الملف السياسي

في رحلة .. «البحث عن البقاء»!!

10 أبريل 2017
10 أبريل 2017

محمد حسن داوود -

,, الرمزية في اختيار قمتي روما والبحر الميت لا تعني بالتأكيد الوقوف عند تقييم أعمالهما ونتائجهما، ولكن المراد في الغالب التطرق إلى تقييم تاريخ طويل لمؤسستين إقليميتين جماعيتين هما الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية، بحثا عن ظروفهما التاريخية وتحديات الحاضر والمستقبل وكيفية تصدي كل مجموعة لها ,,

الربط بين القمتين في واقع الأمر يتسم بالذكاء الشديد لجملة من العوامل على رأسها تشابك القضايا والأزمات القائمة وانعكاسات تداعياتها وتطوراتها على الجانبين عبر ضفتي «المتوسط» وأيضا لوجود ارتباط شديد في جملة من المصالح الاقتصادية والثقافية والأمنية حيث أثبتت تطورات عديدة أن التعاون بين الكتلتين أمر لا مفر منه، بل إنه في حاجة إلى مزيد من الدعم والترابط نظرًا لخطورة التحديات المشتركة أمامهما وحتمية العمل الجماعي لإيجاد الحلول والبرامج التي تساعد على تحقيق حالة من الاستقرار الأمني والسياسي الدائم، وواقع الأمر أنه رغم الاختلافات بين التجربتين العربية والأوروبية، فإن التباينات في المواقف ووجهات النظر لا يشكل عائقا كبيرا أمام ترسيخ التعاون والتلاقي بينهما في المجال الاقتصادي وفي مواجهة التحديات والتهديدات المشتركة، خاصة في مرحلة ما بعد قمتي عمَّان وروما اللتين كانتا بمثابة وقفة للمراجعة وإعادة ترتيب الأولويات وتعريف المشكلات ووضعتا خطوات محددة للتعامل معها وهو ما يمكن من بناء أرضية مشتركة بين الجانبين في ظل وجود رغبة وإرادة حقيقية من جانب الطرفين خاصة الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية في تفعيل العمل المشترك بينهما، لكن من المهم ترجمته إلى خطوات ملموسة على أرض الواقع وألّا يقتصر التعاون بينهما بصورة انتقائية ووقتية تفرضها متغيرات الواقع وتحدياته، كما حدث في تجارب التعاون السابقة ولذلك لم تحقق النجاح المنشود، ومن هنا تبرز أهمية قمتي روما وعمَّان في وضع العلاقات العربية - الأوروبية في مسارها الصحيح الذي تفرضه المصالح والتحديات المشتركة.

هذا إطار عام لتوصيف الواقع الأوروبي - العربي العام، إلا أن المقارنة قد تكون مطلوبة لتحديد آليات عمل كل كتلة على حدة والتحديات النوعية التي تواجههما والتي كشفت عنها القمتان الأخيرتان ويمكن القول إنها هيمنت عليهما بشدة لدقة المرحلة وخطورة الموقف نظرًا لأنها تحديات حاسمة من نوعية «نكون أو لا نكون» ولذلك لا مبالغة في اعتبار القمتين محاولة جادة في رحلة «البحث عن البقاء» بعد بروز مخاطر جسيمة تهدد كيانهما والعمل المشترك الذي قاما على أساسه، فعلى الصعيد العربي ليس خافيا حجم الخلافات السياسية الجسيمة بين أطراف الأمة نتيجة الصراعات والحروب الأهلية في عدد من دولها كسوريا والعراق وليبيا واليمن وتوترات متصاعدة في دول أخرى كالسودان ولبنان وتونس، وغيرها بدرجة أو أخرى.

هذه الحروب واكبتها اختلافات وتباينات في المواقف والآراء والتوجهات إلى الحد الذي فجر خلافات سياسية بين أطراف عربية إلى درجة القطيعة مما جعل العمل العربي المشترك في مهب الريح لولا الحدود الدنيا من الاتفاق على أسس تسوية بعض المشكلات وكذلك الحرص الشديد على التوافق على القضية الفلسطينية والتمسك بثوابتها.

