أفكار وآراء

المجتمع الدولي .. وجريمة « خان شيخون »

09 أبريل 2017
09 أبريل 2017

عماد عريان -

لم يمنح المجتمع الدولي نفسه فرصة لاستجلاء حقيقة الجريمة البشعة التي وقعت في«خان شيخون» بإدلب السورية، كافة الأطراف سارعت إلى الاستماتة في كيل الاتهامات أو النفي، وفي الحالتين جاءت الأسانيد واهية والدفوع ضعيفة ينقصها الإقناع على المستويات كافة

وكان من المفترض أن تمنح كل الأطراف نفسها فرصة كافية لإجراء تحقيقات دولية شاملة ومحايدة ونزيهة للوقوف على الحقيقة بكل أبعادها بدلا من تسييس الحادث ومحاولات القفز عليه لتحقيق مكاسب ذاتية، إن ما حدث في «خان شيخون» جريمة مروعة يشيب لهولها الولدان كما يقول المثل الشائع ولا يوجد عاقل واحد على وجه الكرة الأرضية يمكنه القبول بقصف الأبرياء وقتلهم بأسلحة كيمياوية محرمة، ولكن الواقع الميداني يؤكد كذلك أن الأراضي السورية تحولت إلى مرتع تعبث فيه عشرات من المخابرات الإقليمية والعالمية في إطار متشعب ومتعدد الأطراف والقوى، ثم فإن نوعية الحوادث على شاكلة«خان شيخون» يجب ألا تخضع لمثل هذه «الخفة» التي تم التعامل بها مع الحادث المروع، ويجب ألا يكون موضعا للمزايدات أو الحملات الإعلامية المبالغ فيها والتي نظن أنها أصبحت أقرب إلى الوسائل الواضحة لإيجاد مواقف معينة يمكن من خلالها بعد ذلك تمرير سياسات أو مخططات بعينها.

لقد تعرضت سوريا على مدار ست سنوات وأكثر لسلاسل من المجازر والمذابح والمآسي البشعة، تورط في ارتكابها أطراف عديدة سواء من النظام والقوى المتحالفة معه أو المعارضة والقوى الداعمة لها أو التنظيمات الإرهابية والجماعات المتفرعة من عباءتها وكذلك أطراف وقوى إقليمية وعالمية بحثا عن مصالحها الإستراتيجية العليا، ليس في سوريا وحدها ولكن على صعيد الشرق الأوسط بأكمله، ومجزرة أو مذبحة أو مأساة »خان شيخون»هي واحدة من تلك المذابح التي تقع مسئوليتها في رقاب جميع الأطراف المشار إليها, إضافة إلى المجتمع الدولي إذا ما كان الحديث عن المسؤولية الكبرى والشاملة لاندلاع الأزمة منذ البداية واستمرارها حتى اليوم ودخولها في منعطفات متعددة الأشكال والتداعيات، وإذا ما كان الحديث عن المسؤولية الجزئية لما جرى في »خان شيخون»، فأغلب الظن أن الاتهامات جميعها ستدور في إطار التخمينات والتحليلات الاجتهادية ما دامت الحقائق القاطعة غائبة مع عدم وجود تحقيقات رسمية تكشف غموض الحادث وملابساته.

فلا يكفي النفي الرسمي المشدد من جانب النظام السوري حتى يمكن تبرئته تماما من مسؤولية ما جرى، خاصة مع تعدد الروايات ما بين إطلاق صواريخ محملة بمقذوفات كيمياوية من مناطق غير معلومة أوقيام طائرات تسوخوي روسية الصنع تابعة لصلاح الطيران السوري بإطلاق الصواريخ على «خان شيخون» والرواية الروسية بقيام طائرات سورية بضرب مستودعات للأسلحة الكيمياوية تابعة للجماعات السورية المعارضة، وكذلك لا يكفي على الإطلاق الانصياع للحملة البريطانية - الفرنسية - الأوروبية والغربية عموما بتحميل قوات النظام السوري مسؤولية هذا الهجوم. حقيقة الأمر أن الاتهامات توالت بسرعة النار في الهشيم وفيما يشبه المنظومة المنسقة وكأنها اتهامات «سابقة التجهيز» ولم تغب عنها اللهجة السياسية الواضحة والرامية إلى تحقيق أغراض وأهداف واضحة المعالم لطالما سعت القوى الغربية إلى تحقيقها إلا أن ظروفا دولية وإقليمية حالت دون ذلك في أكثر من مناسبة، وعلى رأس تلك الأهداف بالقطع تحقيق تعبئة دولية غير مسبوقة ضد النظام السوري وتصعيد درجة الكراهية العالمية ضده وصولا إلى حالة من الإجماع على ضرورة خلعه وعدم منحه أي دور سياسي في التسوية المنتظرة أو مراحلها الانتقالية.

