أفكار وآراء

نماذج أوروبية وآسيوية فعّالة لترشـيد استهلاك المياه !

12 أبريل 2017
12 أبريل 2017

مارتن ستافينهاجن وآخرون -

ترجمة - قاسم مكي -

ستريتس تايمز (سنغافورة) -

سترفع سنغافورة أسعار استهلاك الماء لأول مرة خلال 17 عاما. لم يتم حتى الآن طرح تفاصيل الزيادات المقترحة للنقاش. ولكن الأهداف واضحة وهي الحفاظ على المياه من خلال تقليل استخدامها وجمع الأموال اللازمة لإنشاء وصيانة بنياتها الأساسية وضمان الوفاء باحتياجاتنا من المياه في المستقبل. حتما سيثير هذا القرار بعض الجدل. لقد نوه مؤيدوه إلى الحاجة لضمان أمن المياه في المستقبل الذي يتوقع أن يتأثر بالتغير المناخي ويشهد فترات جفاف أطول وأكثر حدة. ولكن يخشى آخرون من أن يؤدي هذا القرار إلى زيادة تكاليف أنشطة الشركات ويتساءلون إذا كان في مقدور الأسر الفقيرة احتمال آثاره. إن التركيز على إدارة الطلب بمعنى خفض كمية الماء التي يستخدمها الناس بدلا عن إضافة إمدادات جديدة ومكلفة يبدو معقولا. ولكي نفهم لماذا يعتبر ذلك شيئا صائبا، دعونا نتعرف على الكيفية التي عالجت بها المدن في أوروبا متاعب المياه. فالمدن الأوروبية ناجحة جدا في توفير الماء. في دراسة مقارنة حول استخدام المياه في 40 مدينة أجرتها منظمة بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية عام 2015، كانت المدن العشرة الأقل استهلاكا للمياه للأغراض المنزلية من بلدان الاتحاد الأوروبي حيث تراوح معدل استهلاكها بين حوالي 130 لترا إلى 100 لتر للشخص الواحد في اليوم. وللمقارنة يصل معدل استهلاك الفرد في سنغافورة إلى حوالي 151 لترا يوميا. وفي حين تشترك كل هذه المدن في تطبيق نفس الضوابط التنظيمية الأوروبية لحماية المياه والمحافظة عليها، إلا أنها تملك مجالا واسعا من الحرية في اختيار الطرق التي تحقق بها تلك الأهداف. إن معظم إمدادات المياه التي تقدمها شركات خدمات المياه في أوروبا تستخدم منزليا. لذلك طورت المدن كل منها على حدة مقاربات منفردة ومصممة لسياقات محددة وخاصة بها. وتتميز من بينها في نجاحها ثلاث مدن هي:

أولا، برلين (عدد السكان 3.5 مليون نسمة.) لقد كان على برلين أن تتعلم المحافظة على المياه بأشق الطرق وأصعبها. فبعد تقسيمها في نهاية الحرب العالمية الثانية وبناء جدار برلين عام 1961 وجدت برلين الغربية نفسها وعلى مدى يقرب من 40 عاما مجبرة على الاعتماد على موارد المياه الموجودة في المنطقة التابعة لها فقط . لقد جعلها ذلك تتبنى في وقت مبكر سياسة إعادة تدوير استخدام المياه ودورة المياه المغلقة، وذلك على نحو شبيه بما تفعله سنغافورة. أما في برلين الشرقية الاشتراكية، فقد كان يتم توفير إمدادات المياه بدون قيود وبتكلفة لا تذكر. وبعد إعادة توحيد المدينة في عام 1989 وإندماج هيئات توزيع المياه في برلين الشرقية وبرلين الغربية، ارتفعت الأسعار من 0.13 يورو ( في برلين الشرقية) إلى متوسط 1.69 يورو للمتر المكعب بالإضافة إلى رسوم توصيل سنوية. أدى ذلك إلى هبوط حاد في الاستهلاك المنزلي للمياه من 200 لتر (في برلين الشرقية) و156 لترا (في برلين الغربية) للفرد إلى 113 لترا للفرد (في برلين الموحدة) اليوم.

