979631
979631
شرفات

استطيقيا شعر التفعيلة بين الأسئلة ومحاولات الوصول

10 أبريل 2017
10 أبريل 2017

قراءة في قصيدة (لا مناص) لمنال النوفلية -

منذ أن منح العلامة قدامة بن جعفر الشعر تعريفه الشهير (كلام موزون مقفى)، ذلك التعريف الحاسم والذي إن زاد عليه المتقدمون محاولين إضافة وإدراك الجوانب الأخرى للشعر، وقد استقر مفهوم وموضوعات الشعر بطريقة أصبحت شبه آلية بناء عليه، فغدا النقد بدوره يدور في حلقة التصويب والشرح والإيضاح، إلا أن حركة الشعر الحداثي منذ أواخر القرن الماضي حلحلت هذه الحالة الراكدة، والتي بدأت إرهاصاتها مع الرومانتيكية، غير أنها كانت حاسمة مع ظهور شعر التفعيلة.

لذا فمن قبيل تسطيح الحركة الحداثية للشعر أن نحسرها في التحولات الإيقاعية وموسيقى الشعر من ضوابط البحر إلى ضوابط التفعيلة، وعليه أحدث ذلك تلك البلبلة الشديدة، والريبة والشك الأشد نحو الحداثة الشعرية، نظرا لغياب الوعي والفهم العام للرؤى الفلسفية والجمالية (الاستطيقا)، ما يعني الضبابية في تماسنا مع الحداثة الشعرية، ومع ذلك مضت الحداثة إلى أبعد ما يكون تاركة القارئ والناقد معا حتى بتنا فيما يسمى عصر ما بعد الحداثة.

إن أهم ما أحدثته الحداثة الشعرية تلك التحولات الهائلة في قضايا عدة، لم يتحملها عقل المثقف العربي (في الكثير من المواقف) فضلا عن القارئ العادي لها، وبهذا يتوجب على الحركة النقدية القيام بدورها في الولوج وبقوة لبيان التحولات، والتي ظهرت على هيئة تساؤلات مشروعة لفهم ووعي أوسع لماهية الشعر ذاته، ليس من ناحية البنية اللفظية (كلام موزون مقفى) بل في جوهره الذي أسقط بدوره شكل القصيدة العمودية ذات الإبعاد الإقليدية (نسبة إلى إقليدس) والتي لا تقبل التناقضية وكذلك مضمونه. فالشعر كما يعبر عنه (ميخائيل عيد) في كتابه (أسئلة الحداثة بين الواقع والشطح) تفجر طاقة الروح وحنين المنفصم إلى الالتحام، والشعر بذاته أو الشعر الصافي هو التفجر المطلق أو الاحتراق الذي لا بقايا بعده.

فالنص الشعري بذلك ليس انعكاسا للواقع في ذات المبدع ليعاد تشكيله، بل هو إعادة صياغة العلاقات بين الذات المبدعة والتجربة المعاشة، أو هو الوجود في ذاته، وهذا ما نجده في نص (لا مناص) للشاعرة منال النوفلية، حيث إعادة تشكيل العلاقة وتماسها بالتجربة لا وصفها ووصف انعكاسها داخل الذات، حيث تعاد تشكيل الواقع بل هو إعادة لفهم التجربة من خلال الانفصام ومن ثم الذوبان فيها حد الانتهاء، ولعل النص الموازي أو عتبة النص/‏ العنوان (لا مناص) دال وبحدة على شكل التجربة ذاتها والاتصال بها.

وهذا بالضبط ما يقودنا إلى فهم أوسع لقضية الطبع والصنعة في الشعر حيث الرفض لصفة الصنعة العقلية لتشكيل العلاقة بين الذات والتجربة/‏ الوجود ورسمها لما يقتضيه المثل الأعلى لمثل هذا الجانب في الشعر المحافظ (الكلاسيكي)، فالنص كما يقول عنه أندريه موروا إن العمل الفني الذي يبلغ في إتقان صنعته هو عمل فني سيئ الصنع)- بول فاليري/‏ تأملات في الفن.

