بعض روائيين يهدونه أعمالهم، يتفاجأ أنهم ناقلون من أصول أجنبية قرأها هو!!

لابد وان اعترف ان محاولتي استكشاف هذا الجانب من «الأستاذ»، استهدفت ولوجا إلى جوانب اكثر حميمية من الشائع أو الذي نعرفه أو كنا نستشفه من أعماله، والذي تبين منه ان «فعل القراءة» كان بمثابة الافتتاح والتدشين لأي يوم في حياته، وأيضا الختام لأي يوم فالكاتب كان من وجهة نظره « قارئ» جيد أولا. كان يحتفظ بعناوين بعينها على مقربة من فراشه في حجرة النوم، وهذا لم يكن يعني بأي حال انه يقاربها في غير ما تعوده من كامل التأهب من حيث الملبس، ربما فقط طالع فوق مقعد مريح و أسر لي ببعض التفاصيل: «لا أعترف أبدا بمبدأ القراءة في الفراش.. اعتبره مهينا لما أقرأه، ولا أتمنى أن يقرأ لي أحد في الفراش» ولذلك احتفظ الأستاذ بمعالم احترامه لفعل القراءة أينما كان يقرأ و في أي توقيت كان يقرأ فيه .. قال لي حرفيا «أبدا يومي بالقراءة وأنهيه أيضا بالقراءة»، فماذا يفعل الكاتب غير أن يقرأ ويسمع و يطلع اكثر مما يكتب؟ غير أني أفصل ما بين القراءة الخاصة وقراءة العمل، واحرص على نوع من «التوازن» بين العناوين كي تتوازن «الجرعة»، وتتكامل. كان هيكل يقرأ في السيارة وهو في طريقه إلى ملعب الجولف، رياضته المفضلة، التي كان يأخذ طريقه إلى ملاعبها نحو السادسة إلا ربع صباح كل يوم .. يمنح أذنه إلى إذاعة البي بي سي لمدة «ربع ساعة». هذا مفتتح اليوم من زاد القراءة، الذي يليه ما تكون السكرتارية قد جهزته، ليقرأه وعادة ما كان كل تقارير الصحافة الإسرائيلية، ومراكز الأبحاث الخارجية. وهنا لابد وأن يتساءل القارئ: وماذا عن الجرائد والصحافة العربية؟ هذه كان موعدها فترة ما بعد الظهيرة، لا يحملها إلى البيت ويقرأها في المكتب. ربما بعد الغذاء يتخذ جلسته فوق «مقعد وثير» بصالون البيت، يطالع البرقيات و«الحاجات السهلة» وهذا ليس كل شيء.

الأسبوع القادم، مزيد من الولوج إلى تخوم الأستاذ الثقافية .