ثانيا، كوبنهاجن ( عدد السكان 1.3 مليون نسمة.) كانت توجد مستويات تلوث عالية جدا في كوبنهاجن في أعوام الستينيات بحيث ان الأسماك الميتة في البحيرات والأنهار والمناطق الساحلية المحيطة كانت تعتبر مشهدا عاديا. أما اليوم فالمياه نظيفة إلى درجة أن سكان كوبنهاجن يمكنهم السباحة في منطقة ميناء المدينة. ومثلها مثل سنغافورة، جعلت كوبنهاجن من بين أولوياتها تمكين مواطنيها من استخدام قنوات المياه لأغراض الترفيه. كما ابتدرت كوبنهاجن حملة للمحافظة على الماء تحت شعار(حد أقصى 100 لتر.) وتوشك هذه الحملة أن تصل إلى هدفها وهو 100 لتر للشخص الواحد في اليوم. فقد ساهم رفع سعر الماء (بما في ذلك معالجة مياه المجاري) من 3.46 يورو إلى 5 يورو في العشرين عاما الأخيرة في التقليل من استهلاك المياه بأكثر من 20% إلى 104 لترات للشخص الواحد في الوقت الحالي.

ثالثا، سرقسطة ( 650 ألف نسمة.) تقع هذه المدينة في إقليم مناخ شبه صحراوي شمالي إسبانيا وظلت تقليديا تكافح الجفاف وندرة المياه. وبعد أن فرض جفاف شديد القسوة في أعوام التسعينات وجوب استحداث قيود على استخدامات المياه، قررت المدينة التحرك. وطبقت برنامجا ضخما يمتد إلى 15 عاما (لا يزال ساريا حتى الآن). يستهدف هذا البرنامج المواطنين والمدارس والهيئات الحكومية ومنشآت الأعمال الصغيرة والصناعة. بموجب هذا البرنامج، يمكن لسكان المدينة الحصول على أجهزة مدعومة لترشيد استهلاك المياه. وتم تعديل نظام الرسوم لمعاقبة من يفرطون في استخدام الماء. وفي عام 2010، تفاوتت أسعار الماء التي يلزم أن يدفعها أصحاب المنازل بين 0.43 يورو لكل متر مكعب بالنسبة لمستهلكي الحد الأدنى أو الكميات القليلة من المياه إلى 2.50 لمستهلكي الحد الأعلى أو الكميات الكبيرة من المياه مع خصم في الأسعار للعائلات المستحقة. وحين فرضت المدينة على سكانها تحديا تمثل في توفير مليون لتر من المياه التي يستهلكونها، تجاوزوا هذا الهدف في أول عام حيث وفروا ما نسبته 5% من الاستهلاك المنزلي السنوي للمياه. ومنذ عام 1997 انخفض استهلاك المياه في سرقسطة من 150 لترا إلى 96 لترا للشخص الواحد في اليوم الآن.

إن التحديات التي تواجه سنغافورة شبيهة بتلك التي واجهت هذه المدن وهي النمو الحضري المستدام ومحدودية المساحة ومهددات تلوث المياه وتزايد الجفاف وما ينتج عن ذلك من ندرة المياه وانعدام أمنها. لذلك تحتاج سنغافورة، مثلها مثل هذه المدن تماما، إلى حلول خاصة بها لمعالجة أخطار عدم توافر المياه الكافية. وكما يتضح من نماذج هذه المدن الثلاث، تلعب رسوم استخدامات (استهلاك) المياه دورا هاما في توضيح قيمة المياه لمستخدميها. إنها تلفت الانتباه إلى ندرتها وتحض على المحافظة عليها. لكن هذه الرسوم تكون أفضل أداء وأكثر نجاعة إذا رافقتها إجراءات أخرى مثل حماية موارد المياه والاستثمار في البنيات الأساسية والعمل في تضامن مع المواطنين وبث الوعي بإجراءات المحافظة على المياه ودعوة المجتمع للمشاركة. إن الرسوم، في النهاية، أداة واحدة فقط لتسليط الضوء على حقيقة بسيطة هي أن المياه غالية وعزيزة. وتحديد هدف معين للمحافظة على المياه يشترك في تحقيقه جميع السنغافوريين سيساهم في جعل سنغافورة مدينة «آمنة مائيا» في المستقبل.

•اشترك في كتابة المقال كل من مارتن ستافينهاجن باحث مشارك في معهد سياسات المياه بمدرسة لي كوان يو للسياسات العامة وجوست برمان وسيسيليا تورتاجادا باحثين في نفس المعهد.