إذا هل سقطت الصنعة، وبات الشعر انطباعي أو هو اتصال حد لا بقايا بعده؟، وعليه يمكن لنا محاولة فهم بدايات النص المطروح حيث لحظة الاحتضار لا ما قبلها (واحتضرني في غيابة جبك اللي ما تمر سيارة البخت بطريقه/‏ ولا تدلي دلو عدل في عميقه/‏ولا مناص) فلحظة الاحتضار هي دال على الانفصال الذي يمكن لنا بعدها تناول الاتصال بالتجربة بأبعادها وأشكال تماس ذات المبدعة معها، لذا فمن قبيل التوفيق للشاعرة أنها بدأت بالنهاية لا البداية التقليدية حتى يتسنى لها كمنفصم الالتحام، ليتم التفجر الذي لا بقايا بعده، وهذا ما يمكن أن يشير إلى المدلول الحقيقي والبعد الوجداني للعنوان (لا مناص)، وهذا أيضا ما يجعلنا تفهم طبيعة السقوط للصنعة مقابل الطبع أو بمدلول أوسع من المعنى الموظف المعجمي للعنوان إلى المعنى الحدسي كي يشمل الرؤية العمومية للتجربة.

إذن هي ذات البدايات للشعر الجاهلي أو المثل الأعلى للشعر المحافظ (الكلاسيكي)، ولكن بصورة أكثر تحولا في الرؤية والرؤيا، فثمة وقوف لا على الطلل الذي هو بكاء على المصير كما عبرت عنه (سهير القلماوي) أو مواجهة القهر مثلما أشار (يوسف اليوسف) للطلل، إنما هو انعتاق من محدودية الزمان والمكان، حيث الوقوف أمام المضمون أو ثنائية الحياة السرمدية والموت/‏الانتهاء، أو ما بين (غيابة جبّك) وما بين (سيارة البخت)، لحظة تخرج من عباءة الزمن حيث لا زمن وحيث المكان يخرج هو الآخر عن حيزه المعتاد بمحدودية الطلل لحيز أرحب في عملية الاحتضار ذاتها.

فإذا كان الشعر فنا كلاميا ولم يكن كلاما فحسب فما المكونات الأخرى والتي تجعل الكلام يصير شعرا، ويخلق الشحنة الانفعالية والجو الشعري؟، وهذا أيضا ما يجعل الشعر الحداثي والحداثة تخرج ذات اللفظة الشعرية من محدودية المقاربة والموازنة بين الغرض والمعنى، إلى رحابة أوسع لمفهوم الشعرية للكلمة إذ يشير الدكتور أحمد مطلوب في كتابه (في المصطلح النقدي) إلى أن التناسب للغرض (كرؤية للشعر المحافظ من خلال قضية اللفظ والمعنى لعمود الشعر) يسقط في مقابل القدرة على إحداث التوتر في ذات القارئ جراء المساحة الواسعة بين مستويات الكلمة أو بين المستويين المعجمي والدلالي لها.

تقول الشاعرة: (واشهدوا كل الثنايا والأنام/‏ إن سكينك هنا بضلعي تنام/ ‏وإني غزة في حجارة/‏من صمود ومن جسارة/ ‏أو وطن تمحق صغاره/ ‏لجل تتوطد إمارة) فـ (سكينك/‏ ضلعي/‏ غزة/‏ حجارة/‏ تمحق) هذه الألفاظ يمكن لها أن تلعب الدور الأساسي في بنائية الصورة للذات أمام تجربة الانكسار والفشل والسقوط، حيث المسافة الواسعة والباعثة للحظة التوتر في القارئ جراء الشحنات الانفعالية التي تحملها الدلالة المعنوية لها، فتبعثها في نفس التلقي لها، فالسكين كآلة حادة (معنى معجمي) تأخذ دور المسبب للألم المستشعر والمنبثق من الصورة التخيلية لها لحظة القطع والسكون في الضلع (معنى دلالي) ما يعني انطباعية الحزن والألم الشديد لتماس الذات مع التجربة، وكذلك مع باقي الألفاظ المشار إليها، إذ تحمل التناقض الشديد بين فعل الأنا في (غزة/‏ حجارة) أمام فعل الأنت (تمحق/‏ تتوطد) هذه الدلالات توحي بأبعاد المأساة للتجربة إذ تبدو السخرية من الثنائية والتناقضية للحياة والموت، وعليه فهذه الكلمات المتناثرة استطاعت أن تبرز صورة مع تجمعها وبمدلولاتها ولتكون نسيج الصورة المؤلمة لعين التجربة في الشعر الحداثي.