وربما كان من المهم في هذا المقام الإشارة إلى سوء الإخراج لهذه الحملة الغربية الحاشدة ضد النظام السوري، فقد بدت بالفعل كحيلة مكشوفة لاستغلال الحادث إلى أقصى درجة ممكنة وإلصاق التهم بالأسد بدون سابق إنذار أو تحقيق رسمي، وكان من الغريب أن الصيحات انطلقت من داخل بريطانيا وفرنسا على أعلى المستويات تتهم دمشق بارتكاب الحادث وتطالب بأشد العقوبات ولفظ الرئيس السوري، وحتى لا نتورط نحن بالتبعة في مثل هذه الممارسة فإننا لا ندين التصريحات الغربية ولا نرحب بها، فقط نرى أنها جاءت بدون أسانيد واضحة أو أدلة قاطعة ناجمة عن تحقيقات شفافة ونزيهة ومحايدة، وهي خطوات لها أهميتها القصوى في مثل هذا الحدث الجلل بكل تأكيد، وكذلك لاتهامات سابقة مماثلة اتضح أنها «مفبركة» وملفقة ولم تكن أكثر من « أفلام فيديو» تم تصويرها في أماكن مغلقة على طريقة أفلام «هوليوود» أو أنها لهجمات حدثت قبل سنوات في دول مجاورة تتشابه ظروفها مع الواقع السوري، ولمن يتذكر فقد أسفرت هذه الوقائع في وقتها (عام 2014 ) عن نزع الأسلحة الكيمياوية السورية، ومع تحقيق تلك الخطوة تراجعت واشنطن عن تكثيف ضغوطها لخلع الأسد، فقد كان المطلوب أمريكيا وإسرائيليا نزع أسلحته وتدمير جيشه وليس رقبته، ما يؤكد أن الخطوة كانت مدبرة لتحقيق أهداف استراتيجية عبرت عنها بوضوح الضربات العسكرية الأمريكية الأخيرة لأهداف سورية.

ومن الضروري كذلك قراءة توقيت الحادث وتداعياته، فربما تساعد في وضع المزيد من النقاط على الحروف قبل كيل الاتهامات لهذا الطرف أو ذاك، فقد وقع الهجوم المريع بعد تحقيق قوات الجيش السوري لمكاسب عسكرية كبرى تجلت مؤخرا في حلب على وجه الخصوص، ما جعل الحديث المتزايد عن استعداد دمشق لتحرير «إدلب» أمرا ممكنا في القريب العاجل، وبالتالي عندما تكون الضربة في المنطقة ذاتها فقد يبدو الأمر وكأنه تمهيد لإطلاق العلمية العسكرية المنتظرة وبالتالي يبدو الهجوم وكأنه جزء من تلك العملية، أضف إلى ذلك أن هذه العملية وقعت عشية انعقاد المؤتمر الدولي لدعم سوريا في العاصمة البلجيكية بروكسل بحضور الأمين العام للأمم المتحدة وكوكبة من ألمع السياسيين والمسؤولين من مناطق مختلفة على الصعيد العالمي، ولا شك في ان انعقاد المؤتمر وسط أجواء الهجوم على «خان شيخون» وفر أرضية مناسبة جدا لكيل الاتهامات للنظام السوري وحشد المواقف المطالبة بإبعاده، وهو ما تحقق في المؤتمر بالفعل وكأن التوقيت قد اختير بعناية لتحقيق أهدافه في الوقت المناسب لأطراف معينة، ومن ضمن معالم الدقة في اختيار التوقيت أيضا أحدث البيانات السياسية الصادرة في الأسبوع الماضي عن الإدارة الأمريكية بشأن مصير الرئيس السوري بشار الأسد والذي وضع قبل أيام من الهجوم كثيرا من النقاط على الحروف، وعلى وجه التقريب حدد بوصلة التسوية السياسية المنشودة بجعل النظام السوري جزءا من الحل بدلا من اعتباره أساس الأزمة والمشكلة.