بينما جاءت قمة قادة دول الاتحاد الأوروبي في روما للاحتفال بالذكرى الستين لاتفاقية روما التي أرست إنشاء هذا الاتحاد لمواجهة تحديات مماثلة ولكن في «ثياب» مختلفة، بهدف التركيز على الوحدة والمستقبل المشترك بمواجهة أجواء الانشقاقات والتيارات الشعبوية المناهضة للعملية الأوروبية وكذلك قبل أيام من إطلاق عملية خروج بريطانيا من الاتحاد والذي شكل ضربة قاسية لدوله، وجاءت موضوعات البحث متنوعة بتنوع القضايا والتحديات من البريكست إلى موجات الهجرة إلى الأزمة الاقتصادية إلى الإرهاب إلى الانغلاق القومي، وسط سؤال أساسي فرض نفسه هو، هل بات الاتحاد الأوروبي بدوله الـ27 مهددًا بالفعل بالاندثار بعد ستين عاما على إطلاق ست دول منه هذه الفكرة الوحدوية بعيد الحرب العالمية الثانية؟ والإجابة هي اتفاق الجميع على اختلاف انتمائهم على أن الاتحاد الأوروبي يجتاز اليوم أسوأ أزمة له منذ إطلاق اتفاقية تأسيسه في الخامس والعشرين من مارس 1957 في روما، وليس أدل على ذلك من تصريحات رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر الذي أكد أنه «لم يعد من الممكن أن نتصور أننا سنكون قادرين جميعنا على أن نفعل الشيء نفسه معا» داعيا إلى «أوروبا بسرعات متفاوتة».

ولكن جاءت التأكيدات في الوقت ذاته على إبراز التصميم لجعل الاتحاد الأوروبي أقوى وأكثر صمودًا عبر تعزيز الوحدة وتوثيق التضامن والتشديد على «اتحاد لا ينفصم» ردا على البريكست، وأعرب يونكر عن اعتقاده بأنه يجب أن تطلق قمة روما بداية فصل جديد من اجل أوروبا موحدة، إلا أن القادة الأوروبيين يدركون تماما انه بعيدا عن الكلمات المنمقة الجميلة، لا بد من أن يقترب الاتحاد الأوروبي من مواطنيه إذا أراد إنقاذ نفسه، كما قال رئيس البرلمان الأوروبي انطونيو تاجاني في مقال له في صحيفة «لوموند» وهذه هي الطريقة الفعالة لمواجهة الشعبويين من أمثال زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية اليمينية المتطرفة مارين لوبان، التي تدين باسم الشعب «الانحرافات التوتاليتارية» للاتحاد الأوروبي وتدعو للخروج منه.