ولعل التحولات الأخرى والأكثر إثارة للحركة الحداثية تنصب في تلك التحولات إلى الدرامية الشعرية، فالنص لم يعد كما عبر عنه (أرسطو) بمحاكاة بغية التطهير، بل تحول إلى شكل آخر حيث ما عناه (أفلاطون) في تحول الفن إلى البحث عمّا وراء الموضوع لا الموضوع ذاته، والمحاكاة تعني الفهم الصوري للوجود والحياة، أما ما خلف الموضوع فيعني التحول البرجستوني (نسبة إلى برجستون) حيث الوجود ليس في مفرداته بل في العلاقة بينها (فلسفة الفينومينولوجيا/ ‏فلسفة الحياة) وتوالدها وتصورها جراء الحركية لهذه المفردات وعلاقاتها ببعضها البعض، فالمحاكاة تستدعي فصل اللحظة عن سياقها الزمني والتركيز على وصفها كما هي في الذات لتصبح- إن صح التعبير- لحظة ثابتة يمكن وضعها في أطر القصيدة المحافظة، أما ما وراء الموضوع أو التصور البرجستوني/ ‏الفينومينولوجي يهتم ويركز على التتابع الحركي للمشهد ككل (كلية الصورة) ما يعني درامية المشهد، فالصورة إذن تهتم بالتتابع اللحظي للتجربة ما يعني السرد أو الحكي من خلال الصيرورة الزمنية لها، وسواء أكان السرد هنا (ديالوجا) أو (مونولوجا)، حيث الحوار بين الأنا والأنت في (الديالوج) والحوارية للذات في (المنولوج)، وهذا ما نجده في بكائية الشاعرة أو طلليتها إن شئت القول إذ تقول: (واصطدم مشدوه بآهاتي ومدهش/‏ليه كل هذي الخلايا تنمتي لك/‏ ترتمي لك/ ‏وكلها جت تنحني لك/ ‏تومي لـ طعنة فتيلك/‏ ترنو لـواحة نخيلك/‏ بعدها ضجت: دخيلك/ ‏وكل غدة بالجسد باحت وناحت/‏ سيدي لا للخلاص ولا مناص)، فالسردية والحكي مع النفس تتعدي لحظة الدهشة في الذات إلى عرض حقيقة الوجود/ ‏الحياة للتجربة، ولعل قافيتها (لك) أهم ما يربط السرد بالتجربة من جهة، ومن جهة أخرى بالتتابعية والتصاعدية الدرامية ما يكشف عن امتداد الألم المتصل والمتواصل، فالتكرار يخرج من عباءة التوكيد تماما باعتباره قافية وامتداد معناه الدلالي للمعنى الداخلي للسطر المرتبط به إلى الربط التصاعدي للمعنى داخل الذات، فـ (الانتماء/ ‏الارتماء/ ‏الانحناء/‏ الإيماء/ ‏التطلع/ ‏الضجيج) هذه المراحل التتابعية والتراتبية للمشهد يسبك الحكي في التجربة ويعضد الأثر المعنوي المطلوب لوجه العلاقة معها وعليه فالتصاعدية والتتابعية التراتبية هي ما تثير لحظة الدهشة في الذات لا الجانب الصوري (ذات المفردة) له فلا عجب إذا أن ينتهي ذلك المشهد المثير بالقرار (لا للخلاص) والحتمية في (لا مناص)، وإذا كانت الصورة هي قوام التجريب ومجاله في الشعر الحداثي، فهل للخيال دور بارز يمكن أن يلاحقه التحولات؟