وكما هو معلوم فقد أكد البيان أن رحيل الأسد - من المنظور الأمريكي - ليس أولوية بالنسبة لتسوية الأزمة السورية، ليجد ذلك اتفاقا وتناغما مع أطراف دولية كبرى وإقليمية مؤثرة تساند النظام السوري، بينما يخلط أوراق المعارضة السورية ذاتها وأطراف إقليمية وغربية أخرى كانت ترى في رحيل الأسد أولوية كبرى كطريق للتسوية ووقف العنف والقتال، وليس خافيا أنه منذ أكثر من ست سنوات على تفجر النزاع السوري واتساعه وتمدده لآفاق غير متوقعة طرحت خلالها العديد من المقترحات ومشاريع التسوية وتعددت المرجعيات ما بين جنيف والآستانة،بينما آلة الدمار على الأرض تأكل الأخضر واليابس وتدمر المدن والقرى والبيوت والأحياء وتواصل حصد الأرواح من المدنيين وتشريد ملايين الأبرياء كلاجئين ونازحين، حتى وصل الصراع كذلك إلى مشاهد مؤلمة من «التطهير العرقي» بخروج مئات الآلاف من سكان مدن ومناطق بعينها تحت وطأة المعارك والحصار الأمني والظروف القاسية. لقد أدت هذه المواقف والتطورات المدعومة بالتأكيد من جانب قوى إقليمية وأخرى عالمية دفاعا عن مصالح ذاتية إلى تعطيل المفاوضات وانسداد أفق الحلول السياسة بتفاصيل لم يكن لها فرص للنجاح منذ البداية، فبينما رأت قوى المعارضة على الصعيد السوري والفريق الداعم لها أن الأولوية المطلقة لحل سياسي يقوم على رحيل الأسد وأركان نظامه رحيلا فوريا حتى من المراحل الانتقالية ذاتها، فإن الأسد ونظامه وداعميه إقليميا ودوليا وأركان دولته رأوا جميعا أن الأولوية المطلقة للمسائل الأمنية وعلى رأسها بالتأكيد الخلاص من الجماعات والتنظيمات الإرهابية بما يفتح الباب أمام استتباب الأوضاع الأمنية وبالتالي التفاوض على أي تسويات سياسية من أرضية صلبة ومستقرة، الأمر الذي أدى إلى تعميق الفجوة بين المواقف بينما التقاعس الدولي يزيد من حجم المأساة.

إلا أن الموقف الأمريكي الأخير كان يفترض فيه أنه يفتح الباب للتفاوض انطلاقا من أسس جديدة بوجود الأسد، ليست بالضرورة في صالح دمشق ونظامها ولكنها تصب في الغالب في صالح تسوية سياسية لم تتكشف بعد كل تفاصيلها وأبعادها وأهدافها النهائية، ومن المناسب أن نتذكر تصريحات ترامب خلال حملته الانتخابية عندما أكد أنه على المستوى الشخصي لا يطيق الأسد ولكنه يرى أن التعامل معه أفضل من التضامن مع الإرهابيين، ولكن إذا كان دونالد ترامب قد أبدى استياءه من الهجوم وأعلن أنه تسبب في تغيير موقفه من الأسد تزامنا مع انطلاق صواريخ كروز الأمريكية على أهداف سورية والإعلان عن عزم البيت الأبيض بالتحرك عسكريا ضد الجيش السوري، فذلك يعني بوضوح أن الهجوم قد حقق أهدافه الخفية في النيل من نظام الأسد من خلال حادث » خان شيخون»، والأيام وحدها كفيلة بالكشف عن كل تفاصيله وملابساته الخفية قبل الظاهرة.