وفي محاولة لتجديد دماء الاتحاد وفي سبيل دفع المشروع الأوروبي، كشف رئيس المفوضية الأوروبية في «كتاب أبيض» المستقبل الذي يتصوره لمرحلة ما بعد البريكست، ومن بين السيناريوهات المقترحة أن يقوم الاتحاد الأوروبي بـ«التمحور» حول السوق الموحدة، آخذا بعين الاعتبار أن الدول الأعضاء غير قادرة على إيجاد مساحة توافق مشتركة بشأن عدد متزايد من المجالات، وهناك سيناريو آخر يقترح على العكس «القيام بأمور مشتركة اكثر»، وصولا إلى قيام دولة اتحادية، وزيادة تقاسم الكفاءات بين الدول الأعضاء، وتسريع آلية اتخاذ القرارات الخاصة بالاتحاد الأوروبي، وبين هذين الخيارين هناك اقتراحات وسطية لم تتضح بعد تماما مثل قيام أوروبا «بسرعات متفاوتة» وهو اقتراح تؤيده ألمانيا وفرنسا، بشكل يتيح للدول التي تريد القيام بأكثر أن تفعل ذلك مع بعضها البعض في شؤون الدفاع والأمن مثلا أو بالنسبة إلى الاتحاد الاقتصادي والنقدي، إلا أن ذلك قد يزيد الانطباع بأن الاتحاد الأوروبي عبارة عن «نظام معقد» ما سيجعله أكثر فأكثر نظاما «غير قابل للفهم» بالنسبة لنصف مليار أوروبي. وكذلك فإن قيام اتحاد بـ«زخم متنوع» أو بـ«سرعات مختلفة» يصطدم برفض من دول أوروبا الشرقية والوسطى التي تخشى إخراجها من نادي الكبار بسبب معارضتها للكثير من مشروعات بروكسل، والدليل على ذلك الخلاف بين دول الاتحاد الأوروبي وبولندا خلال القمة الأخيرة للاتحاد خشية تحول بعض الأعضاء لدول من الدرجة الثانية، وبين مقترحات عدة وقّع قادة الدول الـ27 «وثيقة روما الجديدة» الساعية إلى إعادة إطلاق جناحي الاتحاد بمبادئ جديدة تستند إلى «مكافحة الفقر» و«منح الثقة للمواطن الأوروبي». وتضمنت الوثيقة سطورا تختزل الجهود الرامية إلى إحياء الاتحاد لمواجهة التحديات التي تمثلها أخطار قائمة.

وورد في الوثيقة: اليوم نحن أكثر وحدة وقوة مما مضى ويستفيد مئات الملايين من مواطنينا من إيجابيات اتحاد واسع تجاوز الكثير مما كان يفرق بيننا، كما تضمنت أيضا تأكيد الرغبة في مواجهة التحديات الكثيرة التي يفرضها التحول السريع والعميق لعالم اليوم، وظهر هنا تأكيد على جعل الاتحاد أكثر قوة ومنعة باستمرار عبر تضامن كامل بين الأعضاء وبالاحترام للقواعد المشتركة، كما شددت الوثيقة على مبدأ الوحدة حتى في حال التحرك بسرعات متباينة وركزت على أربعة أهداف رئيسية هي تحقيق أوروبا آمنة يتمكن فيها المواطنون من التحرك بحرية كبيرة ويتم خلالها ضمان أمن الحدود الخارجية والخروج بسياسة فاعلة لمواجهة ظاهرة الهجرة، ومكافحة الإرهاب والإجرام المنظّم، كما تم تأكيد ضرورة أن تكون أوروبا قادرة على تحقيق النمو وزيادة في فرص العمل وأوروبا فاعلة على صعيد الضمانات الاجتماعية، وأوروبا قوية وحاضرة على مسرح السياسة الأوروبية. وبمثل هذه المواقف القوية والرؤية الشاملة أبدت الدول الأوروبية حرصها الشديد على استمرار العمل في إطار وحدوي رغم التحديات الجسيمة وبأفكار جديدة وشاملة في مختلف المناحي، يساعدها على ذلك بالقطع الطبيعة المؤسسية للاتحاد والنظم السياسية الديمقراطية المستقرة لدوله والتي تستطيع التكيف مع كثير من المواقف والأزمات الطارئة والعارضة بكثير من التحضر، وحتى لا نندفع نحو حالة من جلد الذات فمن الأفضل عدم المطالبة بواقع للعمل العربي الجماعي يضاهي العمل الأوروبي المشترك لأسباب كثيرة، إلا أن ما أظهرته قمة البحر الميت من رغبة في الخروج بمشاهد مشرفة تؤكد أن هناك أسسا يمكن البناء عليها وأن الكيان العربي الذي تم تأسسيه عام 1945 بات بحاجة إلى تطوير دماء فكرية وسياسية وإطلاق آليات جديدة تجاري العصر قبل الوصول لحالة تصلب شرايين تامة وانسداد كامل في آفاق العمل المشترك.