إن الخيال في الشعر الحداثي يأخذ الدور القيادي في الصورة حيث أنه (المدار الأساسي للتجربة الحداثية/ ‏السوريالية فيعتمد على تخطي المرئي إلى اللامرئي)- أدونيس/‏ بين السوريالية والصوفية- في المنطقة الغائمة للنفس البشرية، حيث تماسها مع واقع التجربة يصبح الخيال بموجبها جسرا يجسد من خلاله للواقع (فالمعرفة هنا أو الرؤيا رؤيا استشراقية) أو ما يسميها بريتون (النقطة العليا) والتي تتم بواسطة القلب وبمعزل عن العقل أو ما عنيناه بسقوط الصنعة مقابل الطبع، هذه العلاقة هي ما تفسر سر اللغة الشعرية والتحولات في شعرية الكلمة من جهة ومن جهة أخرى تحول السياق والبنية للجملة بحيث لا تكون إلا إيحائية فيأخذ الرمز حيزا هاما في تشكيل الواقع الشعري للتجربة الحداثية، وبهذا أيضا يمكن لنا أن نفهم ما عناه النفري إذ يقول: (كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة)، وهذا تماما ما مارسته الشاعرة في ثلثي النص تقريبا، إذ الرمزية الأسطورية/‏ التاريخية الدينية في (في غيابة جبّك/‏ ولا تدلي بدلو) وكذلك في رمزية (وإني غزة من حجارة) مع اللغة الإيحائية يحول المشهد الشعري إلى التكثيف للمعنى الممكن للمتلقي، وحيث اتساع الرؤى له تأخذ العلاقات الضيقة لتجربة الحزن في العلاقة الغزلية إلى مساحة أوسع وأرحب للتخييل، إذ سقوط الحب والسعادة وبروز الغدر والخيانة والتحايل كأبرز وجوه المعنى في قصة سيدنا يوسف عليه السلام، والتناقض الصارخ ما بين الصمود الرائع والتحدي القوي المأساوي مع التراجع والتخاذل للآخر كعلاقة وطيدة في متناقضات الرمز الغزاوي، ولعل هذا من قبيل البراعة الشعرية المثير للدهشة في آن واحد، إذ تحول الشاعرة الرمز المأساوي التناقضي من الجانب السياسي إلى الجانب الغزلي للعلاقة المنهارة بين الأنا والأنت بأسلوب لم تشعر معه بأي فجوة أو جفاء موحش أو غرابة، لتؤكد بذلك على أهمية التوظيف الجيد للرمز كجسر ومعبر للخيال،هذا إلى جانب التحول القيمي للصورة حيث أن الصورة الشعرية المحافظة (الكلاسيكية) وبالتالي الخيال غالبا (كما يقول سعد الدين كليب في كتاب وعي الحداثة) ما يكون حسية فيما يتعلق بالظواهر الطبيعية، والذي أكد عليه وجود المثل الأعلى لها وبروز الغرض الشعري الثابت والمحدد أطره، ذلك التحول الذي نقل الصورة من هذا الجانب الحسي /‏ المادي إلى المعنوي، ما انعكس على الصورة الفنية الحسية لإيحاء معنوي، وعليه أصبح المحرض الجمالي للصورة أثر الموضوع لا الموضوع ذاته، أو قل العلاقة لا أصحاب العلاقة، ما أدى إلى تحسيس المعنويات أو العكس، فالفكرة (معنوية) والشكل المعبر عنها/ ‏الصورة (حسية) والدلالة أو الرسالة المرسلة للقارئ (معنوية).

تقول الشاعرة (وروح فتش عن بقايا جرحك الثاني معك/‏اندب هواك/‏وانحت على صخور الشغاف/‏أروع بكاك/‏واعزم جروحي كلها للاحتفال...) إلى باقي الصورة والمقطع حيث الفكرة المعنوية لأثر الغدر في الروح الإنسانية ومن ثم الندم جراء الانهدام للقصة الجميلة مأساوية النهايات، حيث لم يبق منها غير الألم والتعب وكل ما يحمل على الحزن الشديد، هذه الفكرة المعنوية والمشكلة للعلاقة بين الاثنين (الأنا/ ‏الأنت) عبرت عنها الشاعرة في صورة حسية حيث الفعل الدال على حسية الأثر (فتش/‏ اندب/‏ انحت/‏ اعزم) ثم تجمع كل هذه الأفعال الحسية في قالب أشد حسية من سابقيه حيث كبر الحيز المكاني (الاحتفال) جعل الثنائية (الخير والشر- الفرح والندم) أكثر إيحائية في السياق المعنوي لا